تحولت رواندا من بلد فقير يعصف به العنف إلى واحدةٍ من أكثر اقتصادات أفريقيا أماناً ورخاءً في غضون بضع سنوات. إذ ازدهرت أعمالها التجارية وقلّت معدلات الجريمة فيما تُشير الأرقام الرسمية إلى أن عدد السياح قد تضاعف في وقت استضافت البلاد العديد من القمم العالمية والأحداث البارزة رفيعة المستوى منها كونغرس الفيفا وقمة الكومنولث.
واليوم، تعتزم القيادة الرواندية إطلاق ثورةٍ اقتصادية تحاكي قصة النجاح السنغافوري.
منصة أسباب وبالشراكة مع Caspian Report، تقدم لكم في هذا الفيديو إجابات لأسئلة مطروحة حول رواندا وتطورها
يُطلق على رواندا لقب أرض الألف تل، وهي دولة حبيسة صغيرة في شرق أفريقيا توازي مساحتها مساحة ألبانيا تقريباً.
تقع بين أوغندا وتنزانيا وبوروندي وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وقد حماها مناخ المرتفعات شبه الاستوائي من ويلات الملاريا وذبابة التسي تسي والاستعمار الأوروبي تاريخياً، تطورت رواندا إلى مملكة زراعية شبه إقطاعية وتمحورت المكانة الاقتصادية والاجتماعية فيها حول ملكية الماشي.
- كان أصحاب الماشية يُعرفون باسم التوتسي وكان بإمكانهم إقراض حيوانات الجر في مقابل الخدمات.
- أولئك الذين لا يملكون ماشية، فكانوا يعرفون باسم الهوتو وكانوا يضطرون للعمل في الأراضي من أجل لقمة العيش
أي إن انقسامات المجتمع الرواندي كانت قائمة بالفعل عند وصول الأوروبيين. ولذلك لم تواجه بلجيكا صعوبةً في هندسة سياسة فرق تسُد، إذ دمجت أبناء التوتسي في أجهزة النظام الاستعماري، وتمتّع المتعاونون معها بمزايا منها المكانة والثروة والتعليم.
في المقابل، فرض المسؤولون الاستعماريون الضرائب واستغلوا المواد الخام وجندوا العمالة الرخيصة من طبقة الهوتو الدنيا في الأساس، وأسفرت هذه التفرقة الواضحة نسبياً عن بناء وعي راديكالي في صفوف الهوتو، واستمر ذلك الوعي في أعقاب الاستقلال عام 1962 بينما ظهر من رحم الأزمة التالية زعيم رواندا الحالي، بول كاغامه، الذي ينتمي إلى التوتسي.
انقلاب 1973.. ديكتاتورية من أبناء الهوتو
لكن الأمر لم يدم طويلاً. حيث أدى انقلاب جرى عام 1973 إلى قيام ديكتاتورية من أبناء الهوتو.
- حاول كاغامه العودة إلى السلطة
- التدخل الفرنسي منعه من تحقيق ذلك
- بعد مفاوضات طويلة تم التوصل إلى اتفاق لتقاسم السلطة
- تم اغتيال رئيس الهوتو في أبريل/نيسان عام 1994
- شنت ميليشيات الهوتو حملة إبادة ضد أبناء بلدهم التوتسي بمساعدة من فرنسا واستخباراتها
في غضون ثلاثة أشهر تم القضاء على نحو عُشر سكان رواندا باستخدام الماشيتي والبنادق والأدوات الحادة، ونجح كاغامه في وقف الحملة بترتيب تدخلٍ آخر، وبعد أن صار القائد الفعلي لرواندا، تم تكليفه بإعادة بناء البلد الممزق وإصلاح انقساماته العرقية، لكن طريق المستقبل لم يتضح على الفور. إذ لا تمتلك رواندا الكثير من الثروات المعدنية كما هو معتاد في أفريقيا ما يعني أن الإصلاح الاقتصادي كان يحتاج إلى تخطيط مكثف من أجل التخلص من اعتماد البلاد على الزراعة.
رؤية 2020
- أطلقت الحكومة رؤية 2020 عام 2000 وهي عبارة عن استراتيجية تنمية اقتصادية على مدار عقدين بهدف:
- التوزيع الفعال للموارد النادرة
- خلق مناخ مواتٍ للاستثمار
- سعت بشكلٍ أساسي إلى إرساء سيادة القانون الفعالة من أجل القضاء على:
- الكسب غير المشروع والفساد
- إحلال التماسك التنظيمي
- تقليل المخاطر والتقلبات السياسية
ويبدو أن هذه السياسة قد آتت أكلها. إذ تعيش رواندا نموا اقتصادياً ثابتاً منذ عام 1994.
- قفز الناتج المحلي الإجمالي من 753 مليون دولار إلى 11 مليار دولار مع تسجيل صعودٍ مماثل في نصيب الفرد من الناتج المحلي
- انخفض معدل الفساد بشدة مقارنةً بالمعايير الأفريقية
- أصبحت معدلات الجريمة تساوي نصف المعدلات المسجلة في الولايات المتحدة
- تقول إحصاءات الحكومة إنها انتشلت قرابة المليون رواندي من هوة الفقر
وتُبرهن هذه المقاييس على تقدمٍ مذهل لشعب يفصله جيل واحد فقط عن تاريخ المجازر الجماعية الوحشية، لكن رواندا لن تتوقف عند هذا الحد لأن حكومة كاغامه وضعت خططاً كبيرة للمستقبل، وأثناء إرساء الأسس الأيديولوجية لتنمية رواندا اقتبس المسؤولون الكثير من قصة سنغافورة تحت قيادة لي كوان يو.
وهذا يشمل استغلال تدفقات رأس المال ونمو الناتج المحلي من أجل تحسين البنية التحتية والرعاية الصحية والتعليم والمرافق، وسيؤدي هذا من الناحية النظرية إلى سلسلة من ردود الأفعال التي ستجذب المزيد من الاستثمارات، كما تدعم المساعدات الخارجية الاقتصاد بنحو 1.3 مليار دولار سنوياً أي ما يُعادل خمسي ميزانية البلاد.
ولهذا كانت نتائج رواندا جيدةً على المقاييس التي ترصد ملاءمة البلاد للأعمال التجارية ومنها:
- تسجيل الشركات والأصول
- الحصول على تراخيص البناء
- الوصول إلى الكهرباء
- إنفاذ العقود وتوافر الائتمان وإجراءات تسوية الإعسار
وعلاوةً على البنية التحتية والمرافق، يريد كاغامه توجيه الاستثمارات الأجنبية إلى قطاع التقنية، وتتمثل الخطة في الابتعاد عن زراعة الكفاف والانتقال إلى الزراعة المستدامة بيئياً لزيادة عائدات التصدير، وتجري التطورات الأخرى على قدمٍ وساق في مجالات المعلوماتية وتقنيات الاتصال والذكاء الاصطناعي وجمع البيانات.
إذ تعاونت رواندا مع وكالة الفضاء اليابانية مثلاً لإطلاق أقمار للأرصاد الجوية، كما استخدمت الطائرات المُسيّرة في توصيل عينات الدم إلى المجتمعات الريفية، أما التطور الأهم من ناحية التنمية الوطنية، فهو تطوير وتوسعة الخطوط الجوية الرواندية الوطنية، وتُعَدُّ هذه السياسة محاكاةً لنجاح الخطوط الجوية السنغافورية.
الصين الإلهام الثاني لرواندا
لكن روانـدا تخفي جوهراً أكبر مما تبديه وليست سنغافورة هي مصدر إلهام كاغامه الوحيد، حيث أسست روانـدا عدة مناطق اقتصادية خاصة في عاصمتها سيراً على خطى الصين، وتُمثل الشركات الصينية العديد من المستثمرين الرئيسيين هناك. إذ يتم اليوم إنتاج الملابس، والمنتجات الصحية، والسلع الوسيطة على أراضي روانـدا.
بينما يحصل المزارعون الروانديون على تقنيات تساعد في تعزيز إنتاجية الأراضي، ويُمكن القول بعبارةٍ أخرى إن الصين تدرس تحويل كيغالي إلى مركز تجاري ولوجستي محتمل لتجارتها الأفريقي، وربما تكون تنمية الصناعة المحلية أمراً مرحباً به.
لكن بعض أبناء روانـدا ليسوا سعداء لأنهم لا يحصلون على الكثير من الفرص، ورغم ذلك، يصعب تقييم مستوى الاستياء الفعلي إذ لا تتمتع روانـدا سوى بالحد الأدنى من المعارضة السياسية وذلك رغم المكاسب الاقتصادية التي حققتها أو ربما كشرطٍ مسبق لتحقيقها.
حيث أظهرت الانتخابات الأخيرة عام 2017 معدل قبول للزعيم الحاكم بنسبة 99%، كما يؤدي المجلس التشريعي دور الختم المطاطي في الواقع بينما تتعرض الحريات المدنية للتقييد الشديد، ووصل الأمر إلى تعديل الدستور فعلياً عام 2015 من أجل السماح لكاغامه بتجاوز حدود فترة الرئاسة، لكن كاغامه قام بعمل رائع لتحسين وضع بلاده إجمالاً على الرغم من أوجه قصوره الديمقراطية.
وربما لا تظهر معدلات قبوله الحقيقية في الأرقام الرسمية لكن المؤكد هو أنه يتمتع بدرجة قبول كبيرة وذلك لأن العالم الذي يرغب في التعرض للتضليل سيتمكن من العثور على الساسة المناسبين للمهمة دائماً.
تعقيدات تواجه رواندا
ورغم أن كاغامه تعلّم دروسه من سنغافورة لكن هناك بعض الاختلافات الجغرافية الواضحة التي تزيد تعقيد المقارنات المباشرة.
أولا
- تُعَدُّ روانـدا دولةً حبيسة بينما تُعتبر سنغافورة جزيرة
أي إن منشآت الموانئ لدى الأخيرة وموقعها داخل مضيق ملقة يجعلانها مركزاً طبيعياً للتجارة العالمية - روانـدا تخضع لتكاليف الشحن نتيجة موقعها الحبيس وجغرافيتها المرتفعة
ومهما كان حجم المناخ المواتي للاستثمار الذي تفرضه على أراضيها ستظل روانـدا خاضعة لسياسات وأهواء الدول المجاورة التي تربطها بالعالم الخارجي.
وقد يدفع هذا بكيغالي مع مرور الوقت إلى تبني اقتصاد قائم على الخدمات وذلك من خلال تعزيز البنية التحتية للاتصالات والإنترنت، مما سيقضي بالتبعية على الحواجز الجغرافية المادية التي تعوق طريقها.
ثانياً
قد يكون من المنطقي الاقتباس من قصة سويسرا الحبيسة بدلاً من قصة سنغافورة، لكن روانـدا تواجه تعقيداً آخر بخلاف قصة النجاح التي ستقتبسها وهو تعقيد خارج عن حدود سيطرتها حرفياً، فعادةً ما تكون مراكز التجارة والاستثمار مرتبطةً بالاقتصادات المحيطة إلى حدٍ ما ولهذا استمدت سنغافورة قوتها من عمالقة آسيا المحيطين بها كما فعلت سويسرا المثل داخل أوروبا.
أما روانـدا فهي محاطة بدول حبيسة وغير مستقرة ومتخلفة، ومن الصعب إنجاز الأعمال التجارية وسط بيئةٍ كهذه حتى وإن كان الاقتصاد في حالةٍ جيدة.
ثالثا
تمثل الإحصاءات آخر مشكلة على خارطة الطريق الرواندية نحو الرخاء ونتحدث هنا عن تصديق الإحصاءات الرسمية تحديداً، إذ إن الطرق وأساليب التصنيف المستخدمة في قياس تقدم البلاد شهدت تحولاً دراماتيكياً في عهد كاغامه.
ولهذا فمن المنطقي ألا تكون الإحصاءات الرسمية أكثر صدقاً من استطلاعات الرأي السياسية، ولا تتوافر الكثير من البيانات من الوكالات الخارجية، وحتى البيانات المتوافرة ترسم صورةً مختلطة؛ إذ يُصنف برنامج تنمية الأمم المتحدة مستويات المعيشة الرواندية على أنها أقل من المتوسط في دول أفريقيا جنوب الصحراء.
بينما يزعم البنك الدولي أن خمسي سكان روانـدا ما يزالون تحت خط الفقر، ولن يُنكر الكثيرون الحاجة إلى تحسينات إضافية بغض النظر عن رأيهم في زعامة كاغامه، ويشير ما سبق إلى أن التحول الاقتصادي الرواندي أحرز تقدماً ملحوظاً، لكن ملامح المستقبل لم تتضح بالكامل.
إقرأ أيضاً:
✚ افتتاح قاعدة أبو عمامة البحرية العسكرية يحبط آمال الإمارات في موانئ السودان
✚ “بلينكن” في أفريقيا: سياسة أمريكا الجديدة نحو القارة لا تخفي تراجع أولوياتها
✚ من الاقتصاد والثقافة إلى الأمن والتسليح.. نضوج النفوذ التركي في أفريقيا