هل هذا هو أخطر مكان على وجه الأرض؟
مطالعات جيوسياسية - فبراير 2025

هنا يقع مثلث إيران وأفغانستان وباكستان، وهي منطقة تعُج بالحيوية، وإن كانت حيويةً للأسباب الخاطئة في الأغلب، فهنا تتحطم الحياة المجتمعية، وتُخترق الحدود بصفةٍ يومية بينما ينفذ المسلحون والجيوش عمليات سرية، وكلٌ منهم يبحث عن الفرصة التالية للاستيلاء على السلطة.

وفي السنوات الأخيرة، أصبحت المنطقة أكثر عنفاً وأقل استقراراً، لتتجاوز بذلك معدلات اضطرابها المعتادة، وقد جعلتها المناوشات المتبادلة اليوم تصنف كأخطر مكان على وجه الأرض.

  1. في يناير/كانون الثاني، شنّ المتمردون البلوش هجمات عابرة للحدود ضد إيران وباكستان
  2. ردّت القوات الجوية الإيرانية بقصف جماعات سرية داخل باكستان
  3. قصفت باكستان معسكرات معادية داخل إيران
  4. في وقتٍ لاحق من مارس/آذار، استهدفت القوات الجوية الباكستانية وحدات طالبان في أفغانستان رداً على هجوم سابق
  5. ضربت وحدة طالبانية مختلفة المواقع الإيرانية بالقرب من الحدود قبلها بعامٍ واحد
  6. في أكتوبر/تشرين الأول، هاجم الانفصاليون مطار كراتشي ليقتلوا مهندسين صينيين

وتطول القائمة، لكن هذه الوقائع تُظهر مدى تشابك حركات التمرد والمظالم المحلية اليوم، وقد صنَّف مؤشر الأمن العالمي لعام 2024 باكستان كرابع أكثر دولة متضررة من الجماعات المسلحة. بينما حلّت أفغانستان في المرتبة السادسة وإيران في الـ26.

منصة أسباب وبالشراكة مع Caspian Report، تشرح لكم في هذا الفيديو هل هذا هو أخطر مكان على وجه الأرض؟

“أشباح خراسان” في أخطر مكان

يُخيِّم شبح خراسان على الحدود المعاصرة لمنطقة آسيا الوسطى، ليردد أصداء ذكرى الإمبراطوريات القديمة، إذ كانت خراسان ذات يومٍ مركزاً ثقافياً وسياسياً غنياً، وحكمها مختلف الملوك الأتراك والإيرانيين الذين تنافسوا على الهيمنة.

لكن مقعد السلطة كان يتبدل كثيراً بدرجةٍ حالت دون ظهور أي سلطة موحدة، ونتيجةً لذلك، تحوّلت خراسان إلى نسخةٍ آسيوية من الغرب المتوحش، وفي القرنين الـ19 والـ20، أصبحت خراسان ساحة قتال بين الإمبراطوريتين الروسية والبريطانية، وسعت كل منهما للاستيلاء على المواقع الحصينة فتقدّم الروس من ناحية السهوب الشمالية.

بينما تقدّم البريطانيون من الجنوب أعقب ذلك فترةٌ من الصراع الجيوسياسي الحاد، الذي قضى تدريجياً على الهوية المشتركة لخراسان، ووجدت الدولة الأفغانية الصغيرة نفسها عالقةً في مرمى النيران، إذ سعت روسيا وبريطانيا للسيطرة عليها.

وبعد سنوات من الأعمال العدائية المتبادلة، تم توقيع معاهدة سلام عام 1893، تحولت أفغانستان بموجبها إلى دولة تابعة لبريطانيا، ورسمت معاهدة السلام التي صاغها هنري ديورند الحدود بين الهند البريطانية وأفغانستان، وذلك في شكل خط يقطع الخريطة عرضياً، ثم أطلق على الخط اسمه شخصياً.

وقد جلس ديورند في مكتبه، وحسب ببساطة أقصى مدى يمكن لنيران المشاة البريطانية بلوغه من مواقعهم في أقصى الغرب، ثم رسم الخط بناءً على ذلك، ولم يعط أي اعتبار للجغرافيا أو التاريخ أو حتى الحقائق على الأرض، بل تم التوقيع على خط ديورند وفرضه على المنطقة، لكن الاتفاق كان كارثياً بالنسبة للسكان المحليين.

إذ قسّم المجتمعات الإثنية التي عاشت معاً لقرون، وتضرر البشتون على نحوٍ خاص لأن الحدود الجديدة فصلت بلداتهم ومدنهم، بعدما كان البشتون يحكمون أفغانستان، وظلت العديد من مناطق البشتون داخل أفغانستان، لكن عدداً أكبر منها أصبح خارج حدودها، وهذا يشمل مدينة اللؤلؤ، بيشاور.

وكانت خسارة البشتون لبيشاور تشبه فقدان المرء لساقٍ أو ذراع، ولم يتمكنوا من تقبل هذا الواقع مطلقاً، والآن وبعد مضي قرنٍ كاملٍ، واصلت الحكومات الأفغانية المتعاقبة التعبير عن رفضها لخط ديورند، وما يزيد التوترات هو أن عدد البشتون القاطنين في باكستان يعادل نحو ثلاثة أضعاف من يعيشون في أفغانستان.

هل هذا هو أخطر مكان على وجه الأرض؟

ولا عجب أن هذا الأمر يثير مشاعر التحررية الوحدوية بقوة في كابول، ولهذا تزعم أفغانستان أحقيتها في السيادة على منطقتي خيبر بختونخوا وبلوشستان في باكستان، وإذا نجحت حكومة أفغانية في توحيد البشتون تحت كيانٍ سياسي واحد؛ ستزيد هيمنة العرق الذي يشكل حالياً نحو 40% من سكان أفغانستان.

علاوةً على أن سيطرة أفغانستان على بلوشستان قليلة السكان سيمنحها وصولاً إلى محيطات العالم، ويمكن لهذين الهدفين، المتمثلين في التحول إلى أغلبية إثنية والإفلات من العزلة الحبيسة، أن يشكلا أساساً لدولة أفغانية مركزية معاصرة.

وقد اشتركت في هذه الرؤية لبناء الأمة جميع الحكومات الأفغانية القديمة والجديدة، بما فيها حكومة طالبان.

عودة طالبان

ظهرت حركة طالبان في أعقاب حرب الاتحاد السوفيتي داخل أفغانستان، لتحكم البلاد من 1996 حتى 2001 بعد حربٍ أهلية، ثم تولّت الحكم مرةً أخرى منذ عام 2021 بعد الانسحاب الأمريكي، وتتجنب طالبان تقديم نفسها في العلن كحركةٍ قومية للبشتون حصراً، لكن جذور أصولها ومعتقداتها مترسخةٌ بعمقٍ في الثقافة البشتونية .

وعلى غرار الحكومات الأفغانية السابقة، تعارض طالبان خط ديورند بشدة، لدرجة أنها تستمد القوة من تلك المعارضة، إذ أن طالبان باكستان مثلاً، التي تختلف عن طالبان الأفغانية، تتواجد لهدف وحيد هو تفكيك سيطرة باكستان على خيبر بختونخوا، وهي المنطقة التي تضم مدينة بيشاور ويشكل البشتون أغلبيةً فيها.

وقد صنّفت إسلام آباد طالبان باكستان جماعةً إرهابية في 2008، ما أسفر عن اشتباكات شرسة بينهما.

  • قُتِلَ الآلاف منذ ذلك الحين
  • نفذت طالبان باكستان هجمات على المدارس
  • أخذت رهائن، وفجرت المساجد،

ومع ذلك، سنجد أن هذه الاشتباكات تُشكل صراعا غير اعتيادي إذ حظيت إسلام آباد بعلاقات وثيقة مع طالبان الأفغانية تاريخياً، لكن وتيرة تلك العلاقة هدأت بالتزامن مع تعمُّق ارتباط طالبان الأفغانية بنظيرتها الباكستانية، رغم ذلك، تقع غالبية الأعمال العدائية بطول خط ديورند، إذ تنفذ طالبان الباكستانية الهجمات، وعمليات الاختطاف، وكل الأمور المتوقعة من المتشددين.

وفي الوقت ذاته، ترد باكستان بهجمات طائرات مسيرة وصواريخ، لكنها يجب أن تحرص على تجنُّب استهداف طالبان الأفغانية أيضاً، ولهذا يُعتبر الصراع غير اعتيادي. وما زاد الطين بلة هو ظهور تنظيم الدولة الإسلامية في خراسان (أو ولاية خراسان) عام 2015، لتصبح ولاية خراسان واحدةً من الجماعات المسلحة المستفيدة من الاضطرابات.

وتتمتع ولاية خراسان بطموحات عالمية، لكنها ركزت في الغالب على قتال كابول وليس إسلام آباد، وذلك لأنها لا تعتبر باكستان جزءاً من خراسان التاريخية. وعلى كل حال، جاءت عودة سيطرة طالبان على كابول لتخيط الجراح القديمة وتفتح أخرى جديدة. وفي خضم سعيهم للهيمنة، تحالف قادة طالبان الآن مع العديد من الجماعات الانفصالية البلوشية.

  • يشترك البلوش مع البشتون في الكثير من الأمور فهم شعبٌ مُقسَّمٌ أيضاً
  • يعيش غالبيتهم في باكستان
  • يشكلون أقل من 4% من السكان رغم أن عددهم يقدر بالملايين
  • يسود إحساسٌ بالتهميش داخل المجتمع البلوشي
  • يشعر العديد منهم بأن هويته الثقافية تحت التهديد

ويمتد شعور الاستضعاف هذا إلى الجانب الإيراني أيضاً، فبعكس الإيرانيين ذوي الغالبية الشيعية، سنجد أن غالبية البلوش من السنة، ونتيجةً لهذه الاختلافات اللغوية والدينية ويُعد البلوش الجماعة الإثنية الأكثر عزلةً في إيران، ولهذا فهم الأكثر ميلاً إلى الانفصالية. 

  1. هناك جبهة تحرير بلوشستان التي تأسست عام 1964، ولها جذور مرتبطة بحركات القومية ومناهضة الاستعمار في تلك الحقبة.
  2. هناك جيش تحرير بلوشستان الذي تأسس عام 2000 كفرعٍ تابع لجبهة تحرير بلوشستان، لكنه كان مختلفاً عن منظمته الأم كونه يرفض العملية السياسية ويدعو إلى العمل العسكري حصراً وينشط كلا التنظيمين داخل باكستان بشكلٍ أساسي.
  3. يتواجد جيش العدل في إيران، وهو كيان جهاديٌ بأهداف مشابهة تأسس عام 2012، ويُعتقد أنه يتلقى التمويل من السعودية والولايات المتحدة.

وشهدت السنوات الأخيرة حصول الجماعات الانفصالية البلوشية الثلاث على أسلحةٍ ومعدات أمريكية من طالبان، وأسفرت تلك القوة النيرانية الجديدة عن هجمات أكثر فتكاً من ذي قبل، إذ استهدفت الجماعات البلوشية الحافلات والقطارات والجسور في باكستان.

وشهدت أول 10 أشهر من 2024 مقتل 624 شخصاً، مع عدد مشابه من الإصابات، وكان أغسطس هو الأسوأ بعد أن شهد مقتل 254 شخصاً في شهرٍ واحد، ويتعامل المسلحون البلوش بعدائية خاصة مع المصالح الصينية.

ففي مارس/آذار، قُتِلَ خمسة مهندسين صينيين، ثم وقع هجوم على منشأة صينية، ولاحقاً، وقع انفجار قرب مطار كراتشي أودى بحياة مهندسين صينيين آخرين، وكانت الأوضاع متوترةٌ على الجانب الإيراني أيضاً، إذ قُتِلَ 11 شرطياً إيرانياً قرب مدينة راسك العام الماضي.

وردت طهران بشن هجمات صواريخ وطائرات مسيرة داخل الأراضي الباكستانية، ما أسفر عن ضحايا من المدنيين، ولا شك أنه كان على إسلام آباد موازنة الكفة، فردت بقصف جوي داخل إيران أسفر عن مقتل تسعة أشخاص. ورغم كل ما سبق، يسعى المسلحون البلوش إلى بناء دولةٍ مستقلة تضم أجزاءً من إيران وباكستان وأفغانستان، ويُمكن القول إن تحالف طالبان مع جماعات البلوش يُعد قصر نظرٍ بسبب تضارب مطالباتهم بالأراضي، لكن القناعة السائدة تقول إنهم سيتعاملون مع تلك المسألة بعد انتزاع الأراضي من إيران وباكستان.

وفي الوقت الراهن، سنجد أن التحالف مع الميليشيات البلوشية يُعد محاولةً صامتة من طالبان للاستيلاء على خيبر بختونخوا وبلوشستان.

كل شيء هادئ في بلوشستان

تتمثل إحدى أسباب الاضطراب الرئيسية داخل هذه المنطقة في وفرة الموارد، أو ندرتها، ويُعد صراع الماء بين إيران وأفغانستان مثالاً صارخاً على هذه المواجهة.

  • تتمتع أفغانستان بقممٍ شاهقة
  • تتدفق غالبية مياهها من جبال هندوكوش الممتدة بعرض شمال ووسط البلاد
  • تغذي تلك المرتفعات الجليدية سدود البلاد الكهرومائية لإنتاج مئات الميغاوات من الكهرباء
  • تلك السدود تُقيِّد الوصول إلى إمدادات الماء الشحيحة بالفعل، لتترك بذلك آثارها الشديدة على إيران الواقعة عند المصب

ولنأخذ نهر هلمند كمثال، إذ يُعد من أكبر أنهار المنطقة، ويتدفق من أفغانستان وصولاً إلى بحيرة هامون عند الحدود مع إيران، وهناك صراعٌ ساخن حول هوية المتحكم بها ومناطق السيادة ومساحتها، ويمكن القول إن الأفغان والإيرانيين على استعداد للموت في سبيلها، وقد مات بعضهم بالفعل.

وأخفقت جميع محاولات إضفاء طابع رسمي على حقوق الماء، وأقرب شيء يمكن وصفه بالاتفاق المُلزِم هو معاهدة هلمند للماء عام 1973، والتي شكّلت أساس السياسة المائية الثنائية، إذ تنص المعاهدة على أحقية إيران في سحب 22 متراً مكعباً من ماء النهر كل ثانية، مع خيار شراء 4 أمتار مكعبة أخرى في الثانية في سنوات الأمطار العادية.

ونظراً لعدم المصادقة على المعاهدة، أصبحت مهمة إنفاذها تعتمد على حسن النوايا، وهو أمرٌ نادرٌ بقدر ندرة الماء، كما لم تكن الاضطرابات السياسية في كلا البلدين مفيدة، ومنها الانقلاب الأفغاني في 1973، والثورة الإيرانية في 1979، والحرب السوفيتية الأفغانية والاحتلال الأمريكي، وصعود طالبان وسقوطها ثم صعودها.

وقد أسفرت تلك الأحداث عن تعطيل المشروعات الإقليمية، وبالتالي غاب الاتساق عن جهود تخطيط البنية التحتية طويلة الأجل، فدفعت الجغرافيا المحلية الثمن، وتُظهر مقارنة صور الأقمار الاصطناعية لبحيرة هامون في عامي 1998 و2019 كيف يمكن لندرة المياه بهذا الشكل أن تثير الصراعات إذ اشتعلت المناوشات بشكلٍ دوري على مر السنوات.

وفي عام 1998، تصاعدت المناوشات لدرجة أن إيران حشدت نحو 200 ألف جندي على الحدود الأفغانية استعداداً لشن هجوم، وقد تراجعت إيران في النهاية، لكن الواقعة أظهرت سهولة تحوُّل النزاعات على حقوق الماء إلى صراع شامل، ولا تزال التوترات قائمةً حتى الآن.

إذ اندلعت مثلاً اشتباكات مميتة في مايو/أيار 2023 بين الحراس الأفغان والإيرانيين قرب بحيرة هامون، ولقي ثلاثة حراسٍ مصرعهم، بينما حمّل كلا الجانبين المسؤولية للآخر، ولا تكمن الفكرة الأكبر في الجدال حول هوية من بدأ ماذا، بل تكمن الفكرة في أن حدود إيران وأفغانستان وباكستان تتبدل، وإن كان هذا يحدث بوتيرة وترتيبات مختلفة لكل منها.

وقد أخفقت إسلام آباد وطهران وكابول في السيطرة على القوى الأيديولوجية والقومية والإثنية النشطة، ويبدو أن المنطقة الممتدة من شمال غرب باكستان إلى جنوب شرق إيران وجنوب أفغانستان تتحول تدريجياً إلى ساحة معركة واحدة، وتتضافر أنشطة الاتجار بالبشر، وتهريب المخدرات، مع المقاتلين الجهاديين، والميليشيات المتشددة، والفصائل الانفصالية ليندمجوا معاً في أزمةٍ أمنية ضخمة وذاتية التدمير وتأكل نفسها.

وربما يكون هذا المثلث هو أخطر مكانٍ على وجه الأرض بالفعل، لكن التهديد الأكبر سيكون وشيكاً لو استمر تصعيد الوضع، وقد تعثر الفصائل النائية على طرق جديدة لإيقاع حكومات إيران وأفغانستان وباكستان في صراع مباشر بين الدول.

يُذكر أن عدداً من أكثر الصراعات المسلحة تدميراً في تاريخ العالم قد اندلعت بسبب القوى الصغيرة، ويطلق على هذه الفكرة اسم نظرية تحريض الوكلاء، وتشرح النظرية كيف يمكن للقوى الأصغر أن تتلاعب بالقوى الأكبر أو تؤثر عليها لتدخل في صراع، وذلك عن طريق خلق مواقف تُقنع القوى الأكبر أن ترد بطرقٍ تخدم مصالح القوى الأصغر.

وإذا استمرت الأمور على حالها، سرعان ما سينفد الحظ والمنطق، ليندلع الصراع الإقليمي في النهاية، وبمجرد أن تضرب العاصفة، سيكون أوان النجاة قد فات.