تُظهِر هذه اللقطات معدات الهرَّاس، والجرافات، والشاحنات الإسرائيلية وهي تُمهِّد طريقاً جديداً بطول حدود مصر مع قطاع غزة وهم يبنون منطقةً عازلةً جديدة تُعرف باسم “محور فيلادلفيا“، ومن الواضح أن الإسرائيليين لا ينوون المغادرة، إليكم شكل المكان في النهار
هناك حقائق جديدة تتشكل على الأرض، وهي حقائق تُلمح إلى خطة الاحتلال الإسرائيلي النهائية لغزة، فعند النظر من زاوية أوسع:
- سنرى جيش الاحتلال يبني شبكة طرق بطول قطاع غزة
- يصل عرض بعض الطرق إلى عدة كيلومترات، فضلاً عن المنطقة العازلة بطول حواف القطاع
- سيجري تحصين هذه الطرق بنقاط تفتيش وأبراج مراقبة وقواعد وغيرها من أدوات المراقبة
- سيستخدم الجيش الإسرائيلي هذه المحاور الاستراتيجية لمراقبة أي نقطة في غزة دون الحاجة لاحتلال كامل الأرض
ويتعلّق الهدف هنا بغزة ما بعد الحرب، حين يخرج مقاتلو حماس من تحت الأرض لإطلاق صواريخهم، حيث سيتمكّن الإسرائيليون من رصدهم في غضون دقائق وشن هجومٍ مضاد، وتؤمن القيادة الإسرائيلية بأن هذه المحاور ستقلل احتمالية وقوع اعتداءات من حماس مستقبلاً، أو ستقلل الضرر الذي يمكنها إلحاقه على الأقل.
وسيصبح بمقدور المدنيين الفلسطينيين العودة، لكنهم سيقيمون على مساحات أصغر من الأرض، وستكون مناطقهم مفصولةً عن بعضها، هذه هي طبيعة الصراعات، فالمنتصر هو من يرسم الخريطة.
في الوقت ذاته، اشتعلت جبهةٌ ثانية في الشمال، حيث دخلت القوات الإسرائيلية إلى الأراضي اللبنانية، وردت إيران بإطلاق صواريخ على “إسرائيل”، من الواضح أن رقعة المعركة تتسع، لكن الخطة الإسرائيلية الكبرى لغزة تجري على قدمٍ وساق بينما الأنظار متجهة إلى جبهةٍ أخرى.
منصة أسباب وبالشراكة مع Caspian Report، تشرح لكم في هذا الفيديو ما خطة إسرائيل النهائية لغزة؟
“محور فيلادلفيا“
تخوض “إسرائيل” وحماس معركةً في العلن، لكنهما تتحركان بحذرٍ في حقل ألغام سياسي خلف الأبواب المغلقة، ويتمحور الشطر الأعظم من المفاوضات حول شكل المناطق الإسرائيلية العازلة داخل عزة والتي تأتي في صورة محاور غير قانونية.
نتنياهو متمسك بإنشاء محورين، كما يجري بناء الثالث حالياً، بالإضافة إلى محورين آخرين قيد التخطيط، وباستخدام هذه المحاور، يسعى جيش الاحتلال لفرض شكل الحياة في غزة بشكلٍ دائم، حيث ستحظى قواته بالمرونة الكافية للانتشار في القطاع بسرعة.
- يُعد محور فيلادلفيا -أو هوية المُتحكِّم فيه- من نقاط الخلاف الرئيسية في المفاوضات حتى الآن
- يأتي بطول يبلغ نحو 14 كم وعرض 100 م ليفصل بلدية رفح في قطاع غزة عن منطقة سيناء في مصر
- يمتد من البحر المتوسط وصولاً إلى معبر كرم أبو سالم، الذي يمثل نقطة التقاء غزة مع مصر و”إسرائيل”
- يضم المحور معبر رفح، الذي يمثل نقطة العبور الوحيدة بين مصر وغزة
- أُعيد فتح وإغلاق هذا المعبر بشكلٍ متكرر على مر السنوات بناءً على الظروف الأمنية.
وتنص معاهدة عام 1979 على السماح لإسرائيل بنشر قوات مسلحة محدودة في المحور بشرط ألا يتجاوز عددها الأربعة كتائب مشاة، بالإضافة إلى البنية التحتية العسكرية المناسبة، لكن لم يكن مسموحاً لإسرائيل بنشر دبابات، أو مدفعية، أو صواريخ مضادة للطائرات، لذا كانت مصر هي المسؤولة الأولى عن تنسيق عمل محور فيلادلفيا، وشكّل هذا الترتيب عنصراً أساسياً في معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية.
وفي عام 2005، سحب الاحتلال الإسرائيلي جيشه من غزة ضمن خطة فك الارتباط، وتضمن هذا الخروج انسحابها من محور فيلادلفيا، وسحب نحو 9,000 مستوطن كانوا يعيشون في 25 مستوطنة غير قانونية داخل غزة.
وبعدها تولت مصر مسؤولية محور فيلادلفيا بالكامل، ثم انضمت إليها السلطة الفلسطينية في وقتٍ لاحق، ولم يمض وقت طويل قبل توقيع مصر و”إسرائيل” لاتفاقٍ ثان سمح لمصر بنشر 750 من قوات حرس الحدود لتأمين الممر وذلك لمكافحة الإرهاب والأغراض غير العسكرية، فتوسَّعت مسؤوليات مصر وأصبحت مُكلَّفةً بمكافحة التهريب والتسلُّل.
وبعد عامين في 2007، سيطرت حماس على قطاع غزة بالكامل وأخرجت السلطة الفلسطينية من المنطقة فردت “إسرائيل” بفرض حصارٍ بري وجوي وبحري على القطاع، ولم يعد أحد يدخل غزة أو يخرج منها دون موافقة الاحتلال، بينما كانت مصر تفتح معبر رفح بشكلٍ متقطع في تلك الفترة.
ولجأت حماس إلى استراتيجية جديدة حين وجدت نفسها محاصرةً بين مصر و”إسرائيل”، فشرعت في بناء الأنفاق بين غزة وسيناء المصرية، واستخدمت هذه البنية التحتية النفقية لتهريب البضائع والأسلحة، على نطاقٍ ضخم، فبين عامي 2011 و2015، دمّر الجيش المصري أكثر من 2,000 نفق لحماس، ونحن نتحدث هنا عن الأنفاق المُكتشفة فقط.
استغلت حماس هذه الأنفاق لفرض حقائق جديدة على الأرض، ولم يعد معبر رفح هو النقطة الوحيدة لدخول غزة والخروج منها، والأهم من ذلك أن مصر و”إسرائيل” لم تمارسا أي سيطرةٍ على تلك الأنفاق، وينظر نتنياهو وحكومته إلى محور فيلادلفيا وأنفاق حماس أسفله باعتبارهما النقطة الأضعف في السلسلة التي تُطوِّق غزة.
لهذا استعادت “إسرائيل” السيطرة على المحور في مايو/أيار 2024 بعد اندلاع الاشتباكات الجارية، وهي تُصِرُّ الآن على أن تظل متواجدةً هناك لمنع حماس من تعويض مواردها المفقودة.
وتجادل حكومة نتنياهو بأن عدم سيطرة “إسرائيل” على محور فيلادلفيا ستتيح لحماس إعادة تسليح نفسها، فضلاً عن بناء قوتها وبنيتها التحتية العسكرية خلال سنوات، وهذا سيحول غزة إلى عبء أمني طويل الأجل على الدولة الإسرائيلية.
بينما ترى حماس الأمور من منظور مختلف، إذ يطالب مفاوضوها بانسحاب كامل القوات الإسرائيلية من المحور، وإعادة المنطقة إلى سيطرة حماس ضمن اتفاق الهدنة الدائمة، وليست مصر هي الأخرى سعيدةً باستمرار الوجود الإسرائيلي في المحور.
إذ يجادل المصريون بأن استمرار التواجد العسكري الإسرائيلي الكبير في المنطقة ينتهك معاهدة السلام الموقعة عام 1979، وهم محقون من الناحية الفنية، إذ كان محور فيلادلفيا بمثابة منطقة عازلة بين مصر وإسرائيل لأكثر من أربعة عقود، وجرت إدارته بموجب اتفاقيتين وقعهما الدبلوماسيون المصريون والإسرائيليون.
وقد طُرِحَت عدة تسويات منذ مايو/أيار، بينها سحب غالبية قوات إسرائيل في مقابل إقامة أبراج مراقبة إسرائيلية بطول الحدود، لكن مصر رفضت ذلك المقترح، بينما لا تستطيع “إسرائيل” السماح بعودة الوضع لما كان عليه قبل الحرب الجارية، إذ يشعر الإسرائيليون بالحاجة لضمان أمن مستوطناتهم الحدودية، لذا سيفعلون ما يريدونه بشكلٍ أحادي عن طريق تمهيد المحور بالكامل، أي إن الاحتلال الإسرائيلي يعتبر نفسه صاحب القرار في محور فيلادلفيا الآن.
“صُنع حوض أسماك”
تتمثل خطة “إسرائيل” النهائية لغزة في تفكيك حماس وضمان ألا تستطيع بناء قدراتها من جديد، والسيطرة على محور فيلادلفيا ضروري لتحقيق هذه الخطة، لكن هذا ليس كل شيء، فإذا نظرنا شمالاً؛ سنجد محور نتساريم الذي أُنشئ نتيجةً للاشتباكات الجارية.
- يصل طول محور نتساريم إلى 6 كم وبعرض كيلومترين
- يمتد من الحدود الإسرائيلية وصولاً إلى البحر المتوسط
- يفصل مدينة غزة عن بقية القطاع
- يحمل اسم نتساريم في حد ذاته لمحةً عما يخفيه المستقبل، حيث كانت نتساريم واحدةً من المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية في القطاع قبل انسحاب إسرائيل عام 2005
تشير إعادة استخدام الاسم إلى احتمال تفكير الإسرائيليين في إعادة إحياء جهود بناء مستوطنات جديدة داخل غزة، وورد هذا على ألسنة عددٍ من كبار الوزراء الإسرائيليين، مثل بن غفير.
- يضم محور نتساريم خمس قواعد عسكرية أمامية على الأقل لمراقبة السكان والتحكم في حركتهم بين شمال وجنوب غزة
- يشير بناء هذه المواقع، والتجريف المكثف للأراضي القريبة، إلى أن القوات الإسرائيلية لا تنوي الرحيل
وبعد أن تهدأ الاشتباكات ويعود المدنيون الفلسطينيون إلى منازلهم، أو ما تبقى منها، ستظل إسرائيل متحكمة في حياة غزة، وذلك دون الحاجة لاحتلال الأرض بالكامل، وقد أعلن نتنياهو أن “إسرائيل” لن تنسحب من محوري فيلادلفيا ونتساريم -وحتى معبر رفح- بموجب أي اتفاق هدنة، بينما يرفض الدبلوماسيون الفلسطينيون هذه المناطق العازلة في كلا المحورين، ويجادلون بأن نتنياهو أضافها إلى نقاط التفاوض لعرقلة محادثات وقف إطلاق النار، هذه هي العقبة الأساسية في طريق اتفاق الهدنة الآن.
ويعاني الأمريكيون أنفسهم بسبب نقاط التفاوض الجديدة، إذ لم تتحدث خطة بايدن للمفاوضات، وحتى قرارات مجلس الأمن، عن أي وجود إسرائيلي في محوري فيلادلفيا ونتساريم، لكن نتنياهو ماضٍ في طريقه، فبدون تطبيق صارم، لن تكون القوانين أكثر من مجرد توصيات مهذبة.
في هذه الأثناء، تعمل الحكومة الإسرائيلة على إنشاء منطقة عازلة ثالثة.
- سيطرت القوات الإسرائيلية على ميناء خان يونس
- أخلت وجرَّفت الأراضي الممتدة وصولاً إلى مستوطنة كيسوفيم
- جرى تدمير البنايات وتمهيد غالبية الأرض هنا
ومن المرجح إنشاء محورٍ جديد يمر عبر هذه المنطقة التي تُعد من أضيق مناطق قطاع غزة، وسيربط هذا المحور القوات الإسرائيلية بمدينة خان يونس مباشرةً، ما سيسمح بنشر الجنود الإسرائيليين على الأرض خلال دقائق، ولم يتحدد عرض محور كيسوفيم بعد، لكن يبدو أنه سيكون مشابهاً لمحور نتساريم، وعن طريق المناطق العازلة الثلاث، فيلادلفيا ونتساريم وكيسوفيم، سينقسم قطاع غزة إلى ثلاثة أجزاء فعلياً، لكن الخطة لا تتوقف عند هذا الحد.
ففي أغسطس/آب 2024، قالت منظمة أطباء العالم إن قوات الاحتلال في المنطقة الإنسانية نقلت الفرق المدنية والإغاثية إلى مكانٍ آخر ما أدى لتقليص مساحة المنطقة الآمنة، ومن المحتمل أن “إسرائيل” تخطط لبناء محورٍ قُطري آخر هنا بين بلديتي رفح وخان يونس، وستُعزز هذه الخطوة سيطرة الاحتلال على تحركات الناس والبضائع عبر فصل معبر رفح عن خان يونس.
وبناءً على نتيجة الاشتباكات والمفاوضات، قد يشهد هذا المحور مجهول الاسم بناء منشآت عسكرية إسرائيلية جديدة لاحقاً، وهناك حديثٌ عن بناء محورٍ خامس لفصل بلدة بيت حانون عن مدينة غزة، وسيؤدي هذا المحور القُطري الخامس إلى تكوين جيبٍ صغير يُمكن تخصيصه لجهود إعادة الاستيطان الإسرائيلية.
ولا يزال الوقت مبكراً للحديث بجزمٍ عن المحورين القُطريين، لكن قادة اليمين الإسرائيلي أعربوا عن دعمهم لهذه الخطط، وستتيح هذه المحاور الثلاثة -أو الخمسة- للقوات الإسرائيلية مراقبة أي نقطة داخل قطاع غزة، والاستجابة لأي تهديد في غضون دقائق، أي إن الاحتلال الإسرائيلي يستهدف تحويل غزة إلى حوض أسماكٍ مراقب من جميع الجهات.
لقد تحرك الاحتلال بأسلوب بعيد المدى في معركته ضد حماس، وربما يرى البعض أسلوبها بطيئاً، لكنه يعمل على تحويل حماس من جيش يستطيع إطلاق ألف صاروخ في الساعة، إلى حركة تمرد لا تطلق سوى عشرة صواريخ في المناسبات، ويحتاج الإسرائيليون الآن لمنع حماس من تجميع صفوفها وتجديد مخزونها.
ومن الناحية النظرية، فإن المقاتل الحمساوي الذي سيخرج من نفقه، لن يملك سوى بضع دقائق لإعداد الصاروخ وإطلاقه ثم العودة، هذه هي الشروط التي تفرضها المحاور على غزة، لكن الخطط نادراً ما تتحقق على الأرض بشكلٍ كامل، وربما تنطوي خطة الاحتلال النهائية لغزة على عودة المدنيين الفلسطينيين والمستوطنين الإسرائيليين.
لكن المحاور المذكورة ستصبح مغناطيساً يجذب الهجمات المستقبلية، كما أنها لا تعالج المشكلات الجوهرية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، إذ سيظل العداء بين المجتمعين قائماً -إن لم يتفاقم بمرور الزمان، أي إن معالم الخريطة ستتغير وتتبدل، لكن خطوط العداء لن تبرح المكان.