في انتخابات البرلمان: فرنسا تتجنب مؤقتا اليمين المتطرف لكن الثمن برلمان منقسم
سياقات - يوليو 2024
تحميل الإصدار

ملخص

أسفرت الجولة الثانية للانتخابات التشريعية الفرنسية يوم 7 يوليو/تموز عن فوز ائتلاف الجبهة الشعبية الجديدة المكون من أحزاب يسارية بـ 182 مقعدا في الجمعية الوطنية المؤلفة من 577 مقعدا، وجاء ائتلاف الوسط، الذي يقوده الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في المركز الثاني بـ 168 مقعدا، يليه حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف (RN) وحلفاؤه بـ 143 مقعدا.

رفض الفرنسيين مجددا وصول اليمين المتطرف إلى السلطة في فرنسا

التحليل: تمدد اليمين المتطرف في فرنسا واقع لا يمكن عكسه قريبا

بالرغم من حصول حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف على أكبر عدد من المقاعد في الجولة الأولى التي جرت في 29 يونيو/حزيران، إلا أن ذلك الانتصار تحول إلى هزيمة قاسية في الجولة الثانية بعد أن قامت أحزاب اليسار والوسط بتصويت تكتيكي من خلال توجيه مرشحيها الحاصلين على المركز الثالث في الجولة الأولى بالانسحاب من السباق، إذ وصل إجمالي المنسحبين إلى 221 مرشحا. وكان الغرض من هذا الانسحاب هو توحيد الأصوات ضد اليمين المتطرف، حتى لو كان ذلك يعني دعم مرشح من حزب مختلف؛ مما أدى إلى منع حزب الجبهة الوطنية من الحصول على المزيد من المقاعد والتراجع من المركز الأول إلى المركز الثالث.

مثّل حصول حزب التجمع الوطني على أكبر عدد من الأصوات قبل أسابيع في انتخابات البرلمان الأوروبي الدافع الرئيسي وراء دعوة ماكرون إلى انتخابات نيابية مبكرة، بهدف “توضيح المشهد السياسي” والتأكد من رغبة الناخبين الفرنسيين. وعبرت نتائج الانتخابات البرلمانية عن رفض الفرنسيين مجددا وصول اليمين المتطرف إلى السلطة، حيث بلغت نسبة التصويت في الجولة الثانية 67.1% وهي نسبة لم تشهدها فرنسا منذ عام 1981، وذلك بعد تعبئة تاريخية لمنع اليمين المتطرف من الوصول إلى السلطة.

ومع ذلك؛ فقد خسر ماكرون الأغلبية النسبية التي كان يتمتع بها في عام 2022، وأصبح حزبه أقلية في البرلمان الفرنسي، ما يعني إضعاف سلطة ماكرون السياسية وتحول مركز الثقل من مؤسسة الرئاسة إلى البرلمان، فضلا عن احتمالات متزايدة لتعرض فرنسا في فترة ولاية ماكرون الثانية إلى أزمة طويلة مليئة بالشكوك وعدم الاستقرار السياسي، قد تُعطل إقرار إصلاحات اقتصادية حقيقية أصبحت فرنسا في أشد الحاجة إليها، خاصة بعد تدهور الأوضاع المالية ووصول العجز المالي إلى 5.5% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2023.

لا يزال اليمين المتطرف يتمدد داخل فرنسا بالرغم من هزيمته، حيث صوت عشرة ملايين فرنسي لصالح حزب مارين لوبان، وقفز عدد مقاعده في البرلمان من 8 إلى 120 في فترة قصيرة بين عامي 2017 و2024. وهذا يعني أن حزب التجمع الوطني أصبح يمثل قوة المعارضة الرئيسية في البلاد، وهو ما يؤهله إلى خوض الانتخابات الرئاسية الفرنسية عام 2027 والمنافسة بقوة أكثر من الأوقات الماضية، خاصة إذا لم تحقق الحكومة الجديدة النجاحات التي ينتظرها الناخبون. 

صد خطر اليمين المتطرف ولكن من سيحكم فرنسا؟ 

أفرزت الانتخابات برلمانا منقسما إلى ثلاث كتل متقاربة إلى حد كبير، إذ لم يفز أي حزب بالأغلبية المطلقة (289 مقعدا)، ويقود هذا الوضع إلى ما يعرف بـ “البرلمان المعلق”. وبالنظر إلى أن الرئيس الفرنسي لا يستطيع أن يدعو إلى انتخابات برلمانية مجددا قبل عام من الآن، فإن ذلك يعني أن فرنسا ستشهد حالة من الشلل السياسي ربما تستمر أسابيع وشهورا حتى يتم تعيين حكومة جديدة. وحتى ذلك الحين فإن ماكرون سيكون أمام الاختيارات التالية:

  • أولا: يمكن لماكرون أن يشكل حكومة أقلية من أحد الأحزاب الثلاثة عبر تحالفها مع الأحزاب الأخرى الصغيرة وتأمين أغلبية برلمانية، لكن هذا سيواجه دائما بصعوبة التحالفات التي سيضطر إليها أي حزب من الأحزاب الثلاثة حال اختياره لتشكيل الحكومة، فضلا عن الصعوبات التي ستواجهها هذه الحكومة عند تمرير التشريعات من الحزبين الآخرين والمعارضة في البرلمان.
  • ثانيا: قد يلجأ ماكرون إلى تشكيل حكومة ائتلافية تجمع أحزاب الوسط واليسار المعتدل. لكن ستظل الاختلافات الإيديولوجية الواسعة هي العائق الرئيسي أمام استمرار تلك الحكومة خاصة أثناء مناقشة القضايا المثيرة للجدل. كذلك يعني هذا التصور عملياً تفكك ائتلاف الجبهة الشعبية اليساري، إذ من غير المتوقع أن يقبل حزب فرنسا الأبية (LFI) اليساري المتطرف الانضمام لحكومة ائتلافية تضم أحزابا من الوسط. ومن الصعب النظر إلى الائتلاف اليساري باعتباره تحالفا سياسيا متماسكا؛ إذ تَشكل التحالف بغرض المنافسة الانتخابية من أربعة أحزاب من اليسار دون زعيم متفق عليه ولا برنامج مشترك. أما التحدي الآخر المتعلق بهذا التصور فهو افتقار فرنسا لتجارب في تاريخها الحديث في تشكيل حكومات ائتلافية على عكس الديمقراطيات الأوروبية الأخرى. 
  • ثالثا: يمكن أن يختار ماكرون حكومة تكنوقراط يترأسها زعيم غير حزبي – على الرغم من أن هذا لم يحدث قط منذ نهاية الحرب العالمية الثانية – ولكن ستقع تلك الحكومة تحت تهديد دائم بتصويت حجب الثقة، بالإضافة إلى أن تشكيل هذه الحكومة سيتسبب في الاستياء من اليمين واليسار على حد سواء بسبب مصادرة مستقبل البلاد من قبل السلطة التنفيذية.

قدمت نتائج الانتخابات الفرنسية ضمانا مؤقتا للقادة الأوروبيين إزاء سياسات وميزانية فرنسا داخل الاتحاد الأوروبي، ولكن لا يزال الشركاء الأوروبيون يساورهم القلق من حالة عدم اليقين والشلل السياسي التي يمكن أن تتعرض لها فرنسا ثاني أكبر عضو في الاتحاد والتي سيكون لها انعكاسات على عملية صنع القرار في بروكسل. بالإضافة لذلك؛ فإن صعود اليمين المستمر بات واقعا أوروبيا لا يمكن تجاهله، وسيعيد تعريف دور الاتحاد في بيئة تعلو فيها نزعة القومية وأولوية تعزيز السيادة.

فيما يتعلق بالشرق الأوسط؛ فإن ملامح السياسة الخارجية للائتلاف اليساري لا تختلف كثيرا عن توجهات ماكرون. فمن ناحية حرب غزة؛ يدعو اليسار إلى وقف إطلاق النار في غزة، وهو الأمر نفسه الذي دعا إليه ماكرون منذ شهور، ومن ناحية الصراع المتصاعد بين “إسرائيل” وحزب الله يقدم الائتلاف موقفا داعما للبنان، وهو الدور الذي تحرص فرنسا على القيام به في سياق تعاونها مع واشنطن بهدف منع تصاعد الصراع إلى حرب واسعة. بينما يمكن أن يكون التغيير الوحيد المتوقع هو اعتراف فرنسا بالدولة الفلسطينية وهي خطوة رمزية لن يكون لها نتائج كبيرة على الأرض. نتيجة لذلك؛ إذا استمر التحالف بين ماكرون والائتلاف اليساري حتى تشكيل حكومة جديدة فمن غير المتوقع أن يكون هناك تحولاً كبيراً في السياسة الفرنسية تجاه الشرق الأوسط. 

إقرأ أيضاً:

فرنسا في أفريقيا: باريس تدافع عن نفوذها المتراجع بإعادة تشكيل علاقاتها مع القارة

الاستقلال الاستراتيجي، خطة فرنسا لفرض هيمنتها على أوروبا

ميلوني تحكم إيطاليا: صعود اليمين القومي يهدد مستقبل الوحدة الأوروبية

انقلاب الغابون: دوامة انقلابات غرب ووسط أفريقيا تعصف بنفوذ فرنسا