استراتيجية إثيوبيا تجاه البحر الأحمر تفجر صراع الهيمنة في القرن الأفريقي
مآلات - سبتمبر 2024
استراتيجية إثيوبيا تجاه البحر الأحمر تفجر صراع الهيمنة في القرن الأفريقي

ملخص

تمنح استراتيجية إثيوبيا مياه النيل والبحر الأحمر موقعا محوريا في أمن وسيادة إثيوبيا وجهود استعادة موقعها كقوة مهيمنة في القرن الأفريقي، وذلك استنادا إلى منظور تاريخي حول التعاون بين الحبشة وملوك أوروبا خلال حقبة الحروب الصليبية لتنفيذ مشاريع لحجز مياه النيل عن مصر والسيطرة على التجارة في البحر الأحمر. وتركز الاستراتيجية على تطوير القدرات العسكرية البحرية، وضرورة الحصول على منفذ على البحر الأحمر، وهو الدافع وراء توقيع مذكرة التفاهم مع حكومة إقليم “أرض الصومال” الانفصالية، للحصول على قاعدة بحرية عسكرية وحق استخدام ميناء بربرة.
ترى أديس أبابا ضرورة لتجنب الاعتماد المفرط على نقطة وصول واحدة للتجارة والإمدادات الحيوية. وساهم الدعم الإماراتي في تجاوز عقبة التمويل الأجنبي لتنفيذ مشروع تطوير ميناء بربرة وربطه عبر شبكة طرق حديثة مع إثيوبيا. وفي ظل العلاقة الخاصة بين أديس أبابا وتل أبيب، فإن الوصول الإثيوبي إلى البحر الأحمر ومضيق باب المندب سيسهل لتل أبيب تنفيذ المزيد من الأنشطة البحرية في مواجهة الحوثيين على الجانب اليمني، وضد التواجد البحري الإيراني في المنطقة.
يرى خبراء الأمن القومي الإثيوبي أن حدود بلادهم ينبغي أن تبدأ من البحر الأحمر والمحيط الهندي، وهو الأمر الذي سيؤدي إلى الاصطدام بمصالح أطراف عديدة في القرن الأفريقي، بداية من جيبوتي التي ستفقد إيراداتها من تجارة البضائع الإثيوبية، وإريتريا التي سيختل ميزان القوى بينها وبين إثيوبيا، فضلا عن الصومال الذي باتت وحدته مهددة، والسودان المنزعج من علاقات آبي أحمد الوطيدة مع قائد قوات الدعم السريع “حميدتي”، وصولا إلى مصر التي لم يعد لديها شك أن إثيوبيا تعمل على تطويق حركة الملاحة في قناة السويس بجوار التحكم في مياه النيل، وتركيا التي لديها مصالح استراتيجية في الصومال. 
في ضوء التصميم الإثيوبي والتمسك بنهج “فرض الأمر الواقع”، يُرجح أن تتحول الأزمة إلى صراع مزمن، وأن يتشكل محور مضاد لإثيوبيا يتكون من مصر والصومال ودول أخرى مثل جيبوتي وإريتريا والسودان، مما يفتح بابا لصراع أوسع في القرن الأفريقي. وما لم تحدث تغييرات داخلية في إثيوبيا، يُتوقع أن يزداد التوتر، وبالأخص مع بدء نشر القوات المصرية في الصومال، وتوالي إرسال شحنات دعم عسكري من القاهرة إلى مقديشو، مقابل شحنات الأسلحة الإثيوبية التي تصل إلى هرجيسا وبونتلاند لدعم نزعاتهما الانفصالية في مواجهة مقديشو، بينما لم تنجح جهود الوساطة التركية في تغيير مواقف أديس أبابا ومقديشو.

مقدمة

أصدر معهد الشؤون الخارجية الإثيوبي (IFA)، الذي يساهم في رسم السياسات الخارجية لأديس أبابا، عام 2024، وثيقة بعنوان “الاستراتيجية الرئيسية للجسمين المائيين: حوض النيل والبحر الأحمر”، كما استقبل المعهد أميت باياز مديرة شؤون شرق أفريقيا بوزارة الخارجية الإسرائيلية وتيمار بار لافي القائم بأعمال السفير الإسرائيلي في إثيوبيا لتنسيق المصالح المشتركة بين البلدين.

تُشدد الوثيقة على أن مياه النيل والبحر الأحمر يلعبان دورا محوريا في استمرارية أمن وسيادة إثيوبيا، وتقدم منظورا تاريخيا حول التعاون بين الحبشة قديما وملوك أوروبا خلال حقبة الحروب الصليبية لتنفيذ مشاريع لحجز مياه النيل عن مصر والسيطرة على التجارة في البحر الأحمر. وتوصي الوثيقة بالتنمية المشتركة لأحواض المياه الإثيوبية عبر ربطها معا بواسطة سدود جديدة، وتحويل مسارات بعض الأنهار، وتطوير القدرات العسكرية الإثيوبية، وضرورة الحصول على منفذ بحري يتيح الوصول للبحر الأحمر، والاستعداد للرد على أي تحركات مصرية لا تتسق مع المصالح الإثيوبية.

في غضون ذلك؛ تصاعد التوتر في منطقة القرن الأفريقي منذ توقيع إثيوبيا لمذكرة تفاهم مطلع عام 2024 مع حكومة إقليم “أرض الصومال” الانفصالية، تحصل بموجبها أديس أبابا على حق بناء قاعدة بحرية عسكرية على امتداد 20 كيلومترا من السواحل الصومالية مع حق استخدام ميناء بربرة لاستيراد البضائع، مقابل اعتراف إثيوبيا باستقلال “أرض الصومال” عن دولة الصومال الاتحادية.

سرعان ما تحركت مقديشو لمواجهة المخطط الإثيوبي، فعقدت في شهر فبراير/شباط اتفاقية للتعاون الدفاعي مع أنقرة لمدة عشر سنوات تقضي بتولي البحرية التركية مهمة بناء وتأهيل القوات البحرية الصومالية، ومساعدة الصومال في تأمين سواحله ضد التهديدات والانتهاكات الخارجية. ثم أقدمت مقديشيو على خطوة إضافية بتوقيع اتفاقية للتعاون العسكري مع القاهرة في أغسطس/آب، بالإضافة لتعهد مصر بالمساهمة للمرة الأولى بقوات عسكرية في بعثة الاتحاد الأفريقي لدعم وتحقيق الاستقرار في الصومال “أوصوم”، ومن المقرر أن تبدأ عملها يناير/ كانون الثاني 2025، فيما وصلت مساعدات عسكرية مصرية بالفعل إلى الأراضي الصومالية، وهو ما أثار غضب أديس أبابا التي تعهدت على لسان رئيس الوزراء آبي أحمد بعدم السماح بالمساس بسيادتها، وإذلال كل من يجرؤ على تهديدها.

ماذا تريد إثيوبيا في البحر الأحمر؟

ماذا تريد إثيوبيا في البحر الأحمر؟

ترى أديس أبابا ضرورة امتلاك منفذ بحري، تجاري وعسكري، لتعزيز دور إثيوبيا كقوة إقليمية مهيمنة؛ ليضعها مجددا كلاعب عسكري مؤثر في الملاحة في باب المندب الاستراتيجي، كما أن الميناء بصورة عامة يساهم في خفض تكاليف النقل، ويتيح تدشين بنية لوجستية وصناعية وتجارية تنهض بالاقتصاد. ولذلك؛ تعتقد نخب الحكم الإثيوبية أن البلاد تعرضت لظلم حين حُرمت من الاتصال البحري.

فإثيوبيا هي الدولة الأكبر من حيث عدد السكان في القرن الأفريقي بنحو 129 مليون نسمة، ولديها الجيش الأضخم والأكثر تجهيزا، وتمتلك موارد طبيعية وأرضا شاسعة صالحة للزراعة، ولديها علاقات مع القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين وروسيا، ويوجد بها مقر الاتحاد الأفريقي. أي أنها تملك كافة عوامل التفوق الإقليمي في مواجهة جيرانها، لكنها تعاني من كونها دولة حبيسة منذ انفصال إريتريا عنها عام 1991، كما تواجه تمردات داخلية وصراعات عرقية، ومستويات عالية من الفقر، وتأمل في علاج تلك التحديات من خلال مشروع تنموي طموح يوحد الإثيوبيين خلف آبي أحمد.

تقع الحدود الإثيوبية على بعد 60 كم من ساحل البحر، وتعتمد أديس أبابا في حركة التجارة على الاستيراد والتصدير من أربعة موانئ، اثنين منها بعيدين عن وسط إثيوبيا مما يزيد من تكلفة النقل، وهما بورتسودان في السودان، والذي تأثر بتداعيات الحرب في السودان، وميناء مومباسا في كينيا. بينما يتسم ميناء بربرة في أرض الصومال بميزة من حيث الموقع لقربه من الأراضي الإثيوبية، لكنه يحتاج لتطوير بنيته التحتية وشبكة الطرق الواصلة بينه وبين إثيوبيا.

أما الميناء الرابع فهو ميناء جيبوتي، ويستقبل نحو 90% من التجارة الإثيوبية، ويكلف أديس أبابا رسوما تتراوح ما بين 1.5 إلى 2 مليار دولار سنويا، فضلا عن التهديد المتمثل في رهن التجارة الإثيوبية لصالح منفذ بحري في دولة واحدة، مما يجعل إثيوبيا تأخذ مصالح جيبوتي بعين الاعتبار في تحركاتها الخارجية فضلا عن حساسيتها لأي اضطرابات أو تقلبات سياسية قد تحدث مستقبلا في جيبوتي.

أمنيا، ترى أديس أبابا أن فقدانها لمنفذ بحري خاص بها، جعل جيشها يقتصر على قوات برية وجوية دون امتلاك قوات بحرية فاعلة، كما يحرمها من الملاحة في المحيطات والاستفادة من المشاعات البحرية، فضلا عن خضوع استيرادها لمعدات عسكرية وأمنية حساسة لموافقة جيبوتي مما يضعف السيادة، ويجعل إثيوبيا مقيدة ومنكفئة على نفسها. 

تسعى إثيوبيا لتلافي تكرار تجربتها مع الموانئ الإريترية، فضمن الاتفاق على انفصال إريتريا، حصلت أديس أبابا على حق استخدام ميناء عصب دون دفع رسوم جمركية، ومن خلاله كانت تمر 75% من تجارة إثيوبيا الخارجية، ولكن مع اندلاع الحرب الإثيوبية الإريترية 1998-2000، توقف استخدام إثيوبيا لميناء عصب، ولجأت إثيوبيا لاستخدام ميناء جيبوتي بداية منذ عام 2002.

وهو ما أدخل البلدين في خلافات متكررة حول رسوم العبور والضرائب، فيما ساهمت الصين بحل المشاكل اللوجستية عبر توفير قروض لبناء خط السكة الحديدية الكهربائي بين إثيوبيا وجيبوتي بطول 750 كيلومتراً مما خفض وقت الرحلة بالطريق البري إلى أديس أبابا من ثلاثة أيام إلى حوالي 12 ساعة.

مع زيادة عدد السكان في إثيوبيا، وتولي قيادة جديدة طموحة للبلاد ممثلة في آبي أحمد، بدأت مساعي أديس أبابا لتنويع خياراتها، وتأمين منافذ بحرية جديدة يمكن استخدامها دون دفع رسوم، ولتجنب الاعتماد المفرط على نقطة وصول واحدة للتجارة والإمدادات الحيوية، وبناء قوات بحرية يمكنها النشاط في مضيق باب المندب وغرب المحيط الهندي مما يزيد من أوراق القوة في يد إثيوبيا لمواجهة دول مثل مصر، حيث سيتاح بذلك التأثير على حركة الملاحة في قناة السويس بجوار التحكم في معدل تدفق مياه النيل من خلال سد النهضة. 

وجدت إثيوبيا بغيتها في ميناء بربرة، فهو قريب جغرافيا، ويقع شمال شرق إثيوبيا قرب مناطق يسكنها إثيوبيون من العرقية الصومالية وعرقية الأورومو، مما يتيح تعزيز وجود الدولة في تلك المناطق، ويوفر فرص عمل ومشاريع تنمية تتيح للحكومة المركزية إحكام قبضتها على تلك المناطق التي تشهد اضطرابات متكررة.

الاعتراف بانفصال أرض الصومال… ما الذي تغير؟

مرت إثيوبيا بنحو أربع تغييرات في أنظمة الحكم خلال النصف قرن الأخير، آخرها وصول آبي أحمد لمقعد رئيس الوزراء عام 2018 منهيا سيطرة عرقية التيغراي على الحكم، والتي استمرت منذ عام 1991 عقب إسقاط نظام منغستو. 

أعلن إقليم أرض الصومال انفصاله عن الصومال من جانب واحد عام 1991، لكن إثيوبيا تجنبت الاعتراف به خلال عهد ميليس زيناوي، الذي تولى رئاسة إثيوبيا من 1991 إلى 1995، ثم رئاسة الوزراء حتى وفاته في عام 2012. وحافظ خليفته، هيلا مريم ديسالين (2012-2018)، على ذات النهج، وذلك لأن الإقدام على تلك الخطوة سيمثل إزعاجا سياسيا وقانونيا لإثيوبيا على المستويين الإقليمي والدولي، وسيبرزها كطرف منخرط في تفتيت الصومال، وسيكرس لمبدأ الاعتراف بأقاليم تعلن انفصالها من جانب واحد، وهو ما قد تتعرض له إثيوبيا نفسها مستقبلا في ظل تشكلها من عرقيات مختلفة يخوض العديد منها صراعات مسلحة ضد الحكومة المركزية.

كان ثمة عائق موضوعي آخر أمام التفكير في الاستفادة من سواحل أرض الصومال، وهو أن ميناء بربرة بحاجة إلى تطوير كبير، وشبكة طرق جديدة لربطه بإثيوبيا، أي أن المشروع يتطلب دعما خارجيا يشمل استثمارات ضخمة وخبرات تقنية أجنبية، وهو أمر لم يتوفر آنذاك في ظل إحجام الشركات الأجنبية عن الانخراط في مشاريع تتضمن مخاطر سياسية وقانونية وأمنية. ولذا اكتفت أديس أبابا بإقامة علاقات دبلوماسية مع أرض الصومال، إذ دشنت قنصلية غير رسمية في هرجيسا، وهي خطوة أقدمت عليها دول أخرى من بينها تركيا.

طرأ تغير في الموقف الإثيوبي مع دخول دولة الإمارات على الخط؛ فإثر تدشين التحالف العربي لحربه في اليمن عام 2015، استخدمت الإمارات جيبوتي كمركز دعم للعمليات في جنوب اليمن، ثم اختلفت أبوظبي مع جيبوتي، وأقدمت حكومة جيبوتي على طرد الإمارات من البلاد بما في ذلك طرد شركة موانئ دبي من إدارة ميناء دوراليه بحجة التورط في عمليات رشوة وفساد. فلجأت أبوظبي إلى إريتريا، وأجّرت منها ميناء “عصب” لدعم عملياتها العسكرية في اليمن، مما مثل إفشالا لجهود إثيوبيا الرامية لعزل إريتريا، الخصم اللدود الذي يدعم جماعات متمردة داخل إثيوبيا.

تحركت أديس أبابا لإغراء أبوظبي بالاستثمار في ميناء بربرة بأرض الصومال بدلا من إريتريا. وبالفعل انعقد اجتماع اللجنة الوزارية المشتركة بين إثيوبيا والإمارات  عام 2015، وجرى الاتفاق على صفقة تتولى بموجبها الإمارات تطوير ميناء بربرة رغم اعتراض مقديشو، وتم بالفعل في عام 2016 توقيع اتفاقية تلتزم بموجبها شركة موانئ دبي العالمية بتطوير وإدارة ميناء بربرة لمدة 30 عاما مقابل ملكية 51٪ من المشروع، مع منح إثيوبيا حصة 19% من الميناء، والباقي لحكومة أرض الصومال.

فضلا عن بناء الإمارات لطريق سريع يربط “ميناء بربرة” مع مدينة واجالي الحدودية بين أرض الصومال وإثيوبيا. وتزامن ذلك مع انتقال التركيز الإماراتي في اليمن نحو مدينة عدن، مما زاد من أهمية “بربرة” الأقرب جغرافيا مقارنة بميناء “عصب”.

تواكب مع اهتمام الإمارات بالقرن الأفريقي، واستعدادها لتقديم التمويل لأديس أبابا، وصول آبي أحمد للحكم عام 2018. ففي ذات العام قدمت الإمارات لإثيوبيا 3 مليار دولار أمريكي، كما زار آبي أحمد أبوظبي ليرد له بن زايد الزيارة بعد شهر واحد، ويتفقان على ترسيخ علاقات التعاون والشراكة الاستراتيجية بينهما في الملف الاقتصادي فضلا عن تشاركهما في سياسة مواجهة الإسلاميين في المنطقة، وبالأخص في الصومال. وعندما اقتربت قوات “جبهة تحرير تيغراي” من أديس أبابا عام 2021، قدمت أبوظبي للجيش الإثيوبي طائرات مسيرة ساعدته في التصدي للهجوم، وشن هجوم مضاد أجبر قوات التيغراي على التراجع.

الأبعاد الجيوسياسية

إن وصول إثيوبيا في عهد مملكة أكسوم في القرنين الثالث والرابع الميلادي إلى مياه البحر مكنها من أن تصبح قوة مؤثرة في منطقة البحر الأحمر، ودخلت في صراع مع الفرس للسيطرة على اليمن، بل وحاولت في القرن السادس الميلادي التوغل في عمق الجزيرة العربية وصولا لمحاولة أبرهة الحبشي هدم الكعبة المشرفة.

لاحقا، طلبت إثيوبيا من ملوك أوروبا، وبالأخص البرتغال في القرن الخامس عشر التعاون معها في تحويل مسار النيل أو حجزه عن مصر بهدف إضعافها، وذلك لخدمة أهداف إثيوبيا في تلك الآونة بالسيطرة على التجارة في البحر الأحمر، والذي ازدادت أهميته في العصر الراهن مع اكتشاف النفط والغاز، إذ تُستخدم مياهه في شحن صادرات الطاقة من الخليج إلى أوروبا. 

وقد تعاونت إثيوبيا في عهد الأسرة السليمانية بالقرن السادس عشر مع البرتغال وإسبانيا في مواجهة تحالف العثمانيين مع سلطنات الصومال، بهدف انتزاع ميناء عصب من الصوماليين. كذلك سعى الإمبراطور تيدروس في القرن التاسع عشر لتكوين تحالف مع بريطانيا وفرنسا في مواجهة العثمانيين والمصريين بهدف السيطرة على موانئ القرن الأفريقي، لكن مساعيه لم تنجح بسبب دعم لندن وباريس للدولة العثمانية آنذاك في حرب القرم (1853-1856) في مواجهة الروس.

وفي القرن العشرين، تمتعت إثيوبيا بعلاقة خاصة مع “إسرائيل” التي تبنت “عقيدة المحيط”، وبموجبها حرصت تل أبيب على بناء علاقات مع دول غير عربية في المحيط الإقليمي للتغلب على عزلتها، واستغلت شعور أديس أبابا بالتطويق من جيرانها المسلمين، وقلقها من نفوذ الرئيس المصري عبد الناصر في الصومال وجيبوتي، لتحويل إثيوبيا إلى مرتكز للأعمال السرية الإسرائيلية في القارة الأفريقية، وبالأخص جمع المعلومات عن الأنشطة المصرية في القرن الأفريقي وباب المندب. ولازالت “إسرائيل” تحافظ على علاقاتها الوطيدة مع إثيوبيا.

وبالتالي فإن الوصول الإثيوبي إلى البحر الأحمر ومضيق باب المندب سيسهل لتل أبيب تنفيذ المزيد من الأنشطة البحرية في مواجهة الحوثيين على الجانب اليمني، وضد التواجد البحري الإيراني في المنطقة.

ترى أديس أبابا، وفق وثيقة معهد الشؤون الخارجية الإثيوبي (IFA)، أن البحر الأحمـر وحـوض النيـل يحددان ميـزان القـوة في شمال شرق أفريقيا، وتشدد على وجود شعور تاريخي بحصار جيرانها العرب والمسلمين لها مما قصر وجودها في الهضاب والمرتفعات ومنعها عن السواحل البحرية. وبالتالي فإن قضية المنفذ البحري تلعب دوراً محوريا في وجود الدولة وسيادتها وضمان أمنها، وفي وصولها إلى الأسواق العالمية وتنفيذ خططها التنموية. 

ولتحقيق ذلك؛ تدعو الوثيقة إلى تنفيذ خطوات لفرض أمر واقع ثم شرعنته لاحقا بذرائع قانونية، وتضرب أمثلة باعتراف الولايات المتحدة بضم “إسرائيل” للجولان في عهد ترامب، والاعتراف باستقلال كوسوفو رغم المعارضة الصربية، أي إن خطوة المضي في الاعتراف باستقلال أرض الصومال مقابل الحصول على قاعدة عسكرية بحرية وميناء تمثل أولوية لدى أديس أبابا، وتتعامل معها بنهج “فرض الأمر الواقع”، وهو النهج الذي اعتمدته بنجاح في ملف سد النهضة.

توتر متصاعد

يرى خبراء الأمن القومي الإثيوبي أن حدود بلادهم ينبغي أن تبدأ من البحر الأحمر والمحيط الهندي. وهو الأمر الذي سيؤدي إلى الاصطدام بمصالح أطراف أخرى عديدة في القرن الأفريقي، بداية من جيبوتي التي ستفقد إيراداتها من تجارة البضائع الإثيوبية، وإريتريا التي سيختل ميزان القوى بينها وبين إثيوبيا مع امتلاك الأخيرة منفذ بحري، فضلا عن الصومال الذي يرى في الخطوة الإثيوبية اعتداء على سيادته وتفتيتا لوحدة أراضيه، والسودان الذي يخشى من طموحات آبي أحمد التوسعية وعلاقته الوطيدة مع قائد قوات الدعم السريع “حميدتي”، وصولا إلى مصر التي لم يعد لديها شك أن إثيوبيا تعمل على تطويقها من الجنوب، وتركيا التي لديها مصالح استراتيجية في الصومال بالتوازي مع امتلاكها استثمارات في إثيوبيا. 

حاولت جيبوتي تهدئة الاندفاعة الإثيوبية عبر عرض منح إثيوبيا حق الإدارة الكاملة لميناء تاجوراء في جيبوتي، والواقع على بعد 100 كم من الحدود الإثيوبية، وهو ما لم تتفاعل معه أديس أبابا سلبا ولا إيجابا، لأنه عرض يحرمها من بناء قاعدة عسكرية بحرية. كذلك حاولت أنقرة التوسط عبر استضافة جولات من المحادثات بين إثيوبيا والصومال برعاية هاكان فيدان وزير الخارجية التركية، ولم تسفر المحادثات عن تحقيق أي اختراق في جدار الخلافات الإثيوبية الصومالية.

لكن ليس من المرجح أن يكون المقترح الجيبوتي كافيا لاحتواء التنافس المتصاعد في القرن الأفريقي؛ لأن إثيوبيا لا تواجه حاليا مشكلة تتعلق باستقرار خطوط نقل البضائع، وإنما الأولوية لمشروع إعادة بناء قوة البلاد البحرية العسكرية، كضرورة لتأكيد النفوذ في القرن الأفريقي، وهو ما يضع أديس أبابا في مواجهة مع القاهرة ومقديشو، اللتان تنظران لتحركات آبي أحمد كخطوات عدائية لفرض هيمنة بلاده على مصالح جيرانها.

سيناريوهات المستقبل: القرن الأفريقي على أعتاب صراع مزمن

يرجح تحول مذكرة التفاهم بين إثيوبيا وأرض الصومال إلى بؤرة لصراع مزمن، فشحنات الأسلحة الإثيوبية بدأت تصل إلى هرجيسا وبونتلاند لدعم نزعاتهما الانفصالية في مواجهة مقديشو، ولم تنجح محاولات الوساطة التركية بين أديس أبابا ومقديشيو في تغيير مواقف أي منهما، وأبي أحمد يمضي في محاولات فرض سياسة الأمر الواقع، بينما محيطه الإقليمي متضرر من تلك السياسة، وبدأ ينسق بينيا للتصدي للطموحات الإثيوبية. وما لم تحدث تغييرات داخلية في إثيوبيا فيتوقع أن يزداد التوتر في القرن الأفريقي، وبالأخص مع بدء نشر القوات المصرية العاملة ضمن بعثة الاتحاد الأفريقي الجديدة، وتوالي إرسال القاهرة لشحنات دعم عسكري إلى مقديشو.

وفي ضوء التصميم الإثيوبي؛ يرجح أن يتشكل محور مضاد لإثيوبيا يتكون من مصر والصومال وجيبوتي وإريتريا، مما يفتح بابا لاندلاع جبهة جديدة لصراع واسع في القرن الأفريقي، فيما ستحاول الدول المذكورة تعزيز دعمها للجماعات العرقية المتمردة داخل إثيوبيا ضد حكومة آبي أحمد، والتي قد تشمل مجموعات من عرقيات التيغراي والأورومو والأمهرة والصومالية. وهو ما هدد به علنا وزير الخارجية الصومالي في سبتمبر/ أيلول 2024، فيما تتابع زيارات المسؤولين المصريين إلى الصومال وجيبوتي وإريتريا، وفي مقدمتهم رئيس المخابرات العامة عباس كامل.

إن خطورة الصراع المحتمل تكمن في احتمالية الاندلاع في وقت تنشغل فيه القوى الكبرى بصراعات أخرى، وفي مقدمتها حرب أوكرانيا، وحرب غزة وتداعياتها، والتنافس الصيني الأمريكي، مما يحد من الجهود الممكن تخصيصها لحل الخلافات بين الدول المذكورة. ويبدو أن أديس أبابا اعتمدت على أن انتهاء الملء الخامس لسد النهضة واكتمال الجزء الأكبر من منشآته، يكسبها أداة ضغط مؤثرة على مصر، ويمهد لوثبة جديدة نحو البحر الأحمر، في ظل ضعف بقية جيرانها عن التصدي لها عسكريا دون دعم مصري أو تركي.