لماذا يقول العراق إن هذا الطريق يستطيع إصلاح الشرق الأوسط؟
مطالعات جيوسياسية - أكتوبر 2024

بدأ العراق عودته القوية، إذ يبني شبكة طرق وسككا حديدية ضخمة لربط منطقة الخليج بالبحر المتوسط، سيؤدي هذا إلى تدفق تجارةٍ بمليارات الدولارات عبر العراق، وسيأتي الرخاء الأكبر متبوعاً باستقرارٍ أكبر، هذه هي الفكرة على الأقل.

ويعمل مسؤولو العراق بلا كللٍ من أجل إشراك الجميع، ففي أبريل/نيسان 2024، استضافت بغداد اجتماعاً بين القيادتين التركية والعراقية، وكان هذا الاجتماع هو الأول من نوعه منذ 13 عاماً، إذ وقع الجانبان أكثر من 24 صفقة. وبعد الصفقة التركية مباشرةً تواصل الدبلوماسيون العراقيون مع قطر والإمارات لتأمين الاستثمارات ووقعوا على اتفاقيات إضافية.

يُعَدُّ المشروع العراقي واحداً من عدة مشروعات تتنافس من أجل الهيمنة على التجارة بين الشرق والغرب.

  • هناك الممر الأوسط المدعوم من الصين والذي يمتد من وسط آسيا مروراً ببحر قزوين ثم وصولاً إلى تركيا
  • هناك ممر الشمال الجنوب المدعوم من روسيا أيضاً ويمتد من موسكو إلى باكو وطهران، ثم مومباي
  • الممر الثالث هو الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا ويمر عبر الإمارات والسعودية وإسرائيل واليونان، قبل الوصول إلى أوروبا

ويختلف الممر العراقي عن منافسيه لأنه يسعى إلى إشراك صناع القرار الإقليميين، بدلاً من استبعادهم وهذا يُفسِّر نهج التواصل العراقي، لكن التعقيدات البيئية، والفساد التعجيزي، والنزاعات الإقليمية المتواصلة تقف في طريق بغداد.

ومن الممكن أن تؤدي هذه الاضطرابات إلى تقويض طموحات بغداد قبل أن تنتهي من المشروع، ومع ذلك، سنجد أن المكاسب تفوق المخاطر، وإذا نجح المشروع؛ فسيتحول العراق من أرض خصبة للاضطراب إلى حجر زاوية في التجارة الدولية.

منصة أسباب وبالشراكة مع Caspian Report، تشرح لكم في هذا الفيديو كيف لدى العراق قناعة بأن هذا الطريق يستطيع إصلاح الشرق الأوسط.

القناة الجافة

شهد العراق كل شيء، الثروة والنفوذ والصراعات والخيانة والفقر والانهيار، إذ كان موقعه المركزي جغرافياً بمثابة نعمةٍ ونقمة بنفس الوقت والقدْر. وفي الآونة الأخيرة، أصبح العراق في مركز الصراعات الإقليمية وينطبق هذا على الصراع الإيراني الإسرائيلي، والمفاوضات السعودية السورية، وحتى عمليات مكافحة التمرد التركية.

وسنجد أن أي شيء وكل شيء يحدث في الشرق الأوسط يجر العراق إلى معادلته عن غير قصد، وتأمل بغداد الآن أن تستغل ذلك الموقع المركزي لخدمة مصالحها، إذ تبني مشروعاً ضخماً بتكلفة 7 مليارات دولار.

يحمل مشروع اسم “طريق التنمية” وتريد من خلاله تحويل نفسها إلى وجهة تجارة كبرى تربط المصنعين في آسيا باقتصادات المستهلكين في الشرق الأوسط وأوروبا.

  • سيمد المشروع طريقاً سريعة مع سكة حديدية لمسافة 1,200 كلم من الشمال إلى الجنوب بطول أراضي العراق
  • يسعى المسؤولون من خلاله إلى ربط منطقة الخليج الحيوية بالداخل التركي،
  • الوقت مثاليٌ للمشروع إذ يعاني البحر الأحمر من الاضطرابات وعدم الاستقرار
  • يريد العراق تحويل نفسه إلى قناة جافة، وتطوير بديل أسرع وأكثر أماناً لمرور التجارة بين الشرق والغرب.

أكبر ميناء في المنطقة

إنها خطوة جريئة وإذا نجحت؛ فستمنح العـراق مفاتيح الرخاء والاستقرار لنفسها وللمنطقة الأوسع أيضاً، فما يحدث في العراق يؤثر على سائر الشرق الأوسط، ولا عجب أن الممر العراقي وجد الكثير من الشركاء خارج أراضيه، إذ تشارك فيه تكتلات شركات مثل دايو الكورية الجنوبية وتكنيتال الإيطالية.

لكن سر نجاح المشروع يكمن في ميناء الفاو الكبير لأنه يقع على جزيرةٍ اصطناعية عند مصب نهر شط العرب، ومن المقرر أن يصبح أكبر ميناء في المنطقة.

  1. أفادت تكنيتال بأنه سيضم 99 مرسى
  2. سيكون قادراً على استيعاب 36 مليون طن من شحنات الحاويات سنوياً
  3. هذا يعادل نحو 4 ملايين حاوية بالأبعاد القياسية
  4. الرقم يُعادل سعة ميناء بورسعيد المصري وميناء أبوظبي الإماراتي تقريباً
  5. بدأت أعمال بناء ميناء الفاو الكبير بالفعل
  6. تتوقع بغداد إتمام بنائه بحلول 2038

وتصدّر حجم المشروع الضخم عناوين الأخبار حول العالم، خاصةً بعد اعتبار حاجز أمواج الميناء أطول حاجزٍ في العالم بطول يبلغ 15 كلم، وبعيداً عن الدعاية المرتبطة بالخطوة، يُعد حاجز الأمواج علامةً واضحة تُحدد المسطحات البحرية التي يطالب بها العـراق ورمزاً لالتزام بغداد بالمشروع.

طريق التنمية في العراق ( الممر العراقي ) - طريق الحرير العراقي

بناء طريق وسكة حديدية

في الوقت ذاته وعلى الأرض، بدأت الحكومة العراقية بناء طريق وسكة حديدية بطول 1,200 كلم.

  1. ينطلق الممر المخُطط له من ميناء الفاو الكبير 
  2. يمتد في اتجاه الشمال
  3. يمر بالمراكز السكانية الرئيسية مثل البصرة، والديوانية، والنجف، وكربلاء، وبغداد، وتكريت، والموصل
  4. ينتهي عند منطقة أوفاكوي الحدودية في جنوب شرق تركيا
  5. هناك يتصل ممر النقل بالسوق الأوروبية عبر خطوط أوتويول القائمة، وخطوط السكك الحديد العابرة للأناضول التي يجري إنشاؤها في تركيا

ويُمكن القول إن الممر العراقي سيُولد نحو 250 ألف وظيفة إجمالاً، كما سيُدر على بغداد ما يصل إلى 4 مليارات دولار سنوياً من رسوم عبور البضائع، مع نقل نحو 40 مليون طن من الشحنات سنوياً، لكن كل هذا ليس سوى غيضٍ من فيض.

وإذا نجح الممر العراقي؛ فسيختصر نحو 10 أيام من متوسط الوقت الذي تقضيه الصادرات الآسيوية لبلوغ أوروبا، وبهذا سيسحب العـراق التجارة المارة عبر البحر الأحمر، والتي تُدر على القاهرة ما يصل إلى 10 مليارات دولار سنوياً من رسوم الشحن.

ولا بد من الاعتراف بأن الممر العراقي لا يمكنه أن يحل محل قناة السويس بالكامل، لكن المؤكد هو أنه سيقتطع حصةً من نمو التجارة بين الشرق والغرب، والتي من المتوقع أن تتوسع بمعدل 15% سنوياً، ومع تطور المشروع العـراقي وتوسُّعه بطول البلاد مروراً بالمراكز السكانية الكبرى؛ يأمل المشرعون أن تشارك الشركات المحلية في كافة قطاعات ممر النقل، ما سيؤدي إلى بناء سلسلة قيمة بالتبعية.

وسيعيد هذا الأمر إحياء الريف العراقي الذي يعاني، كما سيسحب الضغط السكاني بعيداً عن مراكز المدن الكبرى، لكن طموحات بغداد تتجاوز حدود الشرق الأوسط، إذ يسعى العـراق عبر شراكته مع تركيا، وقطر، والإمارات إلى منافسة الممر الاقتصادي الهندي المار عبر الشرق الأوسط.

وكانت تلك المبادرة قد تلقت دعماً قوياً من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، لأنها تضع تصوراً لممر نقل يبدأ من الهند، ويمر عبر الإمارات والسعودية والأردن وإسرائيل، قبل أن يصل إلى موانئ جنوب أوروبا. ويُعد إشراك دول الخليج في ممر النقل هذا وسيلةً من واشنطن لتعطيل الجهود الصينية في المنطقة فعلياً.

ويُمكن القول إن الشرق الأوسط يشهد حرب ممرات، ولكل ممر منها مزاياه وعيوبه وشروطه الخاصة، خلال الأشهر الأخيرة، أدى صراع غزة إلى إبطال جدوى الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط، وهذا لأنه يحاول ضم إسرائيل والسعودية في الطريق نفسه، لهذا من المحتمل أن يُصبح الممر العراقي هو الحل الأمثل الآن، خاصةً في ظل عدم الاستقرار الذي يشهده البحر الأحمر.

المصالحة والمركزية

منذ إعلان المشروع في مايو/أيار عام 2023، شهد العـراق موجة نشاط تجاري ودبلوماسي وشمل هذا الزيارة التاريخية للرئيس التركي في أبريل/نيسان عام 2024. وعلى الرغم من القرب الجغرافي بين البلدين، سنجد أن الخلافات بشأن التجارة والأمن والمياه العذبة أبقت العلاقات بين أنقرة وبغداد فاترة.

إذ شكّلت الموارد المائية التركية نقطة توتر مستمرة طيلة عقود، ولطالما اشتعلت الخلافات بين المسؤولين الأتراك والعـراقيين حول حقوق الوصول إلى الماء في حوض دجلة والفرات.

إذ تفتقر تركيا إلى صناعة هيدروكربونات خاصة بها، لهذا ظل بناء السدود عند المنابع جزءاً محورياً منذ سياسة استقلال الطاقة التركية. وقد سارع المسؤولون الأتراك إلى توضيح هذه المسألة أثناء نقاشاتهم مع جارتهم الجنوبية الغنية بالنفط.

وعلاوةً على الوصول إلى الماء، لا تزال العلاقات الثلاثية متوترةً بين العـراق وحكومة إقليم كردستان وتركيا. فهناك خلافات قائمة بين بغداد وأربيل حول إيرادات النفط والجمارك، الأمر الذي يشكل عائقاً ثابتاً في طريق فرض مركزية السلطة.

وتزداد الأمور تعقيداً لأن حكومة إقليم كردستان نفسها لا تزال منقسمةً بين الحزب الديمقراطي الكردستاني وبين الاتحاد الوطني الكردستاني. ويحظى الحزب الديمقراطي الكردستاني بعلاقةٍ وثيقة مع تركيا، بينما يحظى الاتحاد الوطني الكردستاني المتمركز في السليمانية بدعم إيران.

وقد حال هذا الخلاف بين الحزبين الكرديين دون استقرار الحكم في إقليم كردستان العراق، ما سمح بالتبعية للمسلحين الأكراد -مثل حزب العمال الكردستاني- بشن هجمات ضد تركيا من كردستان العراق. وبالتالي، أصبح التدخل التركي في كردستان العراق -بما في ذلك بناء أكثر من 40 موقعاً عسكرياً تركياً- أحد سمات الوضع الراهن.

وهذه حقيقة تُثير حُنق السلطات في بغداد، لكن المصالح المشتركة يمكنها أن تُحوِّل ألد الأعداء إلى أصدقاء. ومن المتوقع أن تكسب أنقرة الكثير في التجارة والدفاع إذا تعاونت مع العـراق، وقد أعلنت أنقرة دعمها لمبادرة بغداد بعد استبعادها من الممر الاقتصادي الهندي.

وضمن جهود بغداد الواسعة لإعادة ضبط علاقاتها:

  • اتخذ العـراق إجراءات ضد حزب العمال الكردستاني
  • حظر التنظيم رسمياً قبل الزيارة الرئاسية التركية
  • جاءت هذه الخطوة كضوءٍ أخضر من بغداد لتنفيذ عمليات تركية إضافية ضد حزب العمال الكردستاني

وفي المقابل:

  • أعرب الأتراك عن التزامهم بفتح صمامات منابع النهرين
  • تزويد بغداد بالتقنية والمساعدة اللازمة في مجال إدارة الماء والري

وبالنسبة للعراق، يُعَدُّ الموقف الصارم ضد حزب العمال الكردستاني المحظور ثمناً بسيطاً لزيادة التعاون مع تركيا في حقوق الماء وتطوير البنية التحتية. وفي الوقت ذاته بالنسبة لتركيا، سنجد أن الممر المحصن الذي يقسم أراضي كردستان السورية والعـراقية تتجاوز أهميته حدود الاقتصاد، إذ ترتبط أهميته بالسياسة الخارجية أيضاً، وهي وجهة نظر إيران كذلك.

صراعٌ وصدام

جذب طريق التنمية العراقي أنظار صناع القرار الإقليميين.

  • وقّعت الإمارات وقطر على إعلانٍ مشترك لدعم المشروع

وقد كانت الإمارات حلقة وصلٍ محورية في الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط، لكن الإماراتيين لا يرون ذلك الممر كمنصةٍ قابلةٍ للنجاح الآن، ويريدون إبقاء خياراتهم مفتوحة، لهذا تسعى الإمارات إلى التفاعل مع العـراق كوسيلةٍ متعددة الأطراف لاحتواء النفوذ الإيراني، مع تعزيز السيادة العـراقية.

  • وجدت قطر الأرضية المشتركة في إمكانية سحب استثماراتها من القوى الكبرى، وامتلاك مصالح إقليمية أكبر، علاوةً على أن قطر قدمت دعمها المالي للمشروع أملاً في بسط نفوذها على عملية تطويره.
  • لا يحظى المشروع بالترحاب نفسه من جميع جيران العـراق، إذ ستكون طهران أكبر الخاسرين في حال نجاح الممر العراقي، لأن بغداد ستصبح أكثر استقلالاً عن النفوذ المالي لطهران
  • سيُلحق هذا ضرراً بالغاً بمكانة إيران التقليدية باعتبارها مرفأ الخليج، وذلك بعد أن تتجه التجارة غرباً
  • الممر العراقي سيقطع على الأرجح تدفق الأسلحة الإيرانية نحو سوريا
  • تقييد عمل الجماعات الوكيلة لإيران في المناطق القريبة 

لهذا أعربت الجماعات المدعومة من إيران -مثل حزب الله العراقي- عن مخاوفها حيال الخطة بالفعل، ولا يُمكن تفسير ذلك سوى باعتباره تحذيراً مباشراً من طهران.

إذ يمتد النفوذ الإيراني إلى ما هو أبعد من الميليشيات الشيعية في جنوب العـراق، تتمتع طهران بعلاقات وطيدة مع الاتحاد الوطني الكردستاني السياسي وحزب العمال الكردستاني المسلح، وتحافظ من خلالهما على سياسة متعددة الأطراف فيما يتعلق بسوريا المجاورة.

أي إنه في حال أرادت طهران التصدي لخطط بغداد وأنقرة؛ فستكون لديها مجموعة من الأدوات التي تُتيح لها فعل ذلك. وبالنسبة للعراق، يُشكل رد الفعل القوي من إيران المجاورة أكبر تهديدٍ لجدوى الممر وستظل هناك نزاعات أخرى في البحر جنوباً حتى لو اجتاز العراقيون متاهة الخصوم السياسيين، والجماعات المسلحة المحظورة، والوكلاء الأجانب.

إذ يُعد ساحل العراق ضيقاً للغاية، بطولٍ لا يتجاوز 58 كلم إجمالاً، هذا يعني أن بناء ميناء الفاو الكبير سيجري داخل مساحةٍ بحريةٍ بالغة الضيق، ويُعتبر العـراق بمثابة مستودعٍ ضخم له باب صغير للغاية. وربما يردد البعض هذه العبارات في سياق المزاح، لكنها تُبرز مشكلةً أكبر في الجغرافيا السياسية العـراقية.

فمنذ استقلال العراق عام 1932، سعت بغداد إلى التصدي لترسيم الحدود البحرية الإيرانية والكويتية، وأسفر ذلك الموقف عن اندلاع حربين كارثيتين هما حرب إيران مع العراق وحرب الخليج. وأدت عقود الدمار المتتالية إلى تعطيل مؤسسات الـعراق وإصابته برذائل الفساد والطائفية والعسكرة.

عقبات أمام المشروع العراقي

وتُلقي هذه المشكلات بظلال الشك على المشروعات الكبرى مثل طريق التنمية. وقد انتشرت بالفعل فضائح تتعلق باستيراد واستخدام معدات بناء دون المستوى. بينما جرى إنفاق بعض الأموال بنجاح كامل، لكنها لم تكن كافية، إذ إن خطر الإفلاس المتواصل ونفقات المشروع المتزايدة باستمرار بدءا يشكلان عقبةً بالنسبة للمسؤولين في بغداد.

وإبان معاناة العراق من نقاط الضعف المؤسسية، أعلنت الكويت عن خططها لبناء ميناء موازٍ على مرمى حجرٍ من ميناء الفاو الكبير العراقي، أي إن العقود التالية قد تشهد وجود ميناءين كبيرين بمليارات الدولارات أمام بعضهما البعض.

لكن هذه المنطقة ليست كبيرةً بما يكفي لتسع كليهما، لهذا لن يبقى سوى واحد منهما. وإجمالاً، يُعد العراق حلقة الوصل التي تربط الشرق الأوسط، لكنه العامل المحفز الذي يقطع هذا الترابط دائماً أيضاً.

ولو كان هناك أمر واحد يتفق عليه جميع صناع القرار في المنطقة، فهو أن استقرار ورخاء العـراق يُمكنه إصلاح الشرق الأوسط، فالتحالف من أجل غاية مشتركة سينجح في كسب المعركة.