تتميز مملكة ليسوتو الجبلية الواقعة في أعماق المرتفعات الأفريقية -وتحيط بها جنوب أفريقيا من جميع الجهات- بأهم مورد على الإطلاق: الماء، فمنذ التسعينيات، عملت منظومة سدود ضخمة على تسخير هذه الثروة الطبيعية بتطويق روافد الأنهار وإعادة توجيه تدفقها، يحافظ مشروع مياه ليسوتو الآن على حياة عشرات الملايين من الناس بامتداد حوض نهر أورانج وهي منطقة أكبر من المملكة نفسها بـ25 ضعفاً.
لكن المشكلة التي تواجه ماسيرو (عاصمة ليسوتو) اليوم، هي التضخم. إذ أن الاتفاق الموقع بينها وبين جنوب أفريقيا لا يراعي انخفاض أسعار العملات، حتى أصبحت نسبة رسوم الماء التي تُدفع لصالح ليسوتو أقل من سعر السوق.
منصة أسباب وبالشراكة مع Caspian Report، تقدم لكم في هذا الفيديو تفاصيل مشروع مياه ليسوتو وأهميته لجنوب أفريقيا
بعد الستينات تحولت ليسوتو إلى ملكيةٍ مستقلة عندما أصبحت جنوب أفريقيا دولةً جمهورية، وسرعان ما بدأت الجاذبية الاقتصادية لجنوب أفريقيا في جذب الباحثين عن العمل من أبناء الباسوتو الذين يسكنون المرتفعات، فتحولت المملكة سريعاً إلى دولةٍ تابعة رغم أن البلدين لا يربط بينهما سوى خط قطارات واحد. ولهذا لم يجد المسؤولون في جنوب أفريقيا سبباً كافياً لضم المملكة رسمياً ولم يهتموا بالأمر مطلقاً.
استغلال موارد ليسوتو المائية
مع الوقت، تضاعف تعداد سكان جنوب أفريقيا من 2.5 مليون إلى 22 مليون نسمة بين عامي 1870 و1970، وتركز الشطر الأعظم من هذا النمو في مقاطعة غاوتنغ مدفوعاً بالتحول الصناعي. وزاد التحول الصناعي الضغط على الأمن المائي لجنوب أفريقيا.
فماذا فعلت حكومة جنوب أفريقيا؟
- استجاب مهندسو الحكومة بوضع خطط نقل المياه ومشروعات الري بما في ذلك مشروع نهر أورانج وخطة توغيه لافال لنقل المياه
- نجح كلاهما في نقل المياه من جوهانسبرغ وبريتوريا عبر نهر فال لكنهما كانا أصغر من تلبية احتياجات الحوض المائية على المدى البعيد
- تحولت الأنظار إلى ليسوتو التي كانت موطناً لنصف معدل هطول الأمطار في الحوض رغم مساحتها التي لا تتجاوز 4% من المنطقة
- دخلت بريتوريا في مفاوضات مع ماسيرو بدايةً من الستينيات
- كان العرض مباشراً إذ ستدفع جنوب أفريقيا رسوماً سنوية مقابل استغلال موارد ليسوتو المائية
- يشمل هذا بناء مجمع سدود سيمد المملكة بفرص العمل والبنية التحتية الضرورية للنقل والطاقة الكهرومائية
- أُجرِيت دراسة الجدوى عام 1983 ثم وُضِعَت الخطط بعدها بعامين لكن مع بعض التحفظات
- أدركت ماسيرو سريعاً أن إنشاء خزانات صناعية للمياه سيؤدي لإغراق ما تبقى من أراضي ليسوتو الصالحة للزراعة
- وضع البيض كله في سلة السد يعني تسليم السيادة الاقتصادية فعلياً إلى جنوب أفريقيا
- مثلت حكومة الفصل العنصري نقطةً شائكة أيضاً لأن المسؤولين من الباسوتو لم يثقوا في أن بريتوريا ستعاملهم كشركاء متساوين
- غضبت بريتوريا عام 1985 نتيجة إيواء ليسوتو للمقاتلين المناهضين للفصل العنصري فقامت بتدبير انقلاب داخل ماسيرو تبعه قيام حكومة ليسوتو الجديدة بطرد المقاتلين وتوقيع اتفاقية في العام التالي لإطلاق مشروع مياه ليسوتو
مشروع مياه ليسوتو
يتكون مشروع مياه ليسوتو من عدة مراحل.
المرحلة الأولى
وجرى إتمام النصف الأول من المرحلة الأولى عام 1998 بتكلفة بلغت 8 مليارات دولار وتألف من سدين رئيسيين هما:
- كاتسي
- مويلا
- يعتبر سد كاتسي بمثابة جوهرة في تاج مشروع مياه ليسوتو بارتفاعٍ يصل إلى 186 متراً.
- يسد تدفق نهر ماليباماتسو لإنشاء خزان مياه بسعة ملياري متر مكعب تقريباً أي أكبر من ميناء سيدني بنحو أربعة أضعاف.
- يمتد منه نفقٌ مائي بطول 45 كيلومتراً وصولاً إلى محطة أخرى للطاقة الكهرومائية في سد مويلا.
- من هنا، يمتد نفق توصيل آخر بطول 37 كيلومتراً لنقل المياه إلى نهر أص وانتهاءً بسد فال مما يوفر تدفقاً ثابتاً إلى مركز غاوتينغ الصناعي بما في ذلك بريتوريا وجوهانسبرغ
بينما جرى إتمام النصف الثاني من المرحلة الأولى عام 2003، وتألف من سدين في أعلى المجرى:
- موهالي
- ماتسوكو
- جرى ربط سد موهالي على نهر سينكيانا بسد كاتسي عبر نفقٍ بطول 32 كيلومتراً.
- كما ارتبط سد ماتسوكو بكاتسي عبر نفقٍ بطول 6 كم.
- تستطيع هذه السدود تخزين الماء في سد موهالي أو نقل الماء إلى سد كاتسي تمهيداً لإرساله إلى جنوب أفريقيا
أرباح مشروع مياه ليسوتو
ليسوتو
- تصل أرباحه السنوية إلى ما يعادل 70 مليون دولار أي نحو 5% من إيرادات الدولة
- وفرت الطاقة الكهرومائية من السدود مصدر طاقةٍ رخيص لأبناء ليسوتو
- تحققت وعود تحسين الطرق إلى حدٍ كبير مما يعني أن مملكة ليسوتو استفادت على المدى القصير
جنوب أفريقيا
- يعتمد أكثر من 20 مليون من مواطنيها الآن على مشروع مياه ليسوتو خاصةً في جوهانسبرغ وبريتوريا
- تحافظ مياه ليسوتو على تدفئة محطات الطاقة بمرتفعات مبومالانجا وصيانة المصانع الكيماوية في ساسول واستمرار تشغيل مناجم الذهب في الولاية الحرة
- تمد بلدات ليمبوبو بالمياه بالإضافة إلى مناجم البلاتين في الشمال الغربي ومناجم الألماس في كيمبرلي
- تلعب ليسوتو دوراً لا بديل له في ضمان الاستقرار السياسي والاجتماعي وتحقيق الرخاء الاقتصادي لجنوب أفريقيا
- تتجلى أهمية مشروع مياه ليسوتو فيما حدث أواخر عام 1998 بعد أشهر من افتتاح النصف الأول من المرحلة الأولى عندما تدخلت جنوب أفريقيا عسكرياً في ليسوتو من أجل إخماد انتفاضةٍ سياسية
وتحولت ليسوتو منذ ذلك الحين إلى برج مياه مصنوع خصيصاً لجنوب أفريقيا.
إقرأ أيضاً:
“بلينكن” في أفريقيا: سياسة أمريكا الجديدة نحو القارة لا تخفي تراجع أولوياتها
مشروع تخضير أستراليا.. هل تنجح جهود تحويل المناطق النائية في القارة الأكثر جفافا؟
ما أبرز مشروعات مصر لاستصلاح الأراضي؟
أزمة سد النهضة .. فرص الدبلوماسية والحرب
المرحلة الثانية
أجبر النمو السكاني جنوب أفريقيا وليسوتو على إطلاق المرحلة الثانية من مشروع مياه ليسوتو عام 2014، ومن المقرر الانتهاء من المرحلة الثانية عام 2027.
- ستتألف من سد بوليهالي الذي سيصل ارتفاعه إلى 170 متراً لإنشاء خزان مياه على نهري سينكيانا وخوبيلو
- تصل سعته التقديرية إلى ملياري متر مكعب أيضاً مما سيغذي سد كاتسي بالماء عبر نفقٍ آخر ويزيد توليد الطاقة في محطة موالي بنسبة 60٪ وهو رقمٌ كافٍ لمساعدة ليسوتو في تحقيق الاكتفاء الذاتي
- بعدها ستشهد المرحلة الثالثة بناء سد تسوليك عند ملتقي نهري تسوليك وسينكيانا
- سيقع سد تسوليك في أسفل المصب على بعد 90 كيلومتراً من سد ماشاي مع سعة تخزين تصل إلى 2.2 مليار متر مكعب
- المرحلة الرابعة ستشهد بناء سد نتيهواي ومحطة ضخ على بعد 40 كيلومتراً من سد تسوليك المطل على نهر سينكيانا
- سيتألف مشروع مياه ليسوتو في النهاية من 200 متر من الأنفاق الممتدة بين جنوب أفريقيا وليسوتو ليمتلك سعةً إجمالية تساوي ضعف سعة سد هوفر ينقل نحو ملياري متر مكعب من الماء سنوياً من ليسوتو إلى جنوب أفريقيا
سلبيات مشروع مياه ليسوتو على الأرض
يمتلك المخططون الكثير من الإحصاءات التي تدعم اتجاه الحكومة لكن الواقع على الأرض كان مختلفاً بعض الشيء حيث خلف مشروع مياه ليسوتو اضطرابات بعيدة المدى.
- أدى فقدان الأراضي الصالحة للزراعة إلى حرمان أبناء الباسوتو من مزارعهم الضرورية
- عندما نفقت قطعان الماشية بسبب نقص المراعي تعرضت المراعي المتبقية لاستهلاكٍ مفرط حولها إلى أراضٍ قاحلة
- لم يعد العشب الطويل ينمو بما يكفي ولم تعد هناك أشجار كافية لصنع الحطب من أجل تدفئة السكان على قمم المرتفعات المتجمدة وأصبح الناجون يتقاتلون على الفتات
- اعتاد أبناء شعب الباسوتو على طلب المشورة من أسلافهم لكن هذا لم يعد بالإمكان الآن لأن المياه غمرت قبور أسلافهم
- تطويق موارد ليسوتو المائية قد جلب معه فساداً ممنهجاً أيضاً حيث تتنافس شبكات المحسوبية وكتل السلطة المتنافسة من أجل الفوز بالعقود والامتيازات
- رغبة بريتوريا في استقرار إمدادات المياه أصبحت تعتمد على استقرار ليسوتو مما جعل جنوب أفريقيا أكثر استعداداً للتدخل في الشؤون السياسية لجارتها
- أصبح التأثير على سيادة ليسوتو سلبياً بالكامل لكن الصدمة الأكبر تأتي على صعيد الاتفاق الذي لا يغطي التضخم
- معدل الرسوم التي تُدفع إلى ليسوتو حالياً أقل من أسعار السوق العالمية أي إن ليسوتو الصغيرة تقدم الدعم حالياً لإمدادات المياه في جنوب أفريقيا
- سنشهد بروز مشكلات غير مرئية جديدة في حال الانتهاء من المرحلتين الثالثة والرابعة
- تنبأ العديد من علماء المناخ بأن معدلات هطول الأمطار في ليسوتو ستنخفض بنسبةٍ كبيرة خلال الـ50 عاماً المقبلة
- في حال قررت ليسوتو إعادة تخصيص خزاناتها للاستخدام في الأغراض المحلية فمن المرجح أن تتدخل جارتها جنوب أفريقيا في شؤونها السياسية
- في جميع الأحوال سيتعرض الآلاف من شعب الباسوتو للتهجير في المرحلتين الثانية، والثالثة والرابعة