الخلاصة
● أصبح ” غوستافو بيترو ” أول رئيس يساري في تاريخ كولومبيا، التي تعتبرها واشنطن أهم حليف إستراتيجي في أمريكا اللاتينية. وعلى الرغم من أن الأجندة السياسية التي يتبناها تعني أن العلاقات مع واشنطن يمكن أن تتعرض لاختبار، فإن ثمة شكا واسعا في أنه يتبنى نهجا عدائيا تجاه أمريكا؛ في ظل الشراكة طويلة الأمد. ومن المرجح أن واشنطن ستنتهج سياسة منفتحة للتعامل مع “بيترو”.
● يعد فوز “بيترو” هو الحلقة الأحدث لفوز قادة من اليسار في أمريكا اللاتينية بعد بيرو وتشيلي، نتيجة تداعيات سياسية واجتماعية دفعت الناخبين لمعاقبة الحكومات في جميع أنحاء القارة. غير أن استطلاعات الرأي تشير إلى أن البرازيل من الممكن أن تعود في انتخابات أكتوبر/تشرين الأول القادم مجددا لرئاسة “لولا” لتصبح كافة دول أمريكا اللاتينية الرئيسية تحت حكم اليسار.
● هذه الموجة من اليسار تبدو مختلفة عن يسار الماضي، فصعود اليسار الجديد هو نتاج للتطور السياسي في المنطقة وتداعيات الوباء، ولا يمثل نسخة أيدولوجية تقليدية بقدر ما يتبنى نهجا أكثر واقعية لتلبية الاحتياجات الاقتصادية. وتتصدر أولويات هؤلاء قضايا تغير المناخ ووعود التصدي لعدم المساواة الاقتصادية ومحاربة الفساد وزيادة دور الدول في توفير خدمات الصحة والتعليم والضمان الاجتماعي. أي أن التحديات تفرض على الرؤساء اليساريين الجدد أولويات غير أيدولوجية.
● من المبكر التقدير بأن المنطقة تتجه إلى مواقف معادية لأمريكا ومعادية للسوق، فمن المرجح أن خلافات ستكون حاضرة في علاقة الولايات المتحدة مع هؤلاء القادة، لكنّها ستكون بشأن السياسة والقضايا الجيوسياسية أكثر من كونها مواجهة بين أطراف تحركها دوافع العداء.
● من الممكن أن تتطور علاقات هؤلاء القادة إلى ترتيبات أكثر استقلالية، تمتلك فيها أمريكا الجنوبية زمام المبادرة، وتفتح المجال أمامهم لإعادة ترتيب أولويات علاقاتهم مع أمريكا وروسيا والصين.
● في المقابل، ستظل الهيمنة على الكاريبي أولوية جيوسياسية لواشنطن لا تقبل المساومة، وستعزز الولايات المتحدة نهجها الحالي الذي يقوم على تعزيز الشراكة الاقتصادية والأمنية مع دول المنطقة. ومن المرجح استمرار اهتمام موسكو بتعزيز علاقاتها في أمريكا اللاتينية، لكنّها ستظل محدودة نسبيا في المستقبل القريب مقارنة بوتيرة صعود النفوذ الاقتصادي الصيني في المنطقة.
كولومبيا في أيدي اليسار.. أخيرا
- في انتصار تاريخي لليسار، فاز المرشح “غوستافو بيترو” رئيس بلدية العاصمة “بوغوتا” السابق، في جولة الإعادة للانتخابات الرئاسية في كولومبيا في 19 يونيو/حزيران 2022. فقد حصل “بيترو” على 50.4٪ من الأصوات مقابل 47.3٪ لمنافسه مرشح اليمين المستقل “رودولفو هيرنانديز”. أصبح “بيترو“، -الذي كان ينتمي لإحدى حركات التمرد اليسارية في الثمانينيات- أول رئيس يساري في تاريخ كولومبيا بمجموع أصوات 11.3 مليون صوت، وهي أعلى نسبة في تاريخ الانتخابات الرئاسية في كولومبيا. ولا تمثل حكومات اليسار ظاهرة جديدة على أمريكا اللاتينية. لكنّ كولومبيا ظلت هي الاستثناء؛ حيث هيمن يمين الوسط تاريخيا على مؤسسة الحكم في البلاد، وهو أحد الأسباب التي عززت موقع كولومبيا كحليف رئيسي للولايات المتحدة.
- قدم “بيترو” برنامجا سياسيا يساريا يفتح المجال لتحول ملموس في السياسة الداخلية والخارجية لكولومبيا يمثل الانتقال إلى الطاقة النظيفة أحد ركائزه؛ إذ يتعهد بإلغاء التراخيص الجديدة للتنقيب عن النفط، وإلغاء الحوافز الضريبية لمستثمري النفط والتعدين. كما يشمل البرنامج إصلاحات جذرية وإعادة توزيع الثروة ودورا أكبر للدولة في الصحة والتعليم والضمان الاجتماعي لمواجهة غياب المساواة الاقتصادية. فبينما حققت البلاد معدلات نمو اقتصادي قوية نسبيا خلال العقدين الماضيين وظهرت كواحدة من الوجهات الاستثمارية الأكثر جاذبية في أمريكا اللاتينية، يعاني ما يقرب من نصف السكان من الفقر، كما أن الحصول على مستوى جيد من التعليم العالي والرعاية الصحية يعد أمرا محدودا.
- تعهد “بيترو” كذلك بزيادة الضرائب على أغنى 4 آلاف أسرة (5% فقط من السكان يدفعون ضرائب على الدخل الشخصي) وفرض ضريبة على أرباح الشركات من أجل تمويل الإنفاق الاجتماعي للسكان الفقراء. وأعلن التزامه بتسريع تنفيذ اتفاق السلام الموقع بين الحكومة الكولومبية وحركة القوات المسلحة الثورية المتمردة “فارك” (FARC) عام 2016، والذي أنهى خمسة عقود من الحرب بين الجانبين.
- لكنّ فوز “بيترو” بفارق ضئيل عن منافسه يسلط الضوء على الاستقطاب الكبير في كولومبيا، كما أن الكونغرس الكولومبي المفتت بين القوى السياسية يمثل تحديا رئيسيا للرئيس المنتخب؛ إذ يشكل ائتلاف “الميثاق التاريخي” الذي ينتمي إليه “بيترو” 23% فقط من مقاعده، بينما تمتلك الأحزاب اليمينية 60٪ من المقاعد.
- لذلك، من المرجح أن تصبح سياسة الانتقال إلى الطاقة النظيفة في مقدمة قضايا الخلاف الرئيسية بين الرئيس المنتخب من جهة، والأحزاب اليمينية ومستثمري النفط من جهة أخرى، خاصة وأن صادرات النفط توفر عائدات حكومية رئيسية وفرصا للاستثمار والتوظيف، حيث شكلت أكثر من 40% من إجمالي الصادرات وحوالي 20٪ من الإيرادات الضريبية عام 2021، ونحو 12٪ من الناتج المحلي الإجمالي.
- وبصورة عامة، من غير المرجح أن يدعم الكونغرس برنامج “بيترو” السياسي بصورة كاملة، وهو ما سيحد من قدرته على الوفاء بالكثير من وعوده، ومن ثم تراجع شعبيته وزيادة مخاطر الاضطرابات الاجتماعية. لذا قد يلجأ لتقديم تنازلات بشأن مقترحاته من أجل الحصول على دعم كافٍ من الكونغرس.
“ضبط“ العلاقة مع أمريكا عوضا عن “تدميرها“
- تَعتبر واشنطن كولومبيا أهم حليف إستراتيجي في أمريكا الجنوبية ومنطقة الكاريبي؛ حيث قدمت الولايات المتحدة أكثر من 13 مليار دولار من المساعدات العسكرية والاقتصادية منذ عام 2000. وفي عام 2017 أصبحت كولومبيا أول دولة في أمريكا الجنوبية تحصل على وضع “الشريك العالمي” لحلف شمال الأطلسي “الناتو”. وأعلنت أمريكا في مارس/آذار الماضي تصنيف كولومبيا حليفا رئيسيا من خارج الناتو. وفي الجانب الاقتصادي، أدت اتفاقية التجارة الحرة بين واشنطن وبوغوتا في عام 2012 إلى توسيع التجارة بين الجانبين لتصبح الولايات المتحدة الشريك التجاري الأول لكولومبيا.
- بالنظر إلى الأجندة السياسية، فإن فوز “بيترو” يعني أن علاقات واشنطن القوية مع بوغوتا يمكن أن تتعرض لاختبار. فقد دعمت واشنطن حملات مكافحة التمرد ومكافحة الاتجار بالمخدرات في العقدين الماضيين. لكن “بيترو” وعد بإعادة تقييم هذا التعاون مع واشنطن، كما دعا إلى إعادة التفاوض على أجزاء من اتفاقية التجارة الحرة بهدف دعم المزارعين والصناعات المحلية. وإضافة إلى ذلك، فإن سياسة التحول إلى الطاقة النظيفة ستنعكس على مصالح شركات النفط الأمريكية التي تلعب دورا مهما في قطاع الطاقة في كولومبيا. أخيرا، من المرجح أن يعيد “بيترو” العلاقات الدبلوماسية مع حكومة “مادورو” في فنزويلا بعد أن قُطعت في عام 2019 بتشجيع من واشنطن.
- لكن، كان من اللافت في خطاب الموافقة الذي ألقاه عقب فوزه، أن “بيترو” لم يدل بأي تعليقات تشير إلى أنه سيتخذ نهجا عدائيا تجاه الولايات المتحدة. وثمة شك واسع في أنه سيفعل ذلك في ظل الشراكة الاقتصادية والأمنية طويلة الأمد، واعتماد البلاد الواسع على تدفق أموال القطاع الخاص الأمريكي. ومن المرجح تماما أن واشنطن ستنتهج أيضا سياسة منفتحة للتعامل مع “بيترو”، حيث سارع وزير الخارجية الأمريكية “أنتوني بلينكين” إلى تهنئة “بيترو”، وقالت واشنطن إن لديها العديد من نقاط الاتفاق مع اليسار القادم.
- وحتى مسألة استعادة العلاقة مع فنزويلا من الممكن أن تمضي دون إثارة غضب واشنطن بصورة كبيرة؛ فقد جددت الحرب في أوكرانيا اهتمام الولايات المتحدة نفسها بإصلاح العلاقات مع فنزويلا. حيث أجرت واشنطن محادثات مباشرة مع نظام “مادورو”، ودعمت استئناف الحوار بين النظام والمعارضة، وخففت العقوبات النفطية على فنزويلا للسماح بصادرات محدودة إلى إسبانيا وإيطاليا. وتبدو البيئة الحالية هي الأكثر ملاءمة لاحتواء التوترات الأمريكية الفنزويلية منذ سنوات.
- يدرك “بيترو” حاجة كولومبيا للحصول على مساعدة فنزويلا في السيطرة على الهجرة ومكافحة التجارة غير المشروعة عبر الحدود. وقد أعلن بالفعل في 23 يونيو/حزيران أنه اتصل بالحكومة الفنزويلية بشأن إعادة فتح الحدود بين كولومبيا وفنزويلا، والتي تم إغلاقها منذ عام 2015. وبينما سيمضي في استعادة العلاقات مع فنزويلا، فإن “بيترو” على الأرجح سيسعى لعدم تأثير ذلك على علاقات الشراكة مع واشنطن والاستمرار في تلقي الدعم الاقتصادي والأمني.
- وبالمثل، فليس لدى الولايات المتحدة بدائل جيدة لضمان نفوذها في الكاريبي الذي طالما وفرت كولومبيا أحد أهم ركائزه؛ لأنه من المبكر تماما تصور أن فنزويلا يمكن أن تحل محل كولومبيا. أي أن التوقعات بشأن انقسام قريب بين الولايات المتحدة وكولومبيا تبدو غير مرجحة؛ لأن الهيمنة على الكاريبي ستظل أولوية جيوسياسية للولايات المتحدة لا تقبل المساومة.
إقرأ أيضاً:
قاعدة للصين في كمبوديا وشراكة اقتصادية أمريكية في آسيا .. احتدام التنافس ثنائي القطبية
أردوغان يستقبل رئيس فنزويلا: تركيا ماضية في نهج مستقل عن الغرب
مسارات الصعود الصيني، تحالف محتمل مع 3 دول
“جزر سليمان” محطة جديدة في الطريق إلى الحرب الباردة بين أمريكا والصين
بعيدا عن الراديكالية.. يسار أمريكا اللاتينية الجديد
- يعد فوز “بيترو” هو الحلقة الأحدث لتداعيات سياسية واجتماعية لجائحة كوفيد في أمريكا الجنوبية حيث ضرب الوباء اقتصادات هذه المنطقة بشكل عنيف، نتج عنه خروج 12 مليون شخص من الطبقة الوسطى في عام واحد. لذلك، عاقب الناخبون في جميع أنحاء القارة الحكومات، وكان الفائز هو اليسار. في بيرو انتُخب العام الماضي المعلم الماركسي “بيدرو كاستيلو”، في حين أعاد الناشط الطلابي السابق “غابرييل بوريك” (36 عاما) حكم اليسار إلى تشيلي التي تمثل نموذجا للسوق الحرة في المنطقة. وبعد كولومبيا، تتجه الأنظار الآن إلى البرازيل أكبر دول أمريكا اللاتينية، حيث يتصدر الرئيس السابق “لويس لولا دي سيلفا” استطلاعات الرأي للعودة إلى الحكم في أكتوبر/تشرين الأول المقبل. فإن حدث هذا ستكون كافة الدول الكبرى في المنطقة -بما في ذلك المكسيك والأرجنتين- تحت قيادة رؤساء يساريين.
- قادة اليسار هؤلاء يبدون مختلفين عن قادة الماضي، خاصة في حالة “بيترو“ و“بوريك“. فصعود اليسار الجديد هو نتاج للتطور السياسي في المنطقة، وتداعيات الوباء، وتحولات جيوسياسية أوسع في العالم. أي أنه لا يمثل نسخة أيدولوجية تقليدية بقدر ما يتبنى نهجا أكثر واقعية لتلبية الاحتياجات الاقتصادية، حيث تتصدر أولوياتهم قضايا تغير المناخ، ووعود التصدي لعدم المساواة الاقتصادية، ومحاربة الفساد، وزيادة دور الدول في توفير خدمات الصحة والتعليم والضمان الاجتماعي. كما يعكس نجاحهم تحولات اجتماعية؛ حيث دفعت الحركات النسوية كولومبيا والأرجنتين والمكسيك إلى إلغاء تجريم الإجهاض، واعترفت تشيلي العام الماضي بزواج المثليين. لذلك، كانت وعود حماية النساء والمثليين حاضرة في حملاتهم الانتخابية.
- وكما في حالة “بيترو“، يواجه الرؤساء اليساريون الجدد تحديات مماثلة تفرض عليهم أولويات غير أيدولوجية. ففي بيرو منعت المعارضة الرئيس “كاستيلو” من إجراء أي تغييرات رئيسية، وفي تشيلي رفضت الجمعية الدستورية اقتراحات صارمة بشأن تدابير حماية البيئة في قطاع التعدين الذي يعتبر المحرك الأساسي للنمو، وفي كلا البلدين يواجه الزعيمان بالفعل تراجعا في الشعبية على وقع ارتفاع التضخم، أما في المكسيك، فقد منع الكونغرس المكسيكي بعض مقترحات الرئيس “أوبرادور” الأكثر راديكالية.
- لذلك، من المبكر التقدير بأن المنطقة تتجه إلى مواقف معادية لأمريكا ومعادية للسوق، حيث لا يستند فوز هؤلاء بصورة أساسية إلى دوافع شعبية أيدولوجية معادية للولايات المتحدة والديمقراطية الليبرالية، بقدر ما يعكس الإحباط تجاه الأوضاع الاقتصادية، والرغبة في تجربة بديل لمؤسسة الحكم التي فقدت ثقة الناخبين. فمثلا، في كولومبيا اندلعت احتجاجات اقتصادية العام الماضي شارك فيها مئات الآلاف، وشهدت مقتل 43 مواطنا، وأظهرت استطلاعات الرأي أن 75٪ من الشعب يرفضون أداء الرئيس السابق. من المرجح أن خلافات ستكون حاضرة في علاقة الولايات المتحدة مع هؤلاء القادة، لكنّها ستكون خلافات على السياسة وأولوياتها، وليست مواجهة بين أطراف تحركها دوافع العداء.
بين واشنطن ومنافسيها.. أمريكا اللاتينية نحو تموضع أكثر استقلالا
- للولايات المتحدة تاريخ من علاقات العمل الناجحة مع بعض الرؤساء اليساريين في أمريكا الجنوبية، مثل رئيس أوروغواي “خوسيه موخيكا”، وحتى البرازيلي “لولا”. ومؤخرا يُظهر آخرون انفتاحا على واشنطن، كما في هندوراس حيث يتبنى الرئيس “شيومارا كاسترو” سياسة تحسين العلاقات مع الولايات المتحدة واختار استمرار العلاقة مع تايوان على توثيق العلاقة مع الصين. وحتى الرئيس الأرجنتيني “ألبرتو فرنانديز” اتجه لانفتاح تجارى لافت مع واشنطن رغم العلاقات القوية مع الصين.
- وعلى الرغم من أن الصين أصبحت الشريك التجاري الأول لبعض دول أمريكا اللاتينية (البرازيل وبيرو وتشيلي)، إلا أن الولايات المتحدة مازالت هي أكبر شريك تجاري للمنطقة بصورة إجمالية، ويمثل كبار شركاء الولايات المتحدة كل من كولومبيا والإكوادور والمكسيك. بالإضافة إلى ذلك، لا تزال الولايات المتحدة تتفوق بفارق كبير على الصين في حجم الاستثمار الأجنبي المباشر مع دول أمريكا اللاتينية، حيث قدمت الولايات المتحدة 22.6٪ من إجمالي الاستثمارات الأجنبية المباشرة لدول المنطقة في الفترة من 2015-2019، مقابل 5.6٪ استثمارات مباشرة من الصين في الفترة نفسها.
- كانت لقاحات “سبوتنيك” الروسية أول ما وصل إلى الأرجنتين وباراغواي ونيكاراغوا وبوليفيا وحتى الإكوادور. لذا لم يكن من المستغرب أن بعض هذه البلدان لم توقع على إعلان منظمة الدول الأمريكية تعليق وضع روسيا كمراقب في المنظمة، حيث امتنعت عن التصويت 8 دول بينها الأرجنتين والبرازيل والمكسيك وبوليفيا، وغابت نيكاراغوا. لكنّ 25 دولة في المنظمة -ومنهم تشيلي وبيرو والإكوادور- وافقت. وفي الجمعية العامة للأمم المتحدة، أدانت كافة دول أمريكا اللاتينية غزو روسيا لأوكرانيا، باستثناء كوبا ونيكاراغوا. وبينما تحفّظ رؤساء المكسيك والبرازيل والأرجنتين على إدانة “بوتين” علانية، وجّه “بوريك” -المنتخب حديثا في تشيلي- انتقادات حادة للرئيس الروسي عقب الغزو.
- تعكس هذه المواقف المتنوعة تباينات داخل نسيج قادة اليسار تجاه قضايا دولية ترتبط بالنظام الليبرالي ونفوذ روسيا، ولا تستند هذه التباينات لمواقف أيدولوجية فقط؛ باعتبار أن غالبية هؤلاء القادة من اليسار، ولكن أيضا يلعب توازن مصالحهم التجارية والجيوسياسية مع الولايات المتحدة وروسيا والصين دورا مهما في صياغة هذه المواقف.
- بالنسبة لروسيا، تتمثل القيمة الأساسية لأمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي في قربها الجغرافي من الولايات المتحدة. وتعتقد موسكو أنه طالما تتجاهل واشنطن مصالح روسيا في جوارها، فإنه يتوجب على روسيا تضخيم وجودها في أمريكا اللاتينية. وفي عام 1997، أعلن “بوريس نيمتسوف”، نائب رئيس الوزراء الروسي، أنه إذا حافظت روسيا على وجود في أمريكا اللاتينية، فقد يساعد ذلك روسيا في التعامل مع الغرب في الأراضي المجاورة لروسيا. وقد تم تعزيز هذه الرؤية في السنوات التالية؛ حيث أرسلت موسكو للمرة الأولى طائراتها وسفنها الحربية إلى نصف الكرة الغربي بعد الحرب الروسية الجورجية عام 2008 بفترة وجيزة، في حين تزامنت بوادر التعاون العسكري المتزايد مع نيكاراغوا مع ضم شبه جزيرة القرم. وفي عام 2013 أعلنت موسكو أن علاقاتها مع أمريكا اللاتينية ذات أهمية “إستراتيجية”.
- وطالما أن المواجهة بين روسيا والولايات المتحدة على المسرح العالمي لا يمكن تجنبها، فمن المرجح استمرار اهتمام موسكو بتعزيز علاقاتها في أمريكا اللاتينية. لكنّ روسيا غير قادرة بعد على تحمل وجود عسكري في المنطقة، كما أن تقديم التزام مالي طويل الأمد لأمريكا اللاتينية لا يبدو ضمن أولويات الكرملين. ومن ثم فإن العلاقات الروسية ستظل محدودة نسبيا في المستقبل القريب مقارنة بوتيرة صعود النفوذ الاقتصادي الصيني في المنطقة.
- معنى هذا أن قادة اليسار يمكنهم تغيير وجهة السياسة في القارة؛ فبينما يمتلكون مجالا أقل للمناورة حاليا في مواجهة الضغوط الاقتصادية، فإن بعض الفرص متاحة أيضا، خاصة فيما يتعلق بالتحالفات الأجنبية، نظرا للتحولات التي يمر بها التوازن الدولي بين قوى متنافسة.
- كذلك، من الممكن أن تتطور علاقاتهم إلى ترتيبات أكثر استقلالية؛ فقد أشار “بيترو” في مقابلة مع صحيفة واشنطن بوست في وقت سابق من هذا العام إلى أنه يتصور تحالفًا تقدميًا مع تشيلي والبرازيل. وإذا فاز “لولا”، فقد يكون هذا التحالف قوة معتبرة في نصف الكرة الغربي، ومن الممكن أن تكون هذه اللحظة التي تمتلك فيها أمريكا الجنوبية زمام المبادرة، بحسب ما يتوقع “برنارد أرونسون” كبير الدبلوماسيين الأمريكيين لأمريكا اللاتينية في عهد الرئيسين “جورج بوش” الأب و”بيل كلينتون”.
- لذلك، فإن انفتاحهم على العلاقات مع أمريكا لا ينفي تمتعهم باتجاه أكثر استقلالية يجب عدم تجاهله. فقد غاب الرئيس المكسيكي “لوبيز” عن قمة الأمريكيتين في لوس أنجلوس هذا الشهر؛ بعد أن رفض الرئيس “بايدن” دعوة كوبا وفنزويلا ونيكاراغوا. وأثناء حضور “بوريك” انتقد “بايدن” أيضًا قائلا إن واشنطن تضيع فرص تعزيز أهدافها الديمقراطية في أمريكا اللاتينية من خلال رفض التعامل مع خصومها.
- الخلاصة، إن دول أمريكا اللاتينية ستتجه أكثر مع الوقت للعمل بشكل أكثر استقلالية إذا استمرت تحت حكم اليسار، مما يفتح المجال أمامها لإعادة تحديد العلاقات الثنائية مع الولايات المتحدة وغيرها من القوى الدولية، خاصة الصين. في المقابل ستعزز الولايات المتحدة نهجها الحالي الذي يقوم على تعزيز الشراكة الاقتصادية والأمنية مع دول المنطقة، أو استخدام الإكراه الاقتصادي من خلال العقوبات.
المصادر
Business Monitor Online. (2022, June 20). Petro win signals ideological shift in Colombia, but Congress to dilute changes.
Caicedo, C. (2022, June 20). Colombian president-elect’s proposals to restrict extractive industries and raise corporate taxes likely to be frustrated by legislature. IHS Markit.
Economist Intelligence Unit (EIU). (2022, June 20). Gustavo Petro wins Colombian presidency.
Fedirka, A. (2022, June 20). No break with the US after Colombian election. Geopolitical Futures.
Fedirka, A. (2022, May 11). Latin America in a time of transition. Geopolitical Futures.
Gibbs, S. (2022, June 21). US rattled as left-wing president takes power in Colombia for the first time. The Times.
Rouvinski, V. (2017, February). Understanding Russian priorities in Latin America. Wilson Center.
Schmidt, S. (2022, June 21). As Latin America embraces a new left, the U.S. could take a back seat. The Washington Post.
Stratfor. (2022, June 21). The hard realities that await Colombia’s new left-wing president.
Turkewitz, J. & Glatsky, G. (2022, June). Left-winger’s victory is a sea change in Colombian politics. The New York Times.