الحدث
أعلنت ألمانيا، في 14 يونيو/حزيران الجاري، عن استراتيجية الأمن القومي للمرة الأولى منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. وفقاً للاستراتيجية، تلتزم برلين برفع ميزانيتها الدفاعية بما يلبي قرارات حلف شمال الأطلسي “الناتو” بإنفاق الدول الأعضاء 2% من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع، وذلك بعد أن أنفقت ألمانيا 1.5% فقط من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع العام الماضي. فيما أشارت الحكومة الألمانية في وثيقة تعريفها بالاستراتيجية إلى سعيها لتعزيز قدرات الجيش الألماني، لأداء مهامه الأساسية المتمثلة في الدفاع عن الوطن ودوره في إطار حلف الناتو.
التحليل: استراتيجية الأمن القومي تجدد التزام ألمانيا بالتكامل الأوروبي والناتو
قبل ما يقرب من عام ونصف، اعتبر المستشار الألماني “أولاف شولتز” بأن الغزو الروسي لأوكرانيا نقطة تحول في تاريخ ألمانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية، تستلزم تغييرا جوهريا في سياسة ألمانيا الدفاعية. وكشفت حرب أوكرانيا عن تحديات تواجه ألمانيا بما في ذلك أوجه القصور في الجيش الذي يفتقد الجاهزية الكافية لتلبية متطلبات القتال الدفاعي بسبب سياسة تقليص حجم وتسليح الجيش التي اتبعتها برلين بعد نهاية الحرب الباردة، وكذلك الاعتماد المفرط على الغاز الطبيعي الروسي الذي يمثل أكثر من نصف واردات الغاز إلى ألمانيا، والاعتماد على الصين في التجارة والمواد الخام الهامة.
- وتؤكد استراتيجية الأمن القومي على ثلاث ركائز للأمن الألماني، هي:
- أولاً، الدفاع: تحسين قدرة ألمانيا على الدفاع عن نفسها، بما في ذلك تقوية الجيش وزيادة الإنفاق العسكري المتمثل في 2% من الناتج المحلي الإجمالي اعتبارًا من العام المقبل، والتركيز على الردع، ودعم الدفاعات السيبرانية.
- ثانياً، المرونة: وتشمل القوة الداخلية كأساس للصمود، والتي تتطلب أن يكون المجتمع والاقتصاد مرنين وقابلين للتكيف ومستقرين. ولذلك، تستهدف الدفاع عن نظام ألمانيا الديمقراطي الحر ضد النفوذ الخارجي، بالإضافة إلى تقليل الاعتماد الاقتصادي على المنافسين وتنويع سلاسل التوريد.
- ثالثاً، الاستدامة: من خلال معالجة قضايا تشمل تغير المناخ وأزمتي الطاقة والغذاء.
- تتبنى الاستراتيجية نهجا شاملا ومتكاملا للأمن، يضم إلى الجوانب العسكرية والأمنية التحديات التي يفرضها تغير المناخ والتراجع الديمقراطي والرعاية الصحية. وتستهدف الاستراتيجية جعل الجيش الألماني أحد أكثر الجيوش التقليدية فاعلية في أوروبا، مما يرسخ أقدام ألمانيا كقوة عسكرية قادرة على مواجهة التهديدات الروسية، ولعب دور بارز في حلف الناتو والاتحاد الأوروبي؛ وهذا بدوره سيقود إلى تغيرات عميقة في مسار سياسة ألمانيـا الأمنية والدفاعية. بالإضافة لذلك، تقر الوثيقة تشكيل وكالة لمواجهة الهجمات السيبرانية وسط المخاوف من حروب هجينة قد تشنها دول مثل روسيا.
- تؤكد وثيقة استراتيجية الأمن القومي على “أننا نعيش في عصر تعددية قطبية متزايدة”، ومن ثم تعتبر التكامل الأوروبي عملية لا غنى عنها لألمانيـا، وتدعم توسيع الاتحاد الأوروبي ليشمل دول غرب البلقان وأوكرانيا ومولدوفا وجورجيا.وتشدد بصورة خاصة على “الصداقة الوثيقة” مع فرنسا. ولا تترك الوثيقة مجالا للشك حول موقع حلف الناتـو كحجر الزاوية في استراتيجية برلين الأمنية، وموقع ألمانيـا “المتجذر” في الحلف والذي يعبر عن “الشراكة مع الولايات المتحدة”.
- تؤكد الاستراتيجية الألمانية على نهج أكثر صرامة تجاه روسيا التي تصنفها كـ”أكبر تهديد للسلام والأمن في المنطقة الأوروبية الأطلسية”، وذلك تراجعا عن سياسة ألمانيـا منذ عقود والتي اتسمت بالحذر والفصل بين التعاون الاقتصادي والقضايا السياسية في علاقتها مع روسيا.
- تصف الاستراتيجية الألمانية الصين بأنها شريك ضروري لا يمكن بدونه حل العديد من التحديات العالمية، ولكنها تؤكد في الوقت عينه أن بكين أصبحت لا تمثل فقط “منافس” (competitor) بين القوى الدولية، لكنّها أيضا خصم نظامي (systemic rival) كونه يسعى لإعادة تشكيل النظام الدولي وفق توجهاتها الخاصة.
- تعد الصين قضية خلافية داخل الائتلاف الحاكم الألماني، ويجري تطوير استراتيجية للتعامل مع بكين من المقرر نشرها في يوليو/تموز المقبل. حيث يعتمد نهج “شولتز” على الواقعية في التعامل مع بكين التي تعد الشريك التجاري الأهم لألمانيـا (حجم التبادل التجاري يصل إلى 325 مليار دولار) وذلك من خلال التعاون مع التركيز على التخلص من المخاطر المتمثلة في أمن سلاسل التوريد والابتكار والتكنولوجيا والوصول إلى الموارد الطبيعية. بينما يتخذ حزب الخضر -أحد أحزاب الائتلاف الحاكم- موقفا أكثر تشددا يدعو إلى الارتكاز في العلاقات مع الصين على حقوق الإنسان وقيم الديمقراطية.
- ثمة بعض الشكوك حول قدرة الائتلاف الحاكم في ألمانيـا على الالتزام بتعهدات زيادة الانفاق الدفاعي إلى متوسط 2٪ من الناتج المحلي الإجمالي، وتوسيع قدرات البلاد العسكرية. لكن استراتيجية الأمن القومي تشير إلى الاعتماد جزئياً في تحقيق ذلك، خلال المدى القريب، على صندوق دعم الجيش الألماني البالغ 100 مليار يورو. بينما أوضح وزير المالية “كريستيان ليندنر” أن بلاده لعقود عديدة “عاشت على مكاسب السلام”، ومن ثم تراجع الاهتمام كثيرا بمسألة الدفاع، مضيفا خلال إعلان الاستراتيجية أن “هذا يعني أن الحصص في الميزانية ستتغير بشكل مستدام”، وهي إشارة واضحة لتوجهات بعيدة المدى.
- من جهة أخرى، تسببت الخلافات داخل الائتلاف الحاكم في التخلي عن خطط تأسيس مجلس للأمن القومي – على غرار دول الناتـو الرئيسية مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وتركيا وفرنسا – والذي كان من شأنه أن يجعل عملية صنع القرار مركزية، ويمنح برلين القدرة على التنسيق الفعال بين مؤسسات الدولة ومتابعة تنفيذ الاستراتيجية بشكل منتظم.
- بغض النظر عن الشكوك والانتقادات، الأكيد هو أن استراتيجية الأمن القومي تشير إلى التحول الجذري الذي تمر به ألمانيـا، وتغير رؤيتها الاستراتيجية بعد التحولات الجيوسياسية التي شهدتها القارة في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا، وتؤسس الاستراتيجية لدور مختلف لألمانيـا يستند إلى الوعي بثقلها كونها “الأكثر سكانا والأكبر اقتصادا” في أوروبا، وبالتالي مسؤوليتها عن السلام والأمن والازدهار، وتُعيد الاستراتيجية الاعتبار لدور المعايير الأمنية والجيوسياسية في صنع القرار الألماني.