استشراف حالة الدولة
يُعزز إعادة انتخاب الرئيس التركي، “رجب طيب أردوغان”، الاستقرار السياسي في تركيا واستمرارية التوجهات العامة للسياسات الحكومية، لاسيما على صعيد السياسة المحلية والخارجية. لكنّ الملف الاقتصادي سيكون استثناءً، حيث من الواضح أن الفريق الاقتصادي الجديد مفوض من قبل الرئيس التركي بإدارة عملية تحول في السياسات الاقتصادية، ستركز على التشديد النقدي من أجل تخفيف الضغوط التضخمية، والتي من المتوقع أن تؤتي ثمارها لاحقا على مدى عام 2024.
- تكثف تركيا جهودها لجذب الاستثمارات من دول الخليج العربي الغنية؛ وتراهن أنقرة على دعم السعودية وقطر والإمارات لمشروعات إعمار مناطق الزلزال. لكنّ ذلك لا يقلل من حقيقة أن تركيا تظل جزءا لا يتجزأ من النظام الاقتصادي الغربي، ضمن مستوى عميق من التكامل بين الجانبين، وستكون زيادة الصادرات إلى الغرب محورا أساسيا للانتعاش الاقتصادي في تركيا، جنبا إلى جنب مع الاستثمارات الخليجية.
- سيواصل الرئيس “أردوغان” ووزير الخارجية “هاكان فيدان” السعي إلى تعزيز مكانة تركيا كقوة دولية متوسطة صاعدة تعزز نفوذها في البلقان والشرق الأوسط وجنوب القوقاز وآسيا الوسطى وأفريقيا. ومن المرجح أن يواصل “أردوغان” نهجا خارجيا متوازنا، تظل تركيا فيه عضوا فاعلا في الناتو، وتزيد من هامش استقلالها عن النفوذ الغربي، دون أن تكون معادية له.
- ستميل تركيا والقوى الغربية أكثر لاحتواء الخلافات، لتحقيق الأهداف الخاصة بكل طرف، والتركيز أكثر على المصالح المشتركة، دون أن يمنع هذا من احتمالات تسجيل موجات من التوتر بين الجانبين. وبينما سيظل التقدم في ملف انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي أمرا غير مرجح خلال الأعوام المقبلة، ستواصل تركيا الاحتفاظ بعلاقة عمل مفيدة مع روسيا، لأسباب جيوسياسية واقتصادية.
- ستتواصل جهود الحكومة التركية لتطوير العلاقة مع جيرانها الإقليميين، خاصة السعودية والإمارات ومصر و”إسرائيل”، كما أن دول الخليج باتت أكثر حماسة لتعزيز العلاقات الاقتصادية والعسكرية بعد أن أظهرت الانتخابات أن “أردوغان” مازال رجل تركيا القوي. ومن المرجح أن يكون التقدم في مسار تطبيع العلاقات مع النظام السوري محدودا، في ظل استبعاد أن تنسحب القوات التركية من شمال سوريا في المستقبل القريب. فيما يتجه التنافس الجيوسياسي بين تركيا وإيران لمزيد من التصاعد في الفترة القادمة.
الواقع السياسي في تركيا
- يُعزز إعادة انتخاب الرئيس التركي، “رجب طيب أردوغان”، الاستقرار السياسي في تركيا واستمرارية التوجهات العامة للسياسات الحكومية، لاسيما على صعيد السياسة المحلية والخارجية. لكنّ الملف الاقتصادي سيكون استثناءً، إذ إن المخاطر التي تعترض الاقتصاد استدعت تغيير منهجية إدارة الاقتصاد الكلي، وهو الأمر الذي يستهدف الرئيس التركي معالجته من خلال تعيين فريق اقتصادي جديد بقيادة “محمد شيمشك”، وزيراً للمالية. وعلى الرغم من أن وزير المالية قد تم تغييره عدة مرات في الحكومة السابقة، إلا أن من الواضح أن “شيمشك” تولى منصبه بتفويض واضح واتفاق مع “أردوغان” على خطة إصلاح اقتصادي. لذلك؛ من المرجح أن يكون الفريق الاقتصادي، الذي يضم أيضا محافظ البنك المركزي “حفيظة أركان”، وحتى نائب الرئيس جودت يلماز، مُمَكَّنا من إدارة الاقتصاد دون معوقات، مما يرفع احتمالات استقرار السياسات الاقتصادية في الفترة القادمة.
- أحدث الرئيس أردوغان تغييراً واسعاً على صعيد التشكيل الوزاري في 3 يونيو/حزيران الماضي، حيث جرى تغيير جميع الوزراء باستثناء وزيرا الصحة والسياحة. ويُلاحظ أن وزراء جدد في حقائب مهمة، مثل الداخلية، هم من التكنوقراط والبيروقراطيين. وكان من اللافت خروج وزير الداخلية السابق “سليمان صويلو”، من الفريق الوزاري، في حين أنه من أكثر الشخصيات نفوذاً في الحكومة السابقة، ويتمتع برأس مال سياسي معتبر داخل الحزب الحاكم. وأرسل قرار تغييره رسالة واضحة تؤكد وجود مركز وحيد للسلطة واتخاذ القرار، هو الرئيس “أردوغان” نفسه.
- بجانب تغيير وزير المالية، اتجهت الأنظار نحو “هاكان فيدان” رئيس الاستخبارات السابق الذي جرى تعيينه وزيراً للخارجية، ليصبح بذلك أحد الوجوه المحتملة لمستقبل الحكم في تركيا، مع التأكيد على أن ملف خلافة الرئيس مازال غير مطروح للنقاش. ويعزز تعيين “فيدان” أيضا من استمرارية التوجهات الرئيسية للسياسة الخارجية التركية، والتي تعتبر عملية اتخاذ القرار فيها مركزية، من خلال الرئيس وفريق صغير معه، كان “فيدان” نفسه أبرز أعضائه، خاصة في الملفات ذات الحساسية، مثل ملفات التهدئة الإقليمية مع مصر ودول الخليج، فضلا عن ملفات الصراع الخارجي في ليبيا وسوريا والعراق وأذربيجان.
- أظهرت نتائج الانتخابات البرلمانية في مايو/أيار الماضي، أن حزب العدالة والتنمية هو الحزب الأكثر تمثيلا في عموم تركيا؛ حيث حصد في كافة المحافظات نسبة تمثيل لا تقل عن 20٪، ولم يتراجع أبعد من المركز الثاني، باستثناء محافظة واحدة صغيرة هي تونجلي ذات الكثافة الكردية والعلوية. هذه الميزة لا يتمتع بها أي حزب آخر من الأحزاب التركية، وتعكس عمق القاعدة الشعبية الداعمة للحزب. في المقابل؛ تشير التقديرات إلى تفكك تحالف المعارضة الذي اجتمع لمواجهة الرئيس “أردوغان”، فيما سيكون الاختبار التالي هو الانتخابات المحلية في مارس/آذار 2024.
- ومع هذا؛ فإن الحزب الحاكم لم يحرز تقدما كبيرا في جهود استعادة تأييد أوسع في الطبقة الوسطى المدينية في العاصمتين، أنقرة وإسطنبول، كما لم يحقق تقدما ملموسا في استقطاب قطاعات أوسع من الناخبين الأكراد. لذلك؛ فإن العدالة والتنمية قد لا ينجح في استعادة رئاسة بلديتي إسطنبول وأنقرة إذا لم تتغير خريطة التحالفات الانتخابية بصورة جوهرية.
- فعلى الرغم من استبعاد تشكيل أحزاب المعارضة ائتلافا واحدا في انتخابات البلدية، لكن من المتوقع أن تتحالف تلك الأحزاب بشكل جزئي لدعم رؤساء البلديات الكبرى، خاصة إسطنبول وأنقرة، لضمان حرمان الحزب الحاكم من فرصة استعادتهما؛ لما لذلك من رمزية سياسية كبيرة. ومع هذا؛ تظل حظوظ الائتلاف الحاكم كبيرة للاحتفاظ بنسبة الأغلبية في انتخابات البلديات بصورة عامة، وستكون نتائج هذه الانتخابات ذات مغزى سياسي أوسع لأن العدالة والتنمية والرئيس “أردوغان” يريدون نفي أي شك حول مستوى التفويض الشعبي الممنوح لهم لكتابة دستور جديد للبلاد، وإجراء تعديلات قانونية جوهرية مثل تلك المرتبطة بنظام التعليم.
- تقدر وحدة المعلومات في مجموعة الإيكونيميست أن هناك تراجعا ملحوظا في مؤشر مخاطر عدم الاستقرار السياسي عقب الانتخابات التركية. لكن درجة الاستقطاب الداخلي ستظل مرتفعة، ومن المرجح أن يستمر ذلك طوال الأشهر القادمة متأثرا بموسم الانتخابات البلدية. كما أن تصاعد التوجهات القومية وتأثيرها على تفضيلات قطاع من الناخبين الأتراك، سيكون عاملا مهما في تغذية الاستقطاب المحلي، حيث ستكون الحكومة مطالبة بتوكيد السياسات التي تلبي توجهات هذه القاعدة، خاصة الإجراءات الصارمة ضد اللاجئين غير الشرعيين، وخطط إعادة اللاجئين السوريين، والحد من التسهيلات التي كانت مقدمة لإقامة الأجانب بصورة عامة.
الحالة الاقتصادية في تركيا
- بالإضافة لتعيين الاقتصادي البارز “محمد شيمشك” وزيراً للمالية، اتخذ “أردوغان” سلسلة من الإجراءات التي تهدف إلى طمأنة المستثمرين والأسواق الدولية، من ضمنها تعيين “حفيظة غاية أركان” محافظا للبنك المركزي، ومنح الفريق الجديد الضوء الأخضر للمضي قدما نحو سياسات اقتصادية أكثر تقليدية، وأكثر قابلية للتنبؤ.
- تحت إدارة الفريق الاقتصادي الجديد، شرع البنك المركزي منذ يونيو/حزيران، للمرة الأولى منذ أكثر من عامين، في رفع سعر الفائدة القياسي، بصورة متدرجة لكن كبيرة، حيث جرى رفعها إجمالاً على مدار ثلاث اجتماعات بواقع 16.5 نقطة مئوية (من 8.5٪ إلى 25٪). ومع هذا، تظل أسعار الفائدة الحقيقية بالسالب وبفارق كبير عند خصم معدل التضخم منها، حيث رفعت “حفيظة أركان”، توقعات البنك المركزي للتضخم في نهاية 2023 إلى 58%، وقدرت ذروته عند حوالي 60% في الربع الثاني من 2024. ومن المرجح أن تؤدي أسعار الفائدة المرتفعة إلى الحد من الانخفاض الحاد في قيمة الليرة، وبالتالي المساهمة في جهود كبح التضخم.
- استجابة لهذه الإجراءات، انخفض العائد الإضافي الذي يطلبه المستثمرون لاستمرار حيازة سندات تركيا السيادية فوق العائد على سندات الخزانة الأميركية المماثلة إلى367 نقطة أساس فقط، حسب بيانات “جيه بي مورغان”، وهو أدنى مستوى منذ تفشي وباء “كوفيد-19” أوائل عام 2020. وتُقيّم المؤسسات الغربية ارتفاع ثقة المستثمرين والتغيرات في القيادة باعتبارها “مشجعة”، حتى لو كان لا يزال هناك عدم يقين بشأن المسار في المستقبل.
- رفعت الحكومة التركية الفترة الماضية الضرائب على مجموعة متنوعة من السلع الأساسية والوقود، كما شددت من إجراءات مكافحة التهرب الضريبي، وذلك بهدف ضبط الموازنة العامة التي عانت من عجز شديد بسبب التعهدات المكلفة التي قُدمت خلال فترة الحملة الانتخابية السابقة، بالإضافة إلى احتياجات التمويل الناتجة عن زلزالي كهرمان مرعش وغازي عنتاب اللذين ضربا جنوبي البلاد في فبراير/شباط الماضي، حيث قدر وزير المالية “شيمشك” الأضرار الناتجة بنحو 104 مليار دولار. كما فرض البنك المركزي التركي مجموعة قواعد جديدة للحد من الاستدانة باستخدام بطاقات الائتمان، مع تقييد الإقراض في بعض القطاعات، ضمن خطط الحكومة لكبح التضخم.
- من المتوقع تماما أن الفريق الاقتصادي سيواصل سياسات التشديد النقدي من أجل تخفيف الضغوط التضخمية، والتي من المتوقع ألا تؤتي ثمارها إلا لاحقا قبل نهاية عام 2024. وعلى الرغم من أن السياسة النقدية الأكثر إحكاما من شأنها أن تضعف النمو الاقتصادي، خاصة فيما يتصل باستهلاك الأسر، لكنها ستوفر للأسواق قدرا أعظم من الاستقرار مقارنة بما كانت عليه في العامين الماضيين.
- تشير التقديرات إلى أن عجز الحساب الجاري التركي سيتقلص بشكل طفيف في عام 2023 إلى 5.0٪ من الناتج المحلي الإجمالي مقارنة مع 5.3٪ في عام 2022. بينما رفعت مؤسسة “فيتش سوليوشنز” توقعاتها بشأن نمو الناتج المحلي الإجمالي التركي لعام 2023 من 2.2٪ إلى 2.6٪ (مقارنة بإجماع بلومبرج عند 2.7٪)، متراجعاً عن 5.6٪ في عام 2022، وأقل بكثير من متوسط 5.7٪ المسجل بين عامي 2012 و2022. حيث تتوقع المؤسسة أن تعديلات السياسات الاقتصادية سوف تقلل من النمو الائتماني الذي كان محركًا رئيسيًا للنمو.
- لكنّ هذه التقديرات قد تكون أقل من المتوقع، حيث دأب الاقتصاد التركي خلال الأرباع الماضية على مخالفة توقعات المؤسسات الغربية، وسجل معدلات نمو أعلى من توقعاتها. وقد حقق الاقتصاد التركي ثاني أكبر معدل نمو خلال الربع الأول من العام الجاري بين دول الاتحاد الأوروبي، مسجلا نموا بنسبة 4٪ على أساس سنوي، ثم حقق معدل نمو 3.8٪ في الربع الثاني. لذلك؛ راجعت وكالة موديز للتصنيف الائتماني توقعاتها لنمو الاقتصاد التركي، ورفعتها من 2.6٪ إلى 4.2٪ خلال عام 2023.
- ظهر عامل جديد في الاقتصاد التركي، يتمثل في تنامي دور بنوك الإمارات العربية المتحدة في زيادة التمويل الذي تمنحه لمثيلاتها التركية وبالتالي سد الفجوة التي تركتها المصارف الغربية التي أظهرت إحجاماً عن اقراض السوق التركية خلال الفترة الأخيرة مع استمرار التحديات الاقتصادية التي تواجهها تركيا. حيث تولى بنكان رئيسيان من بنوك الإمارات، بنك الإمارات دبي الوطني وبنك أبو ظبي التجاري، ترتيب نحو 61٪ من القروض المصرفية المشتركة للبنوك التركية في الأشهر الأولى من العام الحالي، مقابل 15٪ فقط في الفترة نفسها من العام الماضي.
- ومن الواضح أن تركيا تكثف جهودها لجذب الاستثمارات من دول الخليج العربي الغنية؛ وتراهن أنقرة على دعم السعودية وقطر والإمارات لمشروعات إعمار مناطق الزلزال. وقد وقعت أبوظبي وأنقرة اتفاقيات ومذكرات تفاهم تقدر قيمتها بنحو 50.7 مليار دولار، خلال زيارة “أردوغان” لدول الخليج مؤخرا، من بينها مذكرة تفاهم بشأن الاستثمار في الصكوك لأغراض إعادة إعمار المناطق المتضررة من الزلازل. وفي مارس/آذار الماضي، أودعت السعودية 5 مليار دولار في البنك المركزي التركي، ووقعت تركيا والإمارات في نفس الشهر “اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة” التي تهدف إلى زيادة التجارة الثنائية إلى 40 مليار دولار سنويًا في غضون خمس سنوات.
- لكنّ توجه أنقرة لجذب الاستثمارات من دول الخليج، وتعزيز التجارة مع الصين، لا يقلل من حقيقة أن تركيا تظل جزءا لا يتجزأ من النظام الاقتصادي الغربي، ضمن مستوى عميق من التكامل بين الجانبين. حيث كانت ألمانيا وهولندا وسويسرا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة تاريخياً المصادر الرئيسية للاستثمار الأجنبي المباشر في تركيا، وفي عام 2021، قدمت هذه الدول ما يقرب من ثلثي هذا الاستثمار. كما أن الدول الغربية مازالت هي المشتري الرئيسي للسلع والخدمات التركية بنحو 63٪؛ ففي عام 2022، تلقت ألمانيا 8.4٪ من الصادرات التركية، والولايات المتحدة 6.7٪، والمملكة المتحدة 5.1٪، وتلقت عشر دول أوروبية أخرى 42.5٪. وستكون زيادة الصادرات إلى الغرب محورا أساسيا للانتعاش الاقتصادي في تركيا، جنبا إلى جنب مع الاستثمارات الخليجية، والصادرات المعنية هي في الغالب سلع صناعية، يؤدي إنتاجها إلى نمو الوظائف ذات الأجر الجيد.
العلاقات الخارجية التركية
- تقوم مقاربة الحكومة التركية للسياسة الخارجية على ضمان استمرارية التوجهات التي جرى تبنيها خلال السنوات القليلة الماضية، حيث سيواصل الرئيس “أردوغان” ووزير الخارجية “هاكان فيدان” السعي إلى تعزيز مكانة تركيا كقوة دولية متوسطة صاعدة تعزز نفوذها في البلقان والشرق الأوسط والقوقاز وآسيا الوسطى وأفريقيا.
- من المرجح أن يواصل “أردوغان” نهجا خارجيا متوازنا، تظل تركيا فيه عضوا فاعلا في الناتو، مع زيادة من هامش استقلالها عن النفوذ الغربي، ودون أن تكون معادية له. ومن المتوقع أن تركيز أنقرة على أولوية تحسين الاقتصاد سيجعلها أكثر ميلا لاحتواء التوترات مع الغرب؛ دون أن يمنع هذا من احتمالات تسجيل موجات من التوتر بين الجانبين، في ظل الخلافات بشأن قضايا حقوق الإنسان والقضية القبرصية والصراع في شرق البحر المتوسط، خاصة بعد تعزيز إدارة الرئيس الأمريكي “بايدن” التعاون العسكري مع اليونان وقبرص، بما يشمل التواجد العسكري في ميناء ألكساندروبوليس اليوناني، والقرار الأمريكي برفع حظر الأسلحة عن قبرص. وبالمثل، فإن فرنسا عززت من تواجدها العسكري في اليونان، وأرسلت إشارة واضحة حول انحيازها الاستراتيجي في مواجهة تركيا في شرق المتوسط.
- لكن الولايات المتحدة وقوى أوروبا الرئيسية ستحرص أيضا على احتواء التوتر مع تركيا في المرحلة المقبلة؛ فبينما تعتبر بعض الحكومات والأحزاب الغربية أن أنقرة باتت مجرد “حليف اسمي”، لكنّها لا تستطيع إدارة ظهرها لتركيا، عضو الناتو الذي يتمتع بموقع جغرافي استراتيجي، يمثل بوابة استثنائية للشرق الأوسط وآسيا الوسطى، بالإضافة إلى أهمية التعاون مع تركيا لاحتواء أزمة اللاجئين. بالإضافة لذلك؛ فإن نتائج الانتخابات التي أبقت “أردوغان” في الحكم لخمس سنوات قادمة، أظهرت أيضا شكوكا مستقبلية حول قدرة المعارضة على إنهاء حكم العدالة والتنمية، بما يفرض على قوى الغرب التعامل بواقعية أكثر مع أنقرة للحفاظ على مصالحها الجيوسياسية خاصة في ظل احتدام التنافس الدولي مع كل من الصين وروسيا.
- سيظل التقدم في ملف انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي أمرا غير مرجح خلال الأعوام المقبلة، نظرًا لمعارضة معظم دول الاتحاد الأوروبي لعضوية تركيا، لأسباب جيوسياسية بالأساس. وهناك احتمال بأن تنحصر المفاوضات عمليا في خطوات مثل تعديل اتفاقية الاتحاد الجمركي، والسماح للمواطنين الأتراك بدخول دول منطقة الشنجن دون شرط الحصول على فيزا مسبقة.
- ستواصل تركيا الاحتفاظ بعلاقة عمل مفيدة مع روسيا، لأسباب جيوسياسية واقتصادية. وبينما أدى تعميق العلاقات التركية الروسية، خصوصا صفقة شراء أنظمة الدفاع الجوي “S-400″، إلى خلق أزمة ثقة عميقة في علاقة تركيا مع حلفائها الغربيين، لا يزال من المستبعد أن تنهار العلاقات بين تركيا وحلفائها الغربيين ردا على التعاون التركي الروسي، خاصة وأن هذا التعاون لم يؤثر على موقف تركيا تجاه التمسك بوحدة أراضي أوكرانيا، وتقديم الدعم لها في الحرب. بالإضافة لذلك؛ فإن سياسة أنقرة المتوازنة تجاه الحرب في أوكرانيا، عززت من وضع الرئيس التركي “أردوغان” كوسيط قوي بين الغرب والرئيس الروسي “بوتين”، وهو أمر يساهم في تحقيق مصالح غربية ودولية.
- لا يتوقف الطموح التركي على الاستفادة من هذا الواقع بين روسيا والغرب على الحرب؛ إذ يعمل المسؤولون الأتراك على خطة لتحويل البلاد إلى مركز دولي لتداول الغاز الطبيعي، تبدأ من حقوق إعادة بيع الغاز الروسي وتصديره، وهو المقترح الذي طرحه الرئيس الروسي بالفعل. بالإضافة لذلك؛ تطمح أنقرة لمزج الغاز الروسي مع غاز بلدان أخرى مثل أذربيجان وإيران والعراق، وربما “إسرائيل”، وإعادة بيعه إلى أوروبا والمشترين الآخرين، وهذا يتطلب بطبيعة الحال استمرار التعاون مع روسيا، وفي نفس الوقت، الحفاظ على علاقات وثيقة مع الدول الأوروبية.
- من المرجح أن تتواصل جهود الحكومة التركية لتطوير العلاقة مع جيرانها الإقليميين، خاصة السعودية والإمارات ومصر و”إسرائيل”، خاصة وأن نتائج الانتخابات التركية أعطت دفعة لسياسة تركيا تجاه دول المنطقة التي تستهدف تعزيز التعاون والحد من الخلافات، كما أن دول الخليج باتت في المقابل أكثر حماسة لتعزيز العلاقات الاقتصادية والعسكرية بعد أن أظهرت الانتخابات أن أردوغان مازال رجل تركيا القوي. بينما من المرجح أن يكون التقدم في مسار تطبيع العلاقات مع النظام السوري محدودا، في ظل استبعاد أن تنسحب القوات التركية من شمال سوريا في المستقبل القريب.
- تعد المنافسة الجيوسياسية بين تركيا وإيران أحد أبرز الاتجاهات في السياسة الإقليمية للبلدين، لاسيما في العراق وسوريا وأذربيجان وآسيا الوسطى، دون إغفال حقيقة أن البلدين تمكنا من إدارة التنافس بينهما بحرص وحذر شديدين طيلة السنوات الماضية. وبينما كان الملف السوري أبرز ساحات الصراع، فقد بات النفوذ في آسيا الوسطى مؤخرا أكثر وضوحا؛ حيث تثير خطط تركيا وأذربيجان لفتح ممر زنغزور مخاوف إيران الأمنية والاقتصادية. كما أن جهود تركيا لتطوير العلاقات بين حلفائها في باكو وأربيل تعزز مخاوف إيران من أنها قد تواجه بحصار من النفوذ التركي في محيطها الجغرافي المباشر، خاصة وأن تنامي علاقات أذربيجان و”إسرائيل” جعل هذه المخاوف أكثر حساسية.
الحالة الأمنية في تركيا
- تؤثر الصراعات الدائرة في كافة مناطق الجوار التركي على استقرار البلاد وأمنها. فبالإضافة إلى اليونان وقبرص وبلغاريا، تمتلك تركيا حدودًا مع سوريا والعراق وإيران وأرمينيا وجورجيا، فضلا عن ارتباطها بروسيا وأوكرانيا من خلال البحر الأسود. ووفقًا للأمم المتحدة، تستضيف تركيا لاجئين أكثر من أي دولة أخرى على مستوى العالم (حوالي 3.7 مليون لاجئ). كما تعمل العديد من الجماعات الإجرامية والإرهابية وأجهزة المخابرات على مفترق الطرق الجيواستراتيجي الذي تقع فيه تركيا. ومع ذلك أثبتت البلاد أن لديها أجهزة أمن قادرة وفعّالة.
- من غير المرجح أن تؤدي النزاعات البحرية في شرق البحر الأبيض المتوسط مع اليونان إلى اندلاع حرب أو تصعيد عسكري؛ فكلا البلدين حاليا يميل للتهدئة وتفعيل آليات الحوار، كما أن كليهما يوافق على آلية حلف شمال الأطلسي لمنع التصادم. بالإضافة لذلك؛ تبدو احتمالات تدخل عسكري تركي جديد في شمال سوريا غير مرجحة في المدى القريب، ليس فقط لتجنب توترات جديدة مع الولايات المتحدة، ولكن أيضا لزيادة اعتماد تركيا على العمليات الأمنية النوعية بدلًا من العمليات العسكرية الشاملة، مستفيدةً من قدراتها الاستخباراتية وتفوق سلاح الطائرات المسيرة، والتي كان من أبرزها قتل “خليل منجي”، الذي وصفه الجيش التركي بـ”العقل المدبر” لتفجير شارع الاستقلال باسطنبول، عن طريق غارة جوية بالقرب من مدينة القامشلي السورية في 24 من شباط/ فبراير الماضي.
- ستواصل القوات التركية تنفيذ عملياتها في شمال سوريا والعراق ضد حزب العمال الكردستاني (بي كا كا) ووحدات حماية الشعب (YPG)، وليس من المحتمل أن تقدم فيه تنازلات للعراق أو سوريا. تعتبر تركيا أن تمدد الأحزاب الكردية المسلحة يمثل تهديدا رئيسيا لوحدة الأراضي التركية، وستواصل أنقرة الضغط على حكومتي بغداد وأربيل لمواجهة أنشطة تنظيم “بي كا كا” في سنجار ومخمور وقنديل والسليمانية، ضمن ما تقدر تركيا أنها خطة واسعة لوصل هذه المناطق مع ممر كردي عابر للحدود بين سوريا والعراق، حيث التداخل عميق بين قوات سوريا الديمقراطية “قسد” في شمال شرق سوريا ونشاط “بي كا كا” شمال العراق.
- وبينما جرى احتواء تمرد حزب العمال الكردستاني في المناطق الريفية في جنوب شرق البلاد، تبقى احتمالية استهداف الداخل التركي من خلال تنظيمات إرهابية ممكنة، ويتضح ذلك من الهجوم الذي جرى تنفيذه بعبوة ناسفة بدائية الصنع في شارع الاستقلال في إسطنبول، في 13 تشرين الثاني/نوفمبر 2022، وراح ضحيته ستة أشخاص. ولكن من غير المرجح أن تكون هذه الهجمات ذات نطاق واسع، ويرجع ذلك إلى مزيج من التدابير الأمنية القاسية، والاستخدام الفعال للقدرات الاستخبارية، بما فيها وسائل التكنولوجيا الحديثة مثل الطائرات بدون طيار، وتكتيكات مكافحة الإرهاب التي حدت من قدرة حزب العمال الكردستاني على العمل داخل البلاد.
- على الرغم من وجود نسبة معتبرة من السكان الأكراد متعاطفين مع منظمة حزب العمال الكردستاني، إلا أن هذا التعاطف لا ينطوي في معظمه على تأييد لأساليب المنظمة. لذلك؛ لم يواكب التمرد مظاهرات في المناطق الحضرية في الفترة 2015-2016، أو اضطرابات في المدن ذات الأغلبية الكردية، على عكس رغبة (بي كاكا) في تحويل ذلك القتال إلى تمرد حضري واسع النطاق. وعليه، فإن من غير المرجح حدوث احتجاجات عنيفة في جنوب شرق تركيا ذي الأغلبية الكردية خلال الفترة المقبلة.
- على الرغم من الاستقطاب الحاصل في المجتمع التركي في ظل الأجواء الانتخابية، والذي سيستمر حتى انتخابات البلدية، من غير المرجح أن يقود ذلك إلى حالات عنف مجتمعي؛ حيث باتت حدة الاستقطاب السياسي سمة معتادة للتنافس الحزبي في تركيا يعادلها رسوخ الممارسة الانتخابية، وكفاءة الإدارة الأمنية. لكنّ خطاب العداء للأجانب، المتصاعد بصورة لافتة، من قبل بعض التيارات القومية المتطرفة، من المحتمل أن ينتج عنه حوادث فردية ضد الأجانب بمن فيهم السائحين.