الملخص
● تتنافس عدة مشروعات نقل لربط آسيا مع أوروبا، وهو مؤشر حاسم على حدة التنافس الدولي، والسعي لتنويع سلاسل التوريد عقب أزمة جائحة كوفيد-19، فضلا عن سعي قوى الشرق الأوسط لتعزيز موقعها الجيوسياسي، وحيازة المزيد من الاعتبار على المستوى الدولي.
● يؤكد “الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا” على شراكة أمريكا المزدهرة مع الهند، التي لا غنى عنها في المنافسة مع الصين، ويعيد تشكيل الجغرافيا السياسية جنوب أوراسيا، من خلال توفير طريق بديل لـطريق الحرير الصيني. وتراهن واشنطن على تسريع سلاسل توريد البضائع الهندية إلى أوروبا كي تنافس البضائع الصينية، وتحد من نفوذ بكين دوليا.
● يستهدف “بايدن” من خلال تبني مشروع ممر الهند الدفاع عن نفوذ واشنطن في الشرق الأوسط. وبالإضافة إلى مواجهة نفوذ الصين، يمثل المشروع إجراءً مضادًا لروسيا التي بدأت نقل بضائعها بريا إلى السعودية عبر إيران، ضمن “ممر العبور الدولي بين الشمال والجنوب” (INSTC).
● تتمتع “مبادرة الحزام والطريق” بوجود مستقل، وتخدم سلاسل التوريد الكبيرة الخاصة بالصين، وهو ما يعني أن مشروع ممر الهند لن يقوض مبادرة الحزام والطريق، كما لن يحد من تنامي العلاقات الاقتصادية والتجارية بين دول الشرق الأوسط والصين التي تعد الشريك التجاري الأكبر للدول العربية، بما في ذلك السعودية والإمارات.
● تهدد طرق النقل الجديدة مسار نقل البضائع عبر قناة السويس؛ حيث توفر الوقت وتخفض تكاليف شحن البضائع بين آسيا وأوروبا. لكنّ القناة ستظل ضرورية لعبور الحاويات العملاقة وناقلات النفط والغاز، وستظل طوال العقد الجاري، ميزة جيوسياسية لا يمكن التقليل منها.
● يمثل ممر الهند خطوة إضافية نحو دمج “إسرائيل” إستراتيجيا في هيكل الشرق الأوسط الاقتصادي والتجاري والأمني. ويخدم إصرار ولي العهد السعودي على انتزاع الزعامة الإقليمية، وخطط تطوير وتنويع اقتصاد المملكة. فيما يعزز المشروع التموضع الاستراتيجي الذي تسعى الإمارات لتحقيقه عبر دمج مصالحها التجارية والاقتصادية مع مصالح قوى إقليمية ودولية.
● يسعى العراق عبر “طريق التنمية” إلى تعزيز مكانته الجيوسياسية على خريطة التجارة العالمية، بالإضافة لاستعادة جزء كبير من ثقل بغداد الإقليمي بما في ذلك قدرته على مواجهة الضغوط الإيرانية. وبينما تقع تركيا في قلب “طريق التنمية”، فإنها تنظر أيضا لمشروع “ممر الهند أوروبا” كفرصة يجب ألا تتجاوزها، وستعمل على الانضمام للممر كنقطة اتصال بحري إضافية.
مقدمة
- كشفت صحيفة “يني شفق” التركية أن تركيا والعراق تقتربان من توقيع اتفاق بشأن “طريق التنمية”، أو ما يعرف باسم “القناة الجافة”، والذي يربط الخليج بأوروبا عبر تركيا، والذي أعلن عنه رئيس وزراء العراق، محمد شياع السوداني، في مايو/أيار الماضي. حيث يمتد من ميناء الفاو الكبير على الخليج العربي جنوبي البصرة، عبر خط للسكك الحديدية وطريق سريع يمران بكربلاء وبغداد والموصل إلى الأراضي التركية وميناء مرسين على البحر المتوسط. ويتوقع أن تكتمل المرحلة الأولى من ميناء الفاو الكبير عام 2025، لكنّ هذا مازال محل شك نظرا لتعثر الجدول الزمني سابقا. ومن المخطط أن يكون الميناء عند اكتماله ثاني أكبر محطة للحاويات في العالم. وبينما تنفذ شركة دايو الكورية الجنوبية المرحلة الأولى للبنية التحتية للميناء نفسه بعقد قيمته 2.625 مليار دولار، فقد بلغت إجمالي تكلفة مشروعات المرحلة الأولى حتى الآن 4.7 مليار دولار.
- في سياق متصل؛ وعلى هامش قمة مجموعة العشرين في نيودلهي، 9 سبتمبر/أيلول، أعلن الرئيس الأمريكي “جو بايدن”، ورئيس وزراء الهند “ناريندرا مودي” وولي العهد السعودي الأمير “محمد بن سلمان” توقيع مذكرة تفاهم لإنشاء “الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا”، بمشاركة قادة الإمارات وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والاتحاد الأوروبي. حيث وصف “بايدن” المشروع بأنه “صفقة كبيرة حقيقية” و”استثمار يغير قواعد اللعبة”. وقال رئيس الوزراء “بنيامين نتنياهو” إن “إسرائيل” ستكون “مفترق طرق مركزي” في المشروع وستسخر كل الموارد لتحقيقه. واتفقت الدول المعنية على التوصل إلى خطة عمل خلال ستين يومًا، وسيلتزم جميع الموقعين بالتمويل. وتشير تقديرات هندية إلى أن تكلفة المشروع ستبلغ نحو 20 مليار دولار.
طرق متعددة ترسمها مصالح متنافسة
باتت هناك عدة مشروعات متنافسة لربط آسيا مع أوروبا، وهو مؤشر حاسم على حدة التنافس الدولي، والسعي لتنويع سلاسل التوريد عقب أزمة جائحة كوفيد-19، فضلا عن سعي القوى الإقليمية في الشرق الأوسط لتعزيز موقعها الجيوسياسي، وحيازة المزيد من الاعتبار على المستوى الدولي. وهذه المشروعات هي:
- أولا: مبادرة الحزام والطريق الصينية: التي أطلقتها الصين عام 2013، تهدف إلى ربط الصين بالعالم عبر استثمار مئات المليارات من الدولارات في البنية التحتية على طول طريق الحرير الذي يربطها بالقارة الأوروبية، ويشمل ذلك بناء موانئ وطرقات وسككا حديدية ومناطق صناعية، تشارك فيه 123 دولة، تريد الصين من خلاله تسريع وصول منتجاتها إلى الأسواق العالمية، بما في ذلك آسيا وأوروبا، وأفريقيا. وقد أدى ذلك إلى توسيع نفوذ الصين الاقتصادي والسياسي بشكل كبير، مما دفع الولايات المتحدة لتبني مبادرات منافسة. ويتكون الشق البحري من المبادرة من سلسلة من الموانئ بنتها الصين، تمتد من ميانمار وبنغلاديش على الجانب الشرقي للهند، وسريلانكا على الجانب الجنوبي للهند، وفي باكستان على الجانب الغربي، ثم يمر عبر قناة السويس إلى أوروبا.
- ثانيا: ممر العبور الدولي بين الشمال والجنوب (INSTC): نظر البعض في نيودلهي إلى طريق الحرير البحري كمشروع يطوق الهند بحريا. لذلك؛ أطلقت الهند مشروع ممر متعدد الوسائط يربطها مع أوروبا عبر إيران وآسيا الوسطى وروسيا، من خلال بناء ميناء حديث في البحر العميق على الساحل الإيراني في تشابهار وخطوط الطرق والسكك الحديدية الممتدة شمالاً من تشابهار عبر إيران وأفغانستان إلى آسيا الوسطى. لكنّ المشروع عانى نكسات جيوسياسية واقتصادية، كما أن تمركزه حول إيران وروسيا الخاضعتين للعقوبات الغربية أصبح متعارضا مع شراكة نيودلهي وواشنطن، وبالتالي يتوقع أن يحد من فاعليته كممر بري بين الهند وأوروبا.
- ثالثا: الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا: هو طريق نقل تجاري متعدد الوسائط سيمتد على طول الحافة البحرية الجنوبية لأوراسيا، ويشمل نقاط اتصال بحرية رئيسية هي الهند والإمارات و”إسرائيل”. وستُنقل البضائع بحريا من الهند إلى ميناء الفجيرة أو جبل علي في دبي في الإمارات، ثم بريا عبر عن طريق خط سكك حديدية من الإمارات إلى السعودية والأردن، وصولا إلى ميناء حيفا على ساحل المتوسط، حيث يعاد شحنها بحريا إلى ميناء بيرايوس في اليونان أو الموانئ الإيطالية الرئيسية من تارانتو إلى تريستا. ومن المتوقع أن يشمل المشروع بنية تحتية لإنتاج ونقل الهيدروجين الأخضر، وكابلًا بحريا لتعزيز الاتصالات ونقل البيانات. وهكذا؛ ستصبح التجارة بين الهند وأوروبا أسرع بنسبة 40٪، حيث ستصل البضائع الهندية التي تغادر مومباي إلى البر الرئيسي الأوروبي في بيرايوس في أقل من عشرة أيام. ليس ثمة شك أن الممر الهندي العربي المتوسطي سيعمل على إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية جنوب أوراسيا، من خلال توفير طريق إلى أوروبا بديل لـ”طريق الحرير البحري”، وممر العبور الدولي بين الشمال والجنوب (INSTC) المتمركز في إيران.
- رابعا: طريق التنمية (القناة الجافة) بين العراق وتركيا: وتشمل الدول المدعوة للاستثمار في المشروع كلا من السعودية والإمارات وقطر والكويت وسلطنة عمان والأردن وسوريا. وتبلغ تقديرات الميزانية الاستثمارية لمشروع “طريق التنمية” 17 مليار دولار، تشمل بناء عدة مدن صناعية وسكنية في العراق على جانبي الطريق. ويتكون الجدول الزمني للمشروع من ثلاث مراحل، تنتهي الأولى عام 2028 والثانية 2033 والثالثة 2050. وتم حتى الآن إنجاز 40% من المرحلة الأولى، والتي تستهدف قدرة أولية لقطارات الشحن تبلغ 3.5 مليون حاوية و22 مليون طن من البضائع السائبة سنوياً. ووفقاً للتقديرات العراقية، من المتوقع أن تبلغ الأرباح السنوية للقناة الجافة 4.8 مليار دولار، مما سيساهم في تنويع مصادر الاقتصاد العراقي المعتمد على النفط، بالإضافة إلى توفير نحو 100 ألف وظيفة.
لكنّ المشروع يواجه تحديات داخلية، في مقدمتها الحفاظ على الاستقرار الأمني، والانقسام السياسي، وانتشار الفساد، فضلا عن الخلافات المحتملة مع حكومة إقليم كردستان التي تعتقد أن مخطط المشروع تعمّد إقصاء الإقليم من مساره البري. كما أن انزعاج إيران من المشروع يمكن أن يدفع حلفائها العراقيين إلى تعطيل بناء الممر.
- خامسا: ممر الشارقة – بندر عباس – مرسين: ويوفر مسارا جديدا للشحنات القادمة من شبه الجزيرة العربية والمتجه إلى أوروبا غير المسار التقليدي المار بالبحر الأحمر وقناة السويس؛ حيث تنقل شاحنات البضائع من ميناء الشارقة في الإمارات بحرا إلى ميناء “بندر عباس” في إيران، ثم تأخذ الشاحنات طريقها بريا إلى الحدود التركية ثم تتوجه إلى ميناء “مرسين”. ويقدم هذا المسار حلولا أقل تكلفة وأسرع لنقل البضائع بين الخليج العربي والبحر المتوسط. وخلال الأشهر التسعة الأولى لتشغيله (افتتح في أكتوبر/تشرين الأول 2021)، استخدمت أكثر من ألف شاحنة الخط لنقل البضائع بين تركيا والإمارات، كما تستفيد باكستان ودول جنوب آسيا منه لاستقبال ونقل البضائع من وإلى أوروبا. ولا تتوقف الاستفادة الإيرانية من الخط البري على المكاسب الاقتصادية، إذ يساهم الخط الإيراني، ضمن مجموعة من العوامل، في جهود تطبيع علاقات إيران في المنطقة، ويساهم في تعزيز الروابط التجارية بين تركيا والإمارات.
عودة إلى التاريخ: الهيمنة الدولية تبدأ من طرق التجارة
- لا تبتعد القناة الجافة عن ساحة التنافس المتزايد بين واشنطن وبكين؛ حيث تنظر الأخيرة إلى ميناء الفاو الكبير ومشروع القناة الجافة باعتباره امتداداً مباشرا لمبادرة الحزام والطريق. وتبرز أهمية القناة الجافة للصين بعد انتهاء الأخيرة من تطوير ميناء “جوادر” الباكستاني المطل على بحر العرب والذي من المخطط أن يكتمل عام 2030، حيث ستمثل القناة الجافة وقتها طريقا سريعا وغير مكلف لإيصال المنتجات الصينية إلى أوروبا.
- على الجانب الآخر؛ يؤكد مشروع ممر الهند الشرق الأوسط أوروبا على الشراكة المزدهرة بين الهند والولايات المتحدة، ويثبت أن الهند هي حجر الزاوية الذي لا غنى عنه في المنافسة الدولية بين الولايات المتحدة والصين. وقد تجاوزت الولايات المتحدة الصين لتصبح أكبر شريك تجاري للهند في السنة المالية 2021-22. ويمثل المشروع مناورة مشتركة من قبل واشنطن ونيودلهي لمواجهة مبادرة الحزام والطريق الصينية؛ حيث تراهنان على أن تسريع سلاسل توريد البضائع الهندية إلى أوروبا يسهم في تقليل الاعتماد على البضائع الصينية وبالتالي يحد من نفوذ بكين دوليا.
- وبالإضافة لذلك؛ يستهدف “بايدن” من خلال تبني مشروع الممر الهندي الدفاع عن نفوذ واشنطن في الشرق الأوسط، حيث اكتسب منافسوها العالميون، روسيا والصين، أرضًا في السنوات الأخيرة. كما يمثل المشروع إجراءً مضادًا لتحركات روسيا؛ فقبل حوالي أسبوعين، غادر أول قطار شحن روسيا متجها إلى المملكة العربية السعودية عبر إيران، كجزء من ممر النقل “الشمال-الجنوب”. ويسعى الرئيس “بايدن” لطمأنة الشركاء التقليديين، خاصة السعودية والإمارات، والظهور باعتباره من يقدم مكاسب لحلفائه من خلال تمكينهم من الاستفادة من موجة النمو الاقتصادي الهندي.
- ومع هذا؛ فإن “مبادرة الحزام والطريق” ومشروعات البنية التحتية العالمية للصين لها وجود مستقل، وتخدم سلاسل التوريد الكبيرة الخاصة بالصين، وهو ما يعني أن مشروع ممر الهند الشرق الأوسط أوروبا لن يؤدي إلى تقويض مبادرة الحزام والطريق ولا من نفوذها البحري المتزايد في عموم المنطقة، كما لن يحد على الأرجح من تنامي العلاقات الاقتصادية والتجارية بين دول المنطقة والصين التي تعد الشريك التجاري الأكبر للدول العربية بإجمالي 430 مليار دولار، بما في ذلك السعودية والإمارات، وثاني أكبر شريك تجاري لإسرائيل. ومن المقرر أن تقوم بكين بتشغيل ميناء خاص متطور قامت ببنائه في خليج حيفا في “إسرائيل” على مدى السنوات الـ 25 المقبلة، ليمثل أكبر محطة حاويات في “إسرائيل”. بل إن وزير الاستثمار السعودي، خالد الفالح، أعلن في يونيو/حزيران الماضي أن بلاده تتجه لتدشين ما وصفه بـ”خط حرير للتنمية مع الصين”.
هل بات أفول قناة السويس قريبا؟
- يمر عبر قناة السويس 10% من إجمالي التجارة العالمية وحوالي 7% من حركة النفط. وحققت القناة في السنة المالية الماضية إيرادات لمصر تبلغ 9.4 مليار دولار، وهي تمثل إنعاشا حقيقيا للاقتصاد المصري الذي يواجه أزمة بعيدة المدى. وعلى الرغم من مشروعات النقل المتعددة المشار إليها؛ فإن قناة السويس ستظل ضرورية لعبور الحاويات العملاقة وناقلات النفط والغاز، والتي تمثل فئة رئيسية بين الناقلات العابرة من مجرى القناة. ومن المرجح أن قناة السويس ستظل طوال العقد الجاري، على الأقل، ميزة جيوسياسية لا يمكن التقليل منها؛ خاصة وأن بعض هذه المشروعات، مثل طريق التنمية وممر الهند أوروبا، مازالت مجرد خططا طموحة قد يطول أمد تنفيذها أو حتى تتعثر، في ظل السجل الضعيف لإنجاز مشاريع البنية التحتية العابرة للحدود في الشرق الأوسط.
- لكنّ طرق النقل الجديدة ستهدد مسار نقل البضائع عبر قناة السويس؛ حيث توفر هذه الطرق الوقت وتخفض تكاليف شحن البضائع بين آسيا وأوروبا. وعلى سبيل المثال؛ من المتوقع أن يستغرق نقل البضائع بين آسيا وأوروبا عبر طريق التنمية نصف الوقت مقارنة مع المسار التقليدي عبر قناة السويس، حيث يمكن أن يستغرق شحن البضائع من ميناء شنغهاي في الصين إلى ميناء روتردام في هولندا عبر القناة الجافة نحو أسبوعين فقط بدلاً من حوالي شهر باستخدام قناة السويس. نتيجة إلى ذلك فإن القناة الجافة ستكون بمثابة طريقا بديلا لقناة السويس يوفر مرونة أكبر لشركات الشحن العالمية، مما يمكن أن يؤدي إلى تقليل المرور عبر قناة السويس.
- وبالمثل؛ فبينما لن يؤثر “ممر الهند الشرق الأوسط أوروبا” على نقل النفط، لكنه سيوفر ميزة لوجستية لنقل البضائع وطريقًا بديلاً لقناة السويس. لذلك؛ ستكون مصر، ضمن المتضررين من المشروع على المدى الطويل، خاصة وأنه يشير لاتجاه أوروبي لتقليل واردات الصين في المدى الطويل، وهي واردات مازالت تشحن عبر قناة السويس، مقابل زيادة الاعتماد على واردات الهند التي ستمر عبر هذا الممر بعيدا عن قناة السويس.
- ومما يزيد خسائر مصر الجيوسياسية والاقتصادية أيضا في المدى الطويل، بدء تشغيل ممر العبور الشمال الجنوب، المصمم لنقل البضائع لمسافة حوالي 7200 كيلومتر من موسكو، عبر إيران إلى مومباي، والذي يختصر مدة النقل من روسيا إلى الهند إلى نحو عشرة أيام، من 30 إلى 45 يومًا عبر قناة السويس. ولا يقتصر الأمر على ذلك، فقبل نحو أسبوعين، عبر قطار شحن يضم نحو 36 حاوية من روسيا إلى إيران في طريقه إلى السعودية، وشقّت طريقها إلى ميناء بندر عباس في مضيق هرمز، حيث يتم شحن الحمولة على متن سفينة وجهتها جدة، بدلا من الطريق البحري الطويل المار عبر قناة السويس. وتشير التقديرات إلى أن مسارات ممر العبور الشمالي الجنوبي عموما أرخص 30% وأقصر 40% من المسار التقليدي عبر قناة السويس.
“طريق التنمية” و”ممر الهند أوروبا”… حسابات الأطراف الإقليمية
- يمثل مشروع ممر الهند أوروبا خطوة إضافية ضمن خطوات دمج “إسرائيل” استراتيجيا في هيكل الشرق الأوسط الاقتصادي والتجاري والأمني، من خلال مجموعة متنوعة من الاتفاقيات والهياكل الثنائية ومتعددة الأطراف مع دول المنطقة والتي تقدم نمطا غير مسبوق في علاقات “إسرائيل” بدول المنطقة العربية. ولا شك أن توقيت الإعلان عن المشروع يخدم جهود إدارة “بايدن” التي تسارع خطواتها من أجل التوصل لصفقة تطبيع كبرى بين السعودية و”إسرائيل”.
- يخدم مشروع ممر الهند أوروبا إصرار ولي العهد السعودي على انتزاع الزعامة الإقليمية، وقد ظهر هذا في تصدره الإعلان عن مذكرة التفاهم كممثل عن دول الشرق الأوسط للتأكيد على موقع السعودية كمحور للمشروع، رغم أن فكرته لم تخرج من الرياض. ويخدم الممر سياسة تنويع الاقتصاد التي يضعها “بن سلمان” على أولويات أجندته الاقتصادية. ومن المتوقع أن يستهدف ولي العهد السعودي ربط المشروع الجديد بمدينة “نيوم” التي يبنيها غربي البلاد. وبينما يمثل نجاح إدارة “بايدن” في إقناع ولي العهد بالانضمام للمشروع إشارة واضحة حول اتجاه العلاقات الإيجابي، فلا يعني هذا أن المملكة بصدد التخلي عن سياسة تنويع بدائل علاقاتها الدولية والاحتفاظ بعلاقات مع الغرب وروسيا والصين في نفس الوقت، وهو ما يعزز من احتمالات حجز السعودية مقعدا بين المستثمرين في مشروع “طريق التنمية”.
- يعزز “ممر الهند الشرق الأوسط أوروبا” التموضع الاستراتيجي الذي تسعى الإمارات لتحقيقه من خلال دمج مصالحها التجارية والاقتصادية مع مصالح قوى متعددة إقليميا ودوليا، باعتبار أن ذلك يعزز بالضرورة أمن الدولة إزاء التهديدات الخارجية. ومن خلال كونها نقطة اتصال بحري رئيسية في مشروع الممر، فضلا عن كونها صاحبة المبادرة مع الهند، تسعى أبوظبي لتأكيد محورية دورها في طرق التجارة الجديدة وسلاسل التوريد الآخذة في التشكل، خاصة في ظل التنافس الاقتصادي المتزايد بين أبوظبي والرياض على ريادة الأعمال إقليميا. وفي نفس الوقت، ستحرص الإمارات على الاستثمار في “طريق التنمية” كي لا تخسر التواجد الاستراتيجي في مسارات سلاسل التوريد الصينية.
- لم يكن من المفاجئ أن تنظر تركيا لمشروع “ممر الهند أوروبا” كفرصة يجب ألا تتجاوزها، مع سعي أنقرة لتأكيد موقعها باعتبارها الخط الأكثر ملاءمة لحركة نقل الطاقة ومرور البضائع من الشرق إلى الغرب، سواء ضمن مبادرة الحزام والطريق الصينية، أو من خلال مشروع “طريق التنمية” الذي كثفت الترويج لأهميته عقب الإعلان عن “ممر الهند أوروبا”، بالإضافة لخطط تشغيل ممر زنغزور الذي يربط تركيا بريا مع آسيا الوسطى والصين، ويسهل نقل المزيد من البضائع والأفراد بين الصين وآسيا الوسطى وأوروبا عبر الأراضي الآذرية، فيما يعرف بـ”طريق بكين-لندن”. لذلك؛ ستعمل تركيا على الانضمام للممر الهندي كنقطة اتصال بحري إضافية ومنطقة عبور بري للبضائع الهندية إلى شرق وجنوب أوروبا. أي إن أنقرة ستحرص -كما السعودية والإمارات- على التواجد على كامل خريطة طرق النقل الجديدة، دون الاكتفاء بالرهان على مسار واحد.
- يسعى العراق عبر مشروعي ميناء الفاو الكبير وطريق التنمية (القناة الجافة) إلى تعزيز مكانته الجيوسياسية على خريطة التجارة والنقل العالمية، بحيث يصبح العراق مركزاً حيوياً للنقل بين آسيا وأوروبا. بالإضافة إلى استعادة جزء كبير من ثقل بغداد الإقليمي وتعزيز الروابط العراقية العربية، الأمر الذي سيزيد من قدرة بغداد على مواجهة الضغوط الإيرانية الحريصة على إبقاء العراق ضمن مجال النفوذ الإيراني.
- في المقابل؛ تتخوف طهران من أن طريق التنمية سيربط الخليج مباشرة بتركيا متجاوزا خط النقل الإيراني الذي يربط بين آسيا وتركيا، خاصة مع جهود الغرب لعزل إيران دوليا. كما أن المشروع سيكون له دور مؤثر في تقليل النفوذ الإيراني في العراق. بالإضافة لذلك؛ فإن الممر الاقتصادي بين الهند وأوروبا يمثل طريقا بديلا لممر “الشمال الجنوب” المار عبر إيران وروسيا، وهو ما يعني أن سلاسل التوريد الهندية إلى أوروبا لن تمر عبر إيران كما كان مخططا، بما يمثل خسارة اقتصادية وجيوسياسية لطهران.