تقديم
– تواجه دول الاتحاد الأوروبي معضلة سياسية في قدرتها على استعادة النفوذ والتأثير السياسي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إذ تفتقر أوروبا للمواكبة الفاعلة للتحولات السياسية والاقتصادية المتسارعة، وهناك عائق الانقسام شبه الدائم في مواقف دول الاتحاد تجاه القضايا الخارجية وغياب للإجراءات الحاسمة، الأمر الذي رسخ إنطباعاً لدى عدد من دول المنطقة بعدم أخذ قرارات الاتحاد الأوروبي على محمل الجد، خاصة لجهة قدرته على صياغة سياسات خارجية أو دفاعية مشتركة. في وقت سعت دول مثل الكيان الإسرائيلي وروسيا لاستغلال نقطة الضعف هذه للعب على التناقضات داخل الاتحاد الأوروبي.
– وباعتبار أن سياسات الولايات المتحدة الأمريكية هي أحد المحددات المركزية للسلوك الأوروبي تجاه قضايا المنطقة، فإن عدم القدرة على مواجهة هذه السياسات، يُضعف مصداقية الحراك السياسي والمبادرات الإقليمية التي تشرف عليها بعض دول الاتحاد الأوروبي مثل فرنسا.
– وسط هذا، يسطع نجم النشاط الدبلوماسي المحموم للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي قام في فترة شهر ونصف بزيارة لبنان مرتين، وظهر فجأة في بغداد، التقى فيها مع الرئيس العراقي برهم صالح ورئيس الوزراء مصطفى الكاظمي ورئيس حكومة إقليم كردستان نيجرفان بارزاني. كما وعزز “ماكرون” من الوجود العسكري الفرنسي في حوض شرق المتوسط، ونشر وحدات من البحرية الفرنسية بما فيها حاملة للمروحيات وفرقاطة.
السياسة الفرنسية ومناطق النفوذ التقليدية
- لا يبدو الحراك الذي يقوده “ماكرون” مستجداً على الدبلوماسية الفرنسية تجاه منطقة الشرق الأوسط، وإن كانت الصورة العامة في الآونة الأخيرة بدت أكثر جدية، تخللتها تصريحات للرئيس الفرنسي أكد فيها استعداد بلاده لاستخدام القوة من أجل تحقيق الاستقرار في المنطقة.
- ثمة عدة ديناميات تقليدية تحكم السياسية الفرنسية تجاه المنطقة، لعل أبرزها تلك المرتبطة بـ “مخاوف الأمن القومي”، حيث أن الحكومات الفرنسية المتعاقبة تعاملت باستمرار مع منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا باعتبارها مصدر قلق أمني رئيس، نظراً لقضايا النزاع المسلح و”مكافحة الإرهاب”، والهجرة.
- فيما برزت خلال العقود الماضية “الدبلوماسية الاقتصادية” الفرنسية، لا سيما تجاه دول الخليج العربي ومصر، وذلك عبر الفوز ببعض العقود الكبرى، خاصة في المجال العسكري (مثل بيع طائرات رافال إلى مصر وقطر).
- وحاولت فرنسا في أكثر من مناسبة أن تربط تدخلاتها العسكرية باستراتيجية سياسية أوسع. على سبيل المثال ، رفض الرئيس الفرنسي السابق “هولاند” الانضمام إلى الهجمات ضد تنظيم الدولة في العراق حتى تم استبدال رئيس الوزراء نوري المالكي (بحيدر العبادي) ، كجزء من التزامه بعملية سياسية أكثر شمولاً في بغداد.
- فيما كانت طموحات فرنسا الأوروبية في مبادراتها تجاه المنطقة محفزة للساسة الفرنسيين لمحاولة توجيه السياسة الأوروبية والعمل على ترسيخ دور قيادي أكبر داخل الاتحاد الأوروبي، وهو ما جعل بعض الشركاء الأوروبيين، يعتقدون أن باريس مهووسة بالمبادرات التي تعزّز الرؤية الفرنسية بدلاً من معالجة القضايا الجوهرية. وظهرت حالة من الانزعاج الأوروبي مؤخراً بفعل وساطات فرنسا المنفردة في ليبيا، إضافة لسلوكها في حوض شرق المتوسط.
- وبالعموم، تتوزع مناطق النفوذ الفرنسي التقليدية في المنطقة وفق الآتي:
المغرب العربي:
- حيث تتمتع فرنسا بعلاقات وثيقة وراسخة مع دول المغرب العربي، والتي تشمل أبعاداً اقتصادية وديموغرافية، إضافة للإرث الاستعماري. غير أن الاتجاه السائد حالياً هو تآكل مركزية فرنسا ببطء في المنطقة، وذلك لأسباب سياسية واجتماعية متعددة، فضلاً عن صعود شركاء تجاريين آخرين، بما في ذلك الشركاء غير الغربيين، ولكن هذا لا ينفى حقيقة أن فرنسا لا تزال قوة بارزة في المغرب العربي. كما أن فرنسا أعطت الأولوية لتعزيز تعاونها الأمني مع دول المغرب العربي، مركزة على العلاقات الثنائية، وتحديداً في مجالات ”مكافحة الإرهاب“، إضافة للتعاون الأمني ببعده الإقليمي حيث أدارت فرنسا عمليات أمنية واسعة في إفريقيا بالتعاون مع بعض دول المغرب العربي.
بلاد الشام:
- لا شك أن العلاقات التاريخية بين فرنسا وبلاد الشام ليست حاسمة كما هي في المغرب العربي. ومع ذلك ، فإن فرنسا عادة ما تضع نفسها كقوة قادرة وراغبة على المناورة بشكل مستقل إذا لزم الأمر، بما في ذلك التعامل مع الولايات المتحدة – كما يتضح من الفروق الدقيقة الفرنسية في عملية السلام في الشرق الأوسط ودعم فرنسا لاستقرار لبنان؛ في محاولة للحفاظ على توازن تقليدي بين مختلف الفاعلين المحليين والإقليميين والدوليين من أجل ممارسة النفوذ السياسي.
الخليج العربي:
- تتمتع فرنسا بعلاقات تاريخية مع الخليج أقل من تلك التي تربطها بأجزاء أخرى من منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. لكن منذ تحويل تركيزها الاستراتيجي من العراق إلى دول مجلس التعاون الخليجي بعد حرب الخليج الأولى، زادت فرنسا استثماراتها السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية في هذه المنطقة، لا سيما مع المملكة العربية السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة.
- وتجد الدول الخليجية أن عملية التفاوض على عقود الدفاع والتسلح مع الولايات المتحدة أمر صعب، حيث يتعين على الكونجرس الأمريكي الموافقة عليه. وبالتالي، تعتقد دول الخليج ان فرنسا التي تمتلك مجمع صناعي عسكري مهم، قد تصبح بديلاً أسهل لعقد الصفقات.
نقطة تحول في الحراك الفرنسي
- لطالما كانت فرنسا لاعبًا جيوسياسيًا براغماتيًا في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وانصبت جهودها للحفاظ على علاقات ودية ومستقرة مع جميع حكومات المنطقة سعياً وراء مصالح فرنسا الرئيسية الثلاث: الاستقرار الإقليمي وأمن الطاقة وصادرات الأسلحة. في حين أعطت فرنسا في السنوات الأخيرة، الأولوية للتحالفات الثنائية على العمل الدبلوماسي متعدد الأطراف، إضافة لتعزيز الجوانب الجيو اقتصادية لسياستها في المنطقة.
- وبات الحراك الفرنسي الأخير مرتبطاً بشكل أكبر بثلاث عوامل أساسية؛ وهي تركيا وملف اللاجئين والطاقة. إذ بدا واضحاً أن نشر القوة الفرنسية في منطقة حوض شرق المتوسط يُقصد منه أمراً واحداً هو مواجهة أنقرة. كما قدّمت فرنسا دعمًا خارجيًا لمشروع خط أنابيب “EastMed”، وأصدرت عددًا من البيانات المشتركة التي تُدين النشاط التركي في شرق المتوسط، وزادت من وجودها العسكري في قبرص. وعقب التحركات التركية الأخيرة في شرق البحر المتوسط مطلع آب/أغسطس الماضي، أعرب “ماكرون” عن دعمه الكامل لليونان، وأدان موقف تركيا، وأعلن تعزيز الوجود العسكري الفرنسي في المنطقة.
- كما عوّلت في ليبيا على دعم الجنرال المتقاعد، خليفة حفتر، الذي تكبّد خسائر فادحة على يد قوات حكومة الوفاق الوطني، برئاسة فايز السراج، بعد الحضور التركي المفاجئ إثر توقيع اتفاقية التعاون الأمني وترسيم الحدود بين أنقرة وحكومة الوفاق المعترف بها دولياً.
- وإلى جانب الروابط التاريخية والثقافية والسياسية والإقتصادية العميقة والمعقدة التي تربيط بين فرنسا ولبنان، تنبع مشاركة “ماكرون” الأخيرة إلى مصالح مرتبطة باستراتيجية أوسع، واعتبارات تشمل الرغبة في منع تركيا من الانخراط في إعادة إعمار بيروت، وتشكيل فضاء نفوذ لها داخل لبنان، لا سيما الوسط السني. إضافة للحديث عن مساعي فرنسية للاستحواذ على أصول استراتيجية مثل موانئ طرابلس وبيروت.
- ومن المهم الإشارة في مسألة الطاقة، إلى حضور ثروات ليبيا والعراق ومياه لبنان وقبرص في الحسابات الجيوسياسية لفرنسا. حيث تمتلك ليبيا أكبر احتياطي نفطي في إفريقيا وخامس أكبر احتياطي من الغاز الطبيعي، ولهذا تعمل شركة الطاقة الفرنسية “توتال” في ليبيا منذ ما يقارب سبعة عقود. وفي العراق ، تمتلك نفس الشركة 22.5٪ من الكونسورتيوم (التحالف) الذي يدير حقل “حلفايا” النفطي ولديها حصة 18٪ في منطقة استكشاف نفطي في إقليم كردستان. كما تشارك في التنقيب عن الغاز قبالة الساحل الجنوبي لقبرص، والذي يقع بجوار المياه اللبنانية مباشرةً ، حيث يُعتقد أيضًا أن هناك كميات وفيرة من موارد الطاقة.
- أيضاً، يُعتبر ملف اللاجئين والتخوف من موجات هجرة جديدة، أمراً ذا أهمية حيوية لفرنسا، حيث تُعد موجات اللجوء عاملاً مؤثراً في السياسات المحلية في دول الاتحاد الأوروبي، كما أن الموجة الأولى من اللاجئين السوريين ساهمت في نجاح الأحزاب القومية اليمينية والنازية الجديدة في عدد من البلدان الأوروبية. ويريد “ماكرون” تجنب موجة جديدة من اللاجئين، قد تؤثر على فرص إعادة انتخابه في عام 2022 .
مآلات الدور الفرنسي
- استمرار جهود الوساطة الفرنسية على الرغم من عدم فاعليتها:
تؤكد المعطيات ضعف دور الوساطة الفرنسية في المنطقة، لا سيما في الملف اللبناني الذي تُبدي القوى الإقليمية الفاعلة فيه شداً عكسياً لا يتسق مع الجهود الدبلوماسية الفرنسية، كما أن جهود فرنسا السابقة لم تنجح في تحقيق اختراق نوعي في ملف الوساطة في الشرق الأوسط بين الولايات المتحدة وروسيا، حيث فشل “ماكرون” في إقناع “ترامب” و”بوتين” بالاتفاق على أي شيء، أو حماية الشركات الأوروبية من العقوبات الأمريكية الجديدة ضد إيران. ولن يعنى الفشل الفرنسي التوقف عن ممارسة هذا الدور، حيث ستواصل الوساطة بين الأطراف المختلفة في السنوات القادمة.
- اتساع نطاق النزاع بين تركيا وفرنسا، سيطال قطاعات ومناطق جديدة:
سيكون البعدين الاقتصادي والعسكري حاضرين في النزاع الفرنسي التركي، ومن ذلك التحرك الفرنسي ضد تركيا بالعراق، والذي جاء رداً على تزايد النفوذ التركي بعد أن كثّفت أنقرة، عسكرياً، من عمليات ملاحقة عناصر حزب العمال الكردستاني بالأراضي العراقية، كما أن الشركات التركية أصبحت أكثر حضوراً بالسوق العراقية، خاصة لتلبية حاجات البلاد من الكهرباء والسلع الاستهلاكية. وفضلاً عن القوة الاقتصادية والعسكرية، ستعمل تركيا على توظيف ملف اللاجئين للضغط على أوروبا في المفاوضات بشأن مواضيع النزاع المختلفة.
ومن ساحات التنافس المستقبلي بين كل من فرنسا وتركيا ستكون دول الساحل الأفريقي، حيث تسعى تركيا إلى الالتفاف حول فرنسا ومواجهة الإمارات العربية المتحدة في غرب إفريقيا. وتبرز رغبة تركيا في تحدي مصالح فرنسا، على الرغم من عدم تكافؤ القوة بين البلدين في المنطقة، وقد ظهرت معالم السياسة التركية في الموقف التركي من الانقلاب في مالي، إذ ناقضت أنقرة الموقف الفرنسي المناهض للانقلاب من خلال التأكيد على ضرورة استعادة الديمقراطية، ودخلت في حوار مع السلطات الانتقالية في مالي. كما تسعى تركيا لتوسيع نشاطها في قطاع التعدين في النيجر في محاولة لمواجهة الهيمنة التجارية لشركة الطاقة الفرنسية أريفا.
- محاولة فرنسية لحشد الموقف الأوروبي لصالح سياساتها في المنطقة:
رسم ماكرون قبل ثلاث سنوات، على مدرج السوربون، خطة طموحة لتنشيط الاتحاد الأوروبي. كان هذا على أساس مبدأين: المزيد من “التضامن” بين الدول الأعضاء، والمزيد من التأكيد على “السيادة” الأوروبية في مواجهة التنافس بين القوى العظمى. في تموز/ يوليو الماضي، أحرز “ماكرون” تقدمًا في نقطته الأولى عندما توصّل جميع أعضاء الاتحاد الأوروبي (27 دولة) إلى اتفاق تاريخي حول خطة لدعم النهوض الاقتصادي بعد جائحة كورونا، وتنص الخطة على صندوق بقيمة ٧٥٠ مليار يورو. أما النقطة الثانية، لا تزال فرنسا بعيدة عن تحقيق هذا الهدف نظراً للتباين في آراء الدول الأعضاء وصعوبة اتخاذ مواقف موحدة تجاه الأطراف المقصودة مثل تركيا وروسيا. وهو ما ظهر في الموقف من التوتر في منطقة شرق المتوسط، حيث دعت فرنسا واليونان وقبرص اليونانية إلى اتباع نهج صارم تجاه تركيا، فيما كان موقف ألمانيا رئيسة مجلس الاتحاد الأوروبي تجنّب التصعيد والشروع في جهود وساطة بين الأطراف المتنازعة. وبالمثل تفضّل إيطاليا وإسبانيا ومالطا استنفاد المسار الدبلوماسي قبل تطبيق اجراءات عقابية في حال استمرت تركيا في الاستكشاف من جانب واحد في مياه شرق البحر المتوسط المتنازع عليها.
- اهتمام فرنسي أكبر بالعلاقة مع دول الخليج العربي:
سيواصل الفرنسيين انخراطهم في قطاع الأمن بالمنطقة، نظرًا للإقبال العربي وتحديداً الخليجي على إبرام صفقات تسليح ضخمة مع شركات تصنيع السلاح الفرنسية، وخلال السنوات الماضية قام مسؤولون من وزارات الأمن الفرنسية بزيارات شبه دورية إلى المنطقة، وشملت العلاقات الأمنية بين دول الخليج وفرنسا قطاعات التدريب والمناورات المشتركة . كما يشارك الفرنسيون بفاعلية في تشكيل الهياكل والاستراتيجيات العسكرية لدول الخليج العربي، ولا سيما في الكويت وقطر. في الوقت ذاته لا يمكن التعويل كثيراً على الدور الفرنسي في هذا الجانب، وسيبقى السقف محدوداً، نظراً لافتقار فرنسا للموارد والقوى البشرية اللازمة للحفاظ على الضمانات الأمنية في المنطقة.