في يناير/كانون الثاني مطلع 2024، تعرّضت أكبر مدينتين في أوكرانيا، كييف وخاركيف، لهجومٍ صاروخي روسي، وأُصيب 130 شخصاً على الأقل، بينما قُتِل خمسة أشخاص، لكن الهجوم لم يكن بارزاً بسبب عدد ضحاياه، بل بسبب السلاح المُستخدم، إذ شنته روسيا بواسطة صواريخ كورية شمالية، وطائرات مُسيَّرة إيرانية، وتقنيات صينية، وكان هذا أول تنسيق من نوعه على مستوى الأسلحة الدولية وقد تغيّر شكل الحرب كثيراً من ذلك الحين.
إذ تُنتج روسيا الآن نحو 330 مُسيَّرة شهرياً، وتتعاون مع إيران لبناء مصنعٍ جديد للطائرات المُسيّرة داخل روسيا، ما سيزيد وتيرة الإنتاج أكثر، وفي الوقت ذاته، تُزوِّد كوريا الشمالية نظيرتها الروسية بقذائف المدفعية، وقد أرسلت أكثر من 2.5 مليون قذيفة حتى الآن، بالتزامن مع استنفاد مخزون الذخيرة الأوكراني.
بينما برزت الصين بدورها كأهم شريان حياة اقتصادي لروسيا، فقد زاد الصينيون حجم استيرادهم للنفط والغاز الروسيين، ليضخوا بذلك مليارات الدولارات في الاقتصاد الروسي، وفي الوقت ذاته، تُزوِّد الصين روسيا بمجموعةٍ متنوعة من التقنيات العسكرية بدايةً بأشباه الموصلات والإلكترونيات ووصولاً إلى مُكوِّنات الرادار والمقاتلات النفاثة.
وبفضل هذا الدعم المتضافر من الصين وإيران وكوريا الشمالية؛ نجحت موسكو في الالتفاف على العقوبات التجارية الغربية، كما أحبطت أي محاولات لعزلها على الساحة الدولية، لكن هذا الدعم الرباعي المذكور ليس سوى غيضٍ من فيض، وتتبنى كل من القوى الأربع قيماً ومعتقدات شديدة الاختلاف عن الأخرى، لكن تضافر جهودهم معاً يجعل هيمنتهم الجماعية أكبر بكثير من مجموع جهودهم الفردية ، ولربما ينجحون معاً في إعادة كتابة قواعد اللعبة.
منصة أسباب وبالشراكة مع Caspian Report، تشرح لكم في هذا الفيديو كيف يجري بناء نظام عالم مناهض لأمريكا
“عَدُوُ عدوّي”
تهز روسيا دعائم الجغرافيا السياسية المعاصرة، إذ تتحدى علناً النظام العالمي الأمريكي الذي ظلت تنظر إليه شذراً طيلة عقود، وقد زادت وتيرة تقاربها مع الصين وإيران وكوريا الشمالية بعد ضمها لشبه جزيرة القرم.
- بين عامي 2013 و2021، ارتفعت حصة الصين في التجارة الروسية من 10% إلى 20%.
- بين 2018 و2022، صدّرت روسيا 83% من إجمالي واردات الأسلحة الصينية
- ساعدت الصين في تقوية دفاعاتها الجوية وقواتها الجوية وتحسّنت قدرات غواصاتها وبحريتها
- جدّدت روسيا علاقتها مع إيران وتعاونتا معاً لإبقاء بشار الأسد في منصبه عقب اندلاع الثورة السورية عام 2011
وبهذا مدّ الروس إيران بشريان حياةٍ وقاها من آثار العقوبات الأمريكية. وتُعَدُّ روسيا القوة المحركة للنظام العالمي الجديد المناهض لأمريكا، لكنها ليست المصدر الوحيد لتماسك المجموعة، إذ تتحول العلاقات الدبلوماسية بوتيرةٍ ثابتة إلى علاقات متعددة الأطراف، وعلى نطاقٍ واسع.
- تشتري الصين كميات كبيرة من نفط إيران، وتستثمر المليارات في اقتصادها
- تُزوِّد كوريا الشمالية إيران بتقنيات صواريخ متطورة وهي التقنيات التي ترسلها إيران إلى وكلائها اليوم
- تتمتع كوريا الشمالية بعلاقات سياسية واقتصادية وثيقة مع الصي
- لديها علاقات عسكرية ودبلوماسية مع روسيا
لكن الحرب الأوكرانية غيّرت كل شيء، إذ سرّعت تطور العلاقات الدبلوماسية، والعسكرية، والاقتصادية بين هذه الدول الأربع بدرجةٍ فاقت علاقاتها التاريخية، ونتيجة عزلها عن التجارة الغربية؛ أصبحت موسكو تعتمد اليوم على الصين وإيران وكوريا الشمالية للحصول على الإمدادات الإستراتيجية، بما فيها الذخائر، والطائرات المُسيَّرة، وأشباه الموصلات.
في المقابل، تستطيع تلك الدول التفاوض مع الروس للحصول على تنازلات تفيد اقتصاداتها وجيوشها، إذ أصبحت روسيا أكبر مصدر للاستثمارات الأجنبية في إيران، وأحد أكبر مصادر تسليحها.
وفي الوقت ذاته:
- دافعت موسكو عن إيران ووكلائها في مجلس الأمن، ولا يقدر هذا الدعم بثمن، إذ كان هذا الدعم تحديداً هو سر شعور إيران بالثقة الكافية لإطلاق يد وكلائها في أنحاء الشرق الأوسط.
- أصبحت روسيا اليوم أكبر مصادر الصين للنفط الخام، وتجاوز حجم التجارة الثنائية بينهما العام الماضي 240 مليار دولار، وهو رقم قياسي.
- زوّدت روسيا الصينيين بأسلحة متطورة، واتّسع نطاق مناوراتهما العسكرية المشتركة حجماً وتكرارية

ولا يزال الروس يتمتعون بأفضليةٍ على الصينيين على صعيد المعدات العسكرية، وهذا يشمل تقنيات الغواصات، وأقمار الاستشعار عن بعد، ومحركات الطائرات، لكن انتقال المزيد من التقنيات سيُقوِّض المزايا التي تتمتع بها الولايات المتحدة في شرق آسيا وغيرها من المناطق.
أفرجت روسيا عن ملايين الدولارات من الأصول الكورية الشمالية، التي كانت مُجمَّدة في المصارف الروسية بسبب عقوبات مجلس الأمن، وفي بادرة عرفان، زوّدت كوريا الشمالية روسيا بالذخيرة وغيرها من أشكال الدعم العسكري، ويُمكن القول إن العلاقات بين موسكو وبيونغ يانغ تزداد تقارباً.
ويتفاوض الكوريون الشماليون الآن للحصول على تقنيات متطورة ستزيد مدى ودقة صواريخهم البالستية العابرة للقارات، ما سيُقوِّض الأمن الأمريكي في منطقة شرق آسيا، ولا خلاف على أن دول روسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية تُحسن استغلال الوضع جيداً، إذ أجرت تدريبات بحرية مشتركة في خليج عمان لثلاث سنوات متتالية.
كما يخططون الآن لتنفيذ مناورات كهذه في أماكن أخرى، ويؤدي تضافر القوى بين الدول الأربع إلى تضخيم نفوذها ليتجاوز إجمالي جهودها المنفردة، وتُعَدُّ المشاعر المعادية لأمريكا القوة المُحفِّزة التي تربطهم معاً، وتغذي عملية إنشاء نظامهم العالمي البديل المزعوم، ولدى كل دولة منطقة نفوذها الخاصة.
إذ تنصب الصين شباكها حول تايوان وبحر الصين الجنوبي، بينما يعمل وكلاء إيران في سوريا ولبنان والعراق واليمن، وتزعم كوريا الشمالية أحقيتها بالنفوذ على سائر شبه الجزيرة الكورية، فيما تضع روسيا أعينها على الجمهوريات السوفيتية السابقة.
لكن العقبة الرئيسية في ساحات المعارك الأربع هي الولايات المتحدة، التي تُبقيهم محاصرين داخل مناطق نفوذهم المزعومة، ورداً على ذلك؛ تسعى الدول الأربع اليوم إلى تقويض الهيمنة الأمريكية، أي إن المتنافسين تحوّلوا -بفضل اتحادهم- إلى متعاونين.
“تقويض السلم الأمريكي”
في نهاية الحرب الباردة، ملأت الولايات المتحدة الفراغ لتُنصِّب نفسها القوة العظمى المتفوقة في العالم، وطيلة عقود، اقتصرت التهديدات للنظام العالمي الأمريكي على حفنةٍ من الدول المارقة، التي لم تملك القوة الكافية لتقويضه، لكن الأوضاع مختلفة قليلاً اليوم.
إذ أدى تعاون روسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية إلى تقليل فعالية أدوات الحكم الغربية، ويسعى هذا النظام العالمي البديل جاهداً إلى تقليل اعتماده على الدولار الأمريكي، حيث قفزت نسبة واردات روسيا بعملة الرنمينبي الصينية من 3% عام 2021، إلى 20% عام 2022.
وفي ديسمبر/كانون الأول 2023، اتفقت إيران مع روسيا على إجراء التبادلات التجارية بينهما بالعملات المحلية، ولن تكون هذه الخطوات هي الأخيرة على الأرجح، كما أنها تُحيِّد أثر العقوبات الغربية، وتُقوِّض الهيمنة الأمريكية المفروضة بالدولار.
ويجري التعاون بين الدول الأربع على الصعيد الإعلامي أيضاً، إذ لم تُدن الصين وإيران وكوريا الشمالية الهجوم الروسي على أوكرانيا، بل حمّلت الناتو المسؤولية الكاملة، وعلى النحو ذاته، لم تدن الدول الأعضاء في النظام العالمي البديل هجوم حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
ولا يجري تنسيق هذه الحرب الإعلامية على مستوى الدول الأربع، لكن رسائلها تتداخل بشكلٍ طبيعي لتصوير أمريكا كقوةٍ مُتسلِّطة تزعزع الاستقرار، وهذه إستراتيجية فعالة في الجنوب العالمي تحديداً، يستطيع النظام العالمي البديل العمل على هذه الخطط بفضل الجغرافيا، إذ تتيح الحدود والمناطق الساحلية المشتركة إقامة ممرات نقل محمية من القيود الأمريكية.
إذ تشحن إيران طائراتها المسيّرة إلى روسيا عبر بحر قزوين، وهي منطقة بحرية خارج نفوذ البحرية الأمريكية، علاوةً على توقيع إيران وروسيا اتفاقيةً لبناء ممر سكك حديدية سينافس قناة السويس، حيث سيمتد من موسكو إلى باكو قبل أن يصل إلى طهران، وفي الوقت ذاته، تعمل الصين وروسيا على تشييد بنية تحتية جديدة للنقل والطاقة تمر عبر أراضيهما فقط، وسيُتيح هذا للروس التغلب على عقوبات تصدير النفط، وذلك بنقل الإمدادات إلى الصين عبر الأنابيب.
بينما تتمتع الصين من ناحيتها بوصول مباشر إلى المجمع الصناعي العسكري الروسي، وستتضح جدوى هذا الوصول حال اندلاع صراع عسكري بين بكين وواشنطن، نستطيع القول إن أعضاء النظام العالمي البديل يتمتعون بمسارات مباشرة تربط بين أراضيهم، وقد يكون من الصعب اجتياز بعض التضاريس بين تلك الدول.
وربما تكون تكاليف البنية التحتية كبيرة، لكن بيونغيانغ تستطيع الوصول إلى طهران نظرياً عبر أراضي الصين وروسيا وبحر قزوين، هذا الواقع الجغرافي هو ما يمنح أفضليةً للنظام العالمي البديل.
وعلى الجانب المقابل، فإنه حال اندلاع صراعٍ مع النظام العالمي البديل سيدخل الأمريكيون في مواجهة ضد الموارد والقدرات المشتركة لروسيا، والصين، وإيران، وكوريا الشمالية معاً، لا شك أن هذه مجرد نظرية، لكنها نظرية لن تود أي قوة كبرى في اختبارها.
“الحرب الباردة الجديدة”
رغم الضجة الإعلامية، ليست كل الأمور ورديةً داخل صفوف النظام العالمي البديل، إذ اعتمد قدرٌ كبير من التعاون بين تلك الدول على المصالح الثنائية حتى الآن، لكن قدرتها المشتركة على فرض الهيمنة ستزيد بشدة حين تتحول تلك المصالح إلى سياسات ثلاثية ورباعية، إذ تتفق روسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية في مساعيها المعادية لأمريكا، لكن هذا الهدف المشترك لم يكن قائماً دائماً.
وفي الواقع، يُشير التاريخ إلى أن الدول الأربع اختلفت فيما بينها لفتراتٍ أطول من خلافها مع الولايات المتحدة، ففي 1941، غزا الاتحاد السوفيتي إيران وحاول استغلال الانفصاليين المحليين لإنشاء دول تابعة، كما دخلت روسيا في نزاعٍ حدودي استمر طويلاً مع الصين، قبل تسويته عام 2004.
وفي الوقت ذاته، سبق للصين وروسيا دعم الجهود الغربية لتقييد البرنامج النووي الإيراني وعزل كوريا الشمالية، ولا تزال لدى الدول الأربع تحفظات كبيرة على بعضها البعض حتى يومنا هذا، إذ تحصل الصين مثلاً على النفط الروسي اليوم بخصمٍ كبير، لأن العقوبات قضت على أي منافسة تُتيح طلب سعر السوق.
وتتضح المنافسة بين روسيا والصين بجلاءٍ في آسيا الوسطى، إذ تتنافسان على النفوذ في دول مثل كازاخستان وأوزبكستان وطاجيكستان وقرغيزستان، بينما يأتي التوسُّع الصيني في باكستان وأفغانستان على حسب النفوذ الإيراني، ويضر بمصالح إيران فعلياً.
كما يختلف واقع التحالف بين روسيا وإيران عما يُصوِّره البعض، إذ تختلف رؤية البلدين لمنطقة جنوب القوقاز والشرق الأوسط الأوسع، ورغم كل الضجة المثارة حول تعاونهما التقني العسكري، ليست المُسيّرات القتالية، والصواريخ، والأقمار الصناعية سوى مجرد أوراق مساومة في المحادثات الثنائية، وليست هناك مساعدات مجانية، فعند حدوث أي تطورٍ يضر بأحد الطرفين؛ يجري سحب أوراق المساومة التقنية العسكرية المُحتفى بها على الفور.
كما يحدث في سياسة العصا والجزرة، ومن المستبعد علاج تلك التحفظات قريباً، لكن العداء المشترك لأمريكا أثبت كونه أقوى، كما تحظى تلك المشاعر بتأثير كبير، فهناك الكثير من الدول التي تتمتع حكوماتها بعقليةٍ مشابهة، ونتحدث هنا عن بيلاروسيا، وصربيا، وسوريا، ولبنان، وإريتريا، والسودان، وفنزويلا، وكوبا، ونيكاراغوا، وغيرها من دول الجنوب العالمي.
فتخيّل ما سيحدث لو انضموا إلى النظام البديل نكايةً في الأمريكيين، وحتى في غياب القواسم المشتركة؛ لن تحتاج تلك القوى لخارطة طريق شاملة حتى تُفكِّك النظام العالمي الأمريكي، ويكفي أن تسعى روسيا، والصين، وإيران، وكوريا الشمالية لتحقيق مصالحها الخاصة في الوقت والمساحة نفسها ببساطة.
ويمكنها بدء استفزازاتها في الوقت نفسه مثلاً لتقسيم الموارد والقدرات الأمريكية، لا تستطيع الولايات المتحدة -رغم قوتها- أن تتواجد في كل الأماكن في وقتٍ واحد، وإذا اندلعت اشتباكات واسعة في إسرائيل وتايوان، إلى جانب الصراع الأوكراني الدائر سيضطر الأمريكيون للتضحية والتخلي عن بعض المناطق.
قد يبدو هذا غير عقلاني؛ لكنه حال الجغرافيا السياسية، إذ تتصرف كل دولةٍ وفق واقعٍ غير عقلاني خاص بها، لكن تلك الدول قد تتمتع بالقوة الكافية لقلب موازين العالم إذا اتحدت فيما بينها.
إقرأ أيضاً:
✚ معاهدة الشراكة الاستراتيجية بين روسيا وإيران: الضرورات أكثر من دواعي الحذر
✚ تخريب الكابلات البحرية للإتصالات.. أداة روسيا المتطورة لمهاجمة الغرب
✚ روسيا تستقبل قوات كوريا الشمالية وتربط خطوط الصراع الدولي في أوكرانيا والصين وإيران
✚ قمة الناتو في واشنطن: تأرجح بين التهديدين الروسي والصيني والاستعداد لعودة ترامب