تركيا من القوة الناعمة إلى الصارمة.. كيف غيّرت من نهج سياستها الخارجية؟

اعتمدت تركيا لسنوات على التجارة والدبلوماسية لفرض قوتها خارج أراضيها، واستطاعت بذلك اكتساب حلفاء جدد، لكن الاضطرابات الكثيرة التي أعقبت انتفاضات الربيع العربي منذ 2011 غيّرت الكثير على أرض الواقع، وفي ظل التهديدات المحيطة بالأراضي التركية، اضطرت أنقرة إلى انتهاج سياسة خارجية أكثر وضوحا وحزماً لتحقيق استقلالها الاستراتيجي. فكيف تحوّلت تركيا من استخدام قوة ناعمة لأخرى صارمة؟ وهل أثّرت بنفوذها على الدول المحيطة؟

منصة أسباب وبالشراكة مع Caspian Report، تقدم لكم في هذا الفيديو أسباب تغيّر نهج تركيا خارجيا منذ سنوات

رغم أن الموقع الجغرافي لتركيا جعلها جسرًا بين الشرق والغرب، وأتاح لها بسط نفوذها في البلقان، ومنطقة المتوسط، والقوقاز، والشرق الأوسط، ووسط آسيا، إلا أن أي اضطرابات بالمناطق المحيطة، تنعكس عليها.

وأبرز الأمثلة على ذلك:

  • الأعمال العدائية في سوريا
  • العقوبات على إيران
  • التمرد في العراق
  • اللاجئين من أفغانستان
  • التحركات الروسية في أوكرانيا والبحر الأسود
  • زعزعة الاستقرار في القوقاز والبلقان

فالموقع الجغرافي نفسه الذي يمنحها نفوذًا إقليميًا لا يُضاهى، يعرضها أيضًا لتحديات وأخطار فريدة من نوعها.

تركيا.. القوة الناعمة

تعامل واضعو السياسات في أنقرة منذ بداية الألفية الحالية مع الشؤون الإقليمية بالقوة الناعمة، فحاولوا تحقيق التناغم بين الديمقراطية العلمانية، والعقيدة الإسلامية والاقتصاد الليبرالي، ونجحوا في هذه السياسة، وأصبحت جمهورية تركيا نموذجًا تحتذي به دول الشرق الأوسط، ولفترة من الزمن بدا أن القوة التركية الناعمة تؤتي ثمارها.

إقرأ أيضاً:

تركيا وطالبان: حسابات جيوسياسية أوسع من مطار كابول

تقرير حالة دولة: تركيا

إعادة فتح الاقتصاد التركي وسط تحديات سياسية

الجمود والأفق المسدود في تسوية الأزمة السورية

كيف تحوّلت إلى القوة الصارمة؟

نشر معهد نيولاينز للتحليلات الاستراتيجية والسياسية في واشنطن، ورقة سياسات شرح فيها أسباب تحول تركيا من القوة الناعمة إلى القوة الصارمة، وكيف تحولت أنقرة بذلك إلى دولة واسعة النفوذ في المنطقة.

حيث أرجع الدكتور علي باكير من جامعة قطر إلى بداية 2010، حين اجتاحت المظاهرات السياسية العالم العربي، وأطاحت بحكومات بعض الدول، وكان على المسؤولين الأتراك أن يقرروا إما الانحياز إلى الحكومات، أم إلى الجموع المنتفضة في الشوارع، وقرر واضعو السياسات في أنقرة المراهنة على الانتفاضات الشعبية، لكن الأمور لم تسِر على النحو المتوقع.

  1. تدخلت تركيا للتوسط عند حكومة الأسد لكي تتوقف عن استعمال العنف المفرط، لكن الأخيرة اختارت قمع التظاهرات بالقوة، وطلبت المساعدة من إيران.
  2. تصاعدت التوترات، وأسرع اللاجئون بالفرار إلى تركيا
  3. سحب السوريون قواتهم من شمالي سوريا، بدافع ترك الأراضي لسيطرة مسلحين موالين لحزب العمال الكردستاني في تركيا، وتلا ذلك تزايد في الهجمات عبر الحدود من جانب مسلحي حزب العمال، ووحدات حماية الشعب.
  4. في 2015 تدخلت روسيا عسكريًا في ساحة القتال السورية، لتقلب الموازين على تركيا، وصار الخطاب السياسي أكثر تهورًا.
  5. أسقطت تركيا طائرة روسية اخترقت المجال الجوي التركي، ولم يُبد حلف الناتو إلا دعمًا فاترًا لها.
  6. قدّمت الولايات المتحدة الدعم لقوات الأكراد في شمالي سوريا، ما عزز النزعات الانفصالية.

وحينها تحولت تركيا إلى استعمال القوة الصارمة للحد من تراجع نفوذها، ثم جاء التغيير في 2014 عند انتخاب رئيس الوزراء حينها رجب طيب أردوغان رئيسًا للجمهورية.

عهد القوة الصارمة

بدأت أنقرة في بناء إمكاناتها العسكرية المستقلة، وكان التحول سلسًا، لأنها امتلكت بالفعل كل المقومات اللازمة لذلك، فلديها عدد كبير من السكان، وجيش قوي، واقتصاد ضخم، وقطاع أسلحة ديناميكي. ونتج عن ترسخ ذلك التحول مبادئ وسياسات خارجية أمنية جديدة وحازمة لتركيا.

  • في 2016 شنت تركيا عملية درع الفرات، وبعدها بعامين عملية غصن الزيتون، هاتان العمليتان أنشأتا منطقة فاصلة شمالي سوريا، لردع القوات الجهادية، والميليشيات المدعومة من إيران، والمتمردين الموالين لحزب العمال.
  • وقعت أنقرة اتفاقيات دفاع مشترك مع قطر والصومال والسودان وليبيا، ما أتاح لها بناء قواعد في الخليج والشرق الأوسط والقرن الأفريقي.
  • في 2017 أبرزت تركيا مكانتها باعتبارها دولة نافذة، وذلك في خضم الأزمة الدبلوماسية مع قطر، بعدما حاولت السعودية والإمارات التعدي على قطر، فأرسلت قواتها إلى الخليج.
  • اشترك الأتراك مع السلطات العراقية وسلطة إقليم كردستان في جهود تدريب الجنود على محاربة المتمردين.
  • امتد نفوذ تركيا حتى الصومال، فدربت أكاديمية “تركسوم” العسكرية التركية أكثر من 4000 فرد أمني وعسكري حتى يومنا هذا، وعزز هذا الجهد من قدرات الصومال على محاربة القوات الصومالية.
  • وهي تسعى إلى تعزيز موقفها في البحر الأحمر عن طريق تأسيس قاعدة في جزيرة سواكن التي كانت تابعة للعثمانيين، وقد حصلت أنقرة مؤخرًا على حق انتفاع بالجزيرة لمدة 99 عامًا، وتخطط لجعلها ميناء.
  • منذ 2019 ساعدت أنقرة أيضا حكومة طرابلس المعترف بها من الأمم المتحدة في ليبيا، في تحديث قوات الأمن التابعة لها، وتضمن هذا توفير الدعم، والتدريب على استعمال قذائف الهاون وأنظمة الدفاع الجوي، وعمليات خفر السواحل والقوات الخاصة.
  • تدخلت عسكريا في شمالي العراق في 2019، ومدينة إدلب السورية في 2020، ومنذ ذلك الحين دشنت 114 معسكرًا في سوريا، و37 في العراق.

بتأسيسها هذه القواعد الأمامية أمنت تركيا جبهتها الجنوبية، واكتسبت أفضلية على خصومها الجيوسياسين.

كما أنشأت القواعد التركية مناطق آمنة للمدنيين السوريين، ومنعت تدفق المزيد من اللاجئين إلى البلاد التي تستضيف بالفعل أكبر عدد من اللاجئين في العالم.

  • آخر عنصر في استراتيجية القوة الصارمة لديها، هو تعزيز قوتها البحرية في البحر الأسود وبحر إيجة وشرق المتوسط، وهذا المبدأ المسمى “الوطن الأزرق” يقوم على استعمال أدوات قانونية عسكرية لحماية المصالح البحرية لتركيا، إذ إن 87% من حركة التجارة التركية تتم بحرًا.

كيف نجحت في استعمال القوة الصارمة؟

الأمر مرتبط بمفهوم الاكتفاء الذاتي.

  • منذ 2014 انخفضت واردات الأسلحة الأجنبية بنحو 60% تزامنًا مع نمو قطاع الدفاع التركي.
  • بحلول 2019 جاءت أكثر من ثلاثة أرباع التوريدات الدفاعية لأنقرة من مصادر محلية، وقد كان هذا التحول مذهلًا.
  • انتقلت في الخمسين سنة الأخيرة من ثالث أكبر مستورد للأسلحة في العالم، إلى احتلال المرتبة الرابعة عشر في قائمة الدول المصدرة للأسلحة.
  • باتت الشركات التركية تصمم وتنتج مختلف أنواع الأسلحة الاستراتيجية، بما فيها الفرقاطات والغواصات والمروحيات والمدافع والصواريخ والقذائف.
  • تعمل تركيا حاليًا على تصميم دبابة مقاتلة رئيسية، ومقاتلة نفاثة من الجيل الخامس، ومركبات بحرية ذاتية القيادة.

الأزمة الاقتصادية

لكن حاجة تركيا إلى تحديث قوتها الصارمة نتيجة للأخطار المتزايدة في محيطها، كلفتها تكلفة باهظة رغم الأزمات الاقتصادية التي تمر بها البلاد، وإن استمر هذا الاتجاه يمكن أن تجد نفسها في موقف تُجبَر فيه على الاختيار بين السياسة والاقتصاد والأمن.

لذا؛ فإنه في الوقت الذي تحولت فيه أنقرة إلى القوة الصارمة لضرورة الوقت، أدركت أن القوة الصارمة في حد ذاتها وسيلة لا غاية.

ولكي تنتفع تركيا من المكاسب التي حققتها حتى الآن، يتوجب عليها أن تصل إلى اتفاقيات مستدامة، وأن تستعمل إلى جانب سياساتها الحازمة دبلوماسية واسعة لتهدئة التوترات من حولها.