بعد فوز الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي بالرئاسة في انتخابات قبل ثلاث سنوات، أشار محللون إلى أنها كانت خطوة مقصودة على الطريق إلى منصب أكثر تميزاً. إذ إن المرشد الأعلى المُسن والمريض علي خامنئي قد تجاوز العمر الافتراضي للإيرانيين منذ سنوات، وكان من المتوقع أن يسعى رئيسي ليحل محله بمجرد وفاته لكن التاريخ لا يخلو من سخرية الأقدار.
وبدلاً من أن يرتقي رئيسي إلى مكتب المرشد الأعلى، جاء الفوز بالرئاسة ليكلفه حياته. فأثناء عودته من زيارة لأذربيجان المجاورة حيث كان يفتتح سداً حدوديا، فقدت السلطات الاتصال بمروحية رئيسي في الـ19 من مايو/أيار، وحدثت الواقعة في منطقة جبلية على بعد نحو 86 كيلومتراً شمال شرق تبريز. وفي اليوم التالي، أكّدت وسائل الإعلام الحكومية موت رئيسي ووزير الخارجية الذي كان معه على متن المروحية نفسها.
تنص الرواية الرسمية حتى الآن على أن سوء الطقس هو السبب لكن باطن الأمور يختلف عن ظاهرها في السياسة الإيرانية دائماً. وقد بدأ الكثيرون في تخمين تفسيرات أكثر شناعة، إذ يمتلك رئيسي قائمة أعداء طويلة في الخارج والداخل، ومع وجود الكثير من الخصوم على كافة الجبهات، يتساءل العديد من الإيرانيين عما إذا كانت الحادثة مُدبَّرة.
منصة أسباب وبالشراكة مع Caspian Report، تشرح لكم في هذا الفيديو عمّا بعد وفاة الرئيس الإيراني.
نظام الحكم في إيران بعد الثورة
تمتلك إيران مرشداً أعلى غير منتخب في القمة لكنه ينتخب رئيسه ديمقراطياً أيضاً. وهذا يجعلها دولةً شموليةً وديمقراطية في آنٍ واحد.
بعد ثورة عام 1979، برزت إيران كجمهورية إسلامية، ولم يكن هناك أي نظام آخر بهذا الشكل، فاضطرت القيادة لوضع قواعدها الخاصة أثناء العمل، وأسفر هذا عن حكومة مزجت بين معتقدين سياسيين مختلفين بشدة، حيث أن بعض أجزاء الحكومة منتخب، بينما يأتي البعض الآخر بغير انتخاب. لكنهما يتشابكان معاً ليخرجا بالنظام من قلب الفوضى، وهناك قدر كبير من التوترات بين الجانبين.
- ينتخب الإيرانيون الرئيس، والبرلمان، ومجلس خبراء القيادة المسؤول عن اختيار المرشد الأعلى.
- تتشابك مع المرشد الأعلى أركان الثيوقراطية غير المنتخبة، التي تضم الجيش والمساجد والقضاء والإعلام بالإضافة إلى الهيئات الاستشارية مثل مجلس تشخيص مصلحة النظام ومجلس صيانة الدستور.
ويمتلك الرئيس سلطات مُقيَّدة في ما يتعلق بالسياسة الخارجية خصيصاً. بينما يتولى المرشد الأعلى اتخاذ القرارات وضبط نبرة السياستين الداخلية والخارجية. ويبدأ هذا بقواعد اللباس داخل البلاد وصولاً إلى برنامجها النووي.
لكن ما الذي يحدث حين يموت المرشد الأعلى؟ هذا هو سؤال المليون دولار.
فرسمياً، يجري انتخاب المرشد الأعلى بواسطة مجموعة من كبار رجال الدين الذين يشكلون مجلس خبراء القيادة والذين يجري اختيارهم في انتخابات عامة بدورهم، وقد كان رئيسي واحداً من مرشحين اثنين هما الأقرب لخلافة المرشد الأعلى بعد وفاته. أما المرشح الآخر فهو مجتبى (ابن المرشد الحالي)، وهناك بعض مرشحي الأحصنة السوداء الآخرين، لكن من الصعب تخيُّل حصولهم على الدعم الكافي.
- كان رئيسي يُعد مرشح إجماع مثالي داخل المنظومة السياسية الإيرانية المعقدة
- أشرف على العديد من أفرع الحكومة
- لم يكن هناك غبار على أوراق اعتماده
- تطلّع صناع القرار من المحافظين والعسكريين إلى استغلاله لدفع مصالحهم
من سيخلف رئيسي؟
لكن بموت رئيسي، لم تتضح بعد هوية من يمكن أن يحظى بالإجماع الكافي للعب ذلك الدور. وأصبح مجتبى المرشح البارز الوحيد المتبقي الآن، لكن مشكلة مجتبى تكمن في أنه الابن الثاني للمرشد خامنئي. وقد عزّز مجتبى أوراق اعتماده بين رجال الدين الإيرانيين في السنوات الأخيرة لكن وصوله إلى السلطة سيجعل نظام الحكم الثيوقراطي أشبه بانتقال وراثي للسلطة.
ولا بد من الاعتراف بأنّ رئيسي لم يكن محبوباً أيضاً، لكن خروجه من المشهد يمنح مجتبى فرصةً حقيقيةً في الوصول إلى المنصب الأعلى، ومن المرجح أن تتسارع خطوات مجتبى وسط المنظومة السياسية الآن لصنع الحلفاء هنا وهناك، وسيتمثل هدفه الرئيسي في إبرام صفقةٍ مع صناع القرار في حرس الثورة الإسلامية، إذ إن فعل ذلك سيسمح لمجتبى بالتغلب على أي ردود أفعال عنيفة.
لكن هذا سيؤدي في المقابل إلى تعزيز دور الجيش داخل المشهدين السياسي والاقتصادي للبلاد، ولتوضيح السياق، يُنظر إلى خامنئي على نطاق واسع باعتباره زعيماً محافظاً بشدة. ومع ذلك، فقد تدخل ضد المحافظين في العديد من المناسبات لدعم المسؤولين المعتدلين.
- دعم صعود روحاني إلى الرئاسة عام 2013 مثلاً
- تبنى المفاوضات على البرنامج النووي الإيراني مع الولايات المتحدة
وإذا افتقر المرشد الأعلى إلى مثل هذه السياسات البراغماتية، فسيعزز هذا السياسة الخارجية المتهورة لإيران بقيادة المؤسسة العسكرية، أي إن وجود مجتبى المدعوم عسكرياً في السلطة قد يؤدي إلى تطور المشهد السياسي الإيراني لتتحول من ديمقراطية ثيوقراطية إلى دولةٍ أكثر عسكرية.
وخلال العقد التالي، ربما تبرز إيران كدولةٍ أقل تحفظاً دينياً في الداخل وأكثر عدوانية في الخارج، وبالنظر من هذه الزاوية؛ نجد أن موت رئيسي سيهز المشهد السياسي في طهران ولن يؤثر على أمن البلد بصورةٍ فورية، لكنه سيؤثر على عملية خلافة المرشد الأعلى ما قد يؤدي إلى تحوُّلٍ في سياستي إيران المحلية والخارجية.
لن يحزن الكثير من الإيرانيين على رئيسي بل سيذكرونه باعتباره قاضي الإعدامات ومدعي طهران الذي أرسل آلاف السجناء السياسيين إلى المشنقة عام 1988، بينما ستتذكره الأجيال الأصغر بتعامله الجاهل مع الاقتصاد، فهو الرئيس الذي ملأ حكومته بالعسكريين ورجال الدين، الذين وقفوا كمتفرجين على انهيار قيمة الريال الإيراني في أقل من ثلاث سنوات.
ورفض رئيسي أثناء ولايته الضغط من أجل التغيير محلياً، بعكس أسلافه، حيث تفاوض حسن روحاني مثلاً على الاتفاق النووي مع الغرب. بينما سعى أحمدي نجاد إلى العمل بشكلٍ مستقل عن المرشد الأعلى، ونظراً لكون رئيسي واحداً من المحافظين المقربين إلى خامنئي، نستطيع القول إنه كان الرئيس الأقل خطورة في تاريخ تطور إيران بعد الثورة.
وبات يتعيّن على النصف الثيوقراطي في حكومة إيران التوصل إلى إجماعٍ ما حول مجتبى أو التفاوض على واحدٍ من مرشحي الأحصنة السوداء، والذي سيكون أحد المحافظين المقربين الآخرين على الأرجح، وفي الوقت ذاته، يجب على الأجهزة الديمقراطية أن تجد رئيساً جديداً بسرعة وفي وقتٍ عصيب، ويُحدد الدستور معايير عملية الخلافة بوضوح، إذ يجب عقد انتخابات جديدة في غضون 50 يوماً. بينما سيتولى الرئاسة حتى ذلك الحين نائب الرئيس محمد مخبر.
من هو محمد مخبر؟
- هو سياسي بيروقراطي يُشبه مايك بانس
- يتمتع بعلاقات وطيدة مع خامنئي والجيش
- كان يدير تكتلات تجارية بعشرات المليارات من الدولارات نيابةً عن المرشد الأعلى وقادة الحرس الثوري أيضاً
لكن مخبر سيتعرض للاستبدال بشخصٍ آخر في النهاية، وستكون الانتخابات الرئاسية المقبلة حاسمة، إذ إن الفائز بها -سواءً من المحافظين أو المعتدلين- سيشهد على الأرجح عملية الانتقال من علي خامنئي إلى مرشدٍ أعلى جديد، وهذا سيرسم ملامح مصير إيران في العقود المقبلة، لكن ألاعيب السلطة هذه تأتي في وقتٍ يشهد انخراط إيران في صراع إقليمي بالوكالة ضد أمريكا وإسرائيل والسعودية.
ولا عجب في أن يتساءل العديد من الإيرانيين عما إذا كان للخصوم أي دور في تحطم المروحية، حيث اشتبكت إيران مع إسرائيل الشهر الماضي بعد اغتيال الإسرائيليين لجنرال إيراني في سوريا. ورد الإيرانيون بقصف إسرائيل بوابل ضم أكثر من 300 صاروخ ومُسيَّرة.
ولا بد من القول إن الموساد، جهاز التجسس الإسرائيلي، له باع طويل في اغتيال الخصوم. وقد فعل ذلك حتى في إيران، التي شهدت اغتيال علماء نوويين بارزين في الماضي، لكن الموساد لم يصل إلى مرحلة اغتيال رئيس دولةٍ من قبل، لأن خطوةٍ كهذه ستمثل عملاً حربياً واضحاً يستوجب رداً إيرانياً عنيفاً.
وسيكون من التهور المخاطرة بهذا العداء لمجرد اغتيال رئيسي، الذي كان مجرد سياسي يفتقر إلى الشعبية فضلاً عن أنه لم يتمتع بسلطةٍ نهائية على العديد من القرارات السياسية الرئيسية في إيران.
وهذا يعني أن تورط إسرائيل هو أمر مستبعد لكن ذلك لن يمنع مسؤولي إيران من ترويج نظريات المؤامرة.
إقرأ أيضاً:
✚ الاغتيال الثاني لسليماني… من الفاعل الحقيقي وراء تفجيرات كرمان؟؟
✚ تداعيات حرب غزة على نفوذ إيران الإقليمي
✚ في ميناء تشابهار.. إيران والهند تعزفان على وتر سباق القوى الكبرى