عام 1910 صُنِّفت الأرجنتين باعتبارها من أغنى دول العالم، وبلغ متوسط معدل نموها السنوي 5% بينما كان نصيب الفرد من إجمالي ناتجها المحلي ينافس بلجيكا،لكن بحلول العام 2000 انقلبت الأحوال. انخفض نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي وأصبحت الأرجنتين على شفير الإفلاس منذ ذلك الحين.
فلماذا توقف نمو الأرجنتين إذاً؟ ولماذا لم تتطور إلى دولةٍ مزدهرة مثل اليابان أو فرنسا أو كندا؟ وما السبب وراء تراجعها البطيء، والمؤلم، والطويل؟
منصة أسباب وبالشراكة مع Caspian Report، تشرح لكم في هذا الفيديو الأسباب التي أدت إلى توقف نمو الأرجنتين وتدهور أحوالها.
كيف غيّر الاستعمار شكل سياسات الأرض في الأرجنتين؟
احتلت الأرجنتين أعلى المراكز على المؤشرات القياسية بحلول القرن الـ 20، لكن جذور سياساتها المتبعة على الأرض كانت تعود إلى القرن الـ 16. وتُعتبر الأرض مصدراً لكل الثروات لكن توزيع الأراضي في الأرجنتين أدى إلى تباطؤ التنمية كما هو حال كافة المجتمعات الاستيطانية.
- العنف واستغلال امتيازات القوة حددا شكل انتقال الأراضي من السكان الأصليين إلى أيدي الغزاة
- حصل الجنود وأصحاب العلاقات السياسية القوية على أراضٍ شاسعة يُطلق عليها اسم “المزارع” أو “الإقطاعيات”
- استطاع نظام الملكية الذي يمنح الأرباح لرأس الهرم أن يضمن لهم الثروة، والمكانة، والنفوذ السياسي
- انتشر هذا الاتجاه في منطقة نهر الفضة (ريفر بليت) بحلول القرن الـ 17
- انهيار إسبانيا عام 1808 سمح لملاك الأراضي من الإقطاعيين باحتكار السلطة
- بحلول ستينيات القرن الـ 19 استردت النخب الريفية سيطرتها على بوينس آيرس وحكموا من خلال ديمقراطيةٍ صورية
- توسعت الدولة الجديدة جنوباً وصولاً إلى منطقة البامبا بعد أن تحررت من سلطة مدريد
- حصل المستوطنون على أراضٍ جديدة لكن الأثرياء استحوذوا على نصيب الأسد
كيف تسللت الاستثمارات البريطانية للأرجنتين؟
دفع التقدم في تكنولوجيا التبريد وغياب السوق المحلي الإقطاعيين إلى الاعتماد على الصادرات لتحقيق الأرباح.
- اتجهت غالبية الصادرات إلى المراكز الصناعية في بريطانيا
- بدأت الاستثمارات البريطانية في الأرجنتين
- احتكرت السكك الحديدية هناك حتى تضمن استقرار الصادرات
- تولت بريطانيا الدور الاستعماري نفسه الذي كانت تشغله إسبانيا بالأرجنتين
- بدأت المصالح الشخصية للإقطاعيين تتصادم مع أولويات التنمية
- تعهدوا أراضيهم بأساليب غير متطورة مما يعني أن ثروتهم ونفوذهم كانا يعتمدان على أن تظل الأرجنتين مصدراً للسلع الخام الزراعية
- لم يكن هناك ما يدفعهم لارتقاء سلسلة القيمة أو دعم الصناعة بالتبعية
- تركوا هذه الوظائف لبريطانيا سامحين للركود الاقتصادي بأن يحاصر الأرجنتين
مع تدفق المهاجرين على نهر الفضة تحول العديد منهم إلى مزارعين مستأجرين في الإقطاعيات، التهمت رسوم الإيجار الباهظة هنا فائض المزارعين مما قوض الطلب الاستهلاكي الذي كان سيجعل التصنيع المحلي مجدياً من الناحية الاقتصادية.
ازدهرت الزراعة لكن تعرقل نمو الأرجنتين على المدى البعيد. إذ لم تكترث طبقة الإقطاعيين الحاكمة لهذا الأمر بل كان أغلبهم سعداء بتدفق عائدات التصدير وإيجارات الأراضي على خزائنهم.
تداعيات تمحور الاقتصاد الأرجنتيني حول التصدير
لم يكن الازدهار الظاهري عادلاً في جوهره لأنه يعتمد على أسواق التصدير، فيما عكست وسط بوينس آيرس حقيقة الواقع المظلم للأحياء التي غطتها القمامة والمساكن المشيدة بجهودٍ ذاتية.
- أدّت موجات المهاجرين الطليان والإسبان الجدد إلى زيادة الضغط على البنية التحتية القائمة
- نظراً لتوظيف الغالبية في مجال الزراعة والتصدير ظلت معايير التعليم ومحو الأمية منخفضة
- تمحور الاقتصاد الأرجنتيني حول التصدير جعل البلاد عرضةً لخطر الصدمات العالمية مثل الضربة الشديدة التي تعرضت لها أسواق التصدير في الحرب العظمى عام 1914
- أفسحت الإصلاحات الانتخابية المجال أمام عمال المدن ليقوموا بتشكيل الحكومة
- تولى الاتحاد المدني الراديكالي السلطة عام 1916 بموجب حملة انتخابية مناهضة للنخب ونجحوا في دفع الصناعة وتوفير فرص العمل
- أدى ارتفاع مستويات المعيشة إلى رفع أسعار الغذاء وتكاليف العمالة ما هدد نموذج الزراعة والتصدير الذي اعتمد عليه الإقطاعيون
- بلغت التوترات ذروتها مع انهيار وول ستريت عام 1929
- تسبب الكساد الكبير في انهيار أسواق التصدير العالمية
- جاءت حالات الجفاف الشديد المتزامنة لتقطع سبل عيش العمالة الزراعية وتُثير الاضطرابات المدنية في البلاد
- لجأ الإقطاعيون إلى ذريعة الاستقرار في عام 1930 من أجل تبرير دعمهم لانقلابٍ عسكري
الأرجنتين.. سوق أسير لمنتجات الفحم
هدد قرار لندن بفرض تعريفات جمركية على لحوم البقر انتعاشة الأرجنتين الاقتصادية، فاستغل الإقطاعيون سيطرتهم على الحكومة آنذاك ليتصرفوا بما يضمن مصالحهم الشخصية مرةً أخرى.
- عام 1933 وقعت حكومة بوينس آيرس على معاهدة روكا-رونكيمان غير المتكافئة
- تحولت الأرجنتين بموجبها إلى سوق أسير لمنتجات الفحم والنفط البريطانية مقابل استمرار صادرات اللحم البقري.
- حصلت الشركات البريطانية على امتيازات خاصة في صناعات تجهيز وبيع اللحوم الأرجنتينية
- إعفاء البريطانيين من قوانين العمل مما حصر الأرجنتين مرةً أخرى في مجال استخراج الموارد الطبيعية
خوان دومينغو بيرون.. من وزير إلى رئيس
لا عجب أن المشاعر المناهضة للبريطانيين والأوليغاركية انتشرت في الثلاثينيات، ثم اندلعت الحرب العالمية الثانية عام 1939 لتخلق أرضيةً خصبة للقومية الاقتصادية.
- التوسع الصناعي في زمن الحرب منح القوى العاملة الحضرية ثقلاً سياسياً جديداً
- جاء انقلابٌ عسكري جديد في عام 1943 أعاد هيكلة المجتمع الأرجنتيني مرةً أخرى
- المستفيد الرئيسي هذه المرة كان جنرالاً عسكرياً يُدعى خوان دومينغو بيرون
- استغل بيرون منصبه كوزيرٍ للعمل بعد تعيينه من أجل جمع الموالين وبناء قاعدة سياسية شعبوية
- مع عودة الديمقراطية عام 1946 نجح بيرون في ركوب الموجة حتى وصل إلى القصر الرئيسي مباشرةً
- سعى بيرون لتطبيق نموذج آخر لدولة الحكومة التعاونية
- قام بتأميم خطوط السكك الحديدية الأرجنتينية في مقابل التخلي عن ديون بريطانيا للأرجنتين منذ زمن الحرب
- نجح في فرض تعريفات جمركية على الصادرات مما خفض أسعار الغذاء المحلية وزاد إيرادات الدولة
- خصص تلك الأموال لبرامج الرعاية الاجتماعية ودعم الصناعة
أين أخطأ خوان دومينغو بيرون؟
- أدى الحياد في زمن الحرب إلى استبعاد الأرجنتين من مشروع مارشال الذي وضعته واشنطن للمساعدات
- تدفقت الدولارات الأمريكية على أوروبا التي أعادتها للولايات المتحدة في صورة مشتريات زراعية
- خرجت الأرجنتين من المعادلة وأصبحت محرومةً من النقد الأجنبي الضروري لاستيراد التقنيات ومصادر الطاقة التي تحتاجها
- دخل الاقتصاد في أزمةٍ بحلول عام 1949
- تراجعت عائدات التصدير بمقدار الثلث واختفت احتياطيات الدولار وتوقف الإنتاج الصناعي
- تفشت البطالة ووصل معدل التضخم إلى 33٪
- لم يكن أمام بيرون خيار سوى خفض الإنفاق وإنعاش صناعة التصدير وفتح أبواب الأرجنتين أمام رؤوس الأموال الأجنبية
- هذه الخطوات قوّضت صورة بيرون القومية مما دفعه إلى الرد بقمع المعارضين قبل أن يقع في المحظور بتحديه الكنيسة الكاثوليكية
- شهد عام 1955 الإطاحة بالجنرال السابق في انقلابٍ عسكري آخر ونفيه إلى مدريد
- بعد عودة الأرجنتين إلى الديمقراطية في عام 1958 شهدت البلاد انقلاباً عسكرياً آخر في عام 1966
واصلت مستويات المعيشة في البلاد ارتفاعها على الرغم من تراجع نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحل،لكن الهبوط الحقيقي بدأ عام 1973 عندما أدت صدمة أسواق النفط وانهيار اتفاقية بريتون وودز إلى تدهور الأوضاع العالمية وتعرض سوق الصادرات الزراعية العالمية لضربةٍ قاصمة.
- تباطأت الاستثمارات الأجنبية بشدة
- قررت الديكتاتورية العسكرية اليائسة أن تدعو بيرون للعودة من أجل رئاسة ائتلاف ديمقراطي
- لم يكن بوسع بيرون أو حكومة كاملة من الاقتصاديين أن يحلوا مشكلات البلاد
- بعد وفاة بيرون عام 1974 خلفته زوجته إيزابيل في الحكم لكنها لم تكن أهلاً لإعادة استقرار الاقتصاد أيضاً
- أدى برنامج التقشف الفاشل إلى رفع تكاليف المواصلات والمرافق ما أسفر عن انهيار الأجور وحالة تضخم مفرطة، وركود اقتصادي
- جرى انقلاب آخر عام 1976
- المجلس العسكري حظي هذه المرة بدعم الأوليغاركية الذين سعوا إلى إعادة هيمنة الزراعة
- أدى ذلك إلى رفع القيود والخصخصة وإلغاء التعريفات الجمركية الوقائية والاقتراض واسع النطاق
- تضخُّم الدين الخارجي الأرجنتيني إلى 31 مليار دولار أي ما يعادل خمسي إجمالي الناتج المحلي للبلاد
- تم التخلي عن الصناعة بالتبعية وزادت البطالة الجماعية وانخفضت الأجور الصناعية الحقيقية بمقدار النصف
إقرأ أيضاً:
كولومبيا تلحق بربيع اليسار في أمريكا اللاتينية وتعيد انتباه واشنطن إلى الكاريبي
الممر بين المحيطين في أمريكا الجنوبية.. هل يحلّ محلّ قناة بنما؟
ميلوني تحكم إيطاليا: صعود اليمين القومي يهدد مستقبل الوحدة الأوروبية
عهد سيطرة المجلس العسكري على الأرجنتين
- قوبلت المقاومة بالقوة واختفى ما يصل إلى 30 ألف معارض سياسي على يد الحكومة
- أدى تخفيف قيود رأس المال إلى قيام الأوليغاركية بنقل أموالهم خارج البلاد
- قررت الحكومة خفض قيمة العملة مجدداً عام 1981 لدعم الصادرات
- تهافت المودعين على المصارف لسحب أرصدة البيزو وهجرة رؤوس الأموال من البلاد
- استغل المجلس العسكري حيلة القومية لغزو جزر فوكلاند التي كانت سيادتها محل نزاعٍ مع بريطانيا
- الخطة أتت بنتائج عكسية بعد أن نجحت القوات البريطانية في استرداد الجزر
- انهار المجلس العسكري وعادت الديمقراطية إلى البلاد في عام 1983
حكومة راؤول ألفونسين
- وقعت مهمة إعادة بناء الدولة الممزقة على عاتق حكومة راؤول ألفونسين
- كانت مهمةً مستحيلة نظراً لحجم الدمار الذي ضرب القاعدة الصناعية الأرجنتينية
- لم يكن أمام ألفونسين خيارٌ سوى أن يطلب قرضاً من صندوق النقد الدولي لتجنب الإفلاس
- تم فرض تدابير التقشف على الأرجنتين وتحسّن الاقتصاد قليلاً
- نقص المياه وانقطاع التيار الكهربائي قسرياً تسببا في إثارة السخط الاجتماعي
- التضخم المفرط نتيجةً لطباعة الأموال والذي بلغ معدله 28,000% عام 1989 سمح لأنصار البيرونية بالعودة إلى السلطة
عهد الرئيس كارلوس منعم
- تخلى الرئيس الجديد كارلوس منعم عن أفكاره الديمقراطية الاجتماعية من أجل الحفاظ على تدابير التقشف وهجر الصناعة
- أطلق عملة البيزو القابلة للتحويل والمدعومة بالدولار في محاولةٍ لوقف التضخم
- موّل خطته عن طريق القروض الضخمة بالدولار الأمريكي
- باع الشركات الحكومية إلى جهاتٍ من القطاع الخاص
- نجح في تخفيف التضخم وشهدت البلاد نمواً مستقراً
- بحلول عام 1997 أدى تراكم الديون إلى الضغط على قابلية العملة للتحويل
- منعم رفض التخلي عن ربط العملة بالدولار لأن هذه الخطوة كان من شأنها أن تدمر الثقة الاقتصادية
- انزلقت البلاد في هاوية الركود
عهد الرئيس فرناندو دي لاروا
- في عام 1999 جاء الرئيس فرناندو دي لاروا
- أدى ارتفاع الدولار إلى ارتفاع سعر عملة البيزو التي كانت مقومةً بأعلى من قيمتها الحقيقية
- تم تقويض تنافسية الصادرات الأرجنتينية
- تخلت بوينس آيرس عن ربط عملتها بالدولار في النهاية
- تهافت الأرجنتينيون على المصارف في محاولةٍ لسحب أموالهم قبل أن تنهار قيمتها
- حاولت الحكومة تعطيل الأزمة بتجميد الحسابات الدولارية
- النظام انهار بالكامل في ديسمبر/كانون الأول عام 2001
- تخلفت الأرجنتين عن سداد ديونها الخارجية بقيمة 80 مليار دولار
- انكمش ناتجها المحلي الإجمالي بمقدار الثلث واندلعت أعمال الشغب
بدّلت بوينس آيرس أربعة رؤساء في غضون ثلاثة أسابيع إيذاناً بأسوأ فترة كساد في تاريخ البلاد، إن تاريخ الأرجنتين في القرن الـ 20 تميز بإخفاقاتها في حل مشكلاتها الهيكلية الناجمة عن قاعدتها الاقتصادية الزراعية، إذ سعى المستفيدون إلى الحفاظ على استمرار الوضع الراهن لكنهم فعلوا ذلك على حساب التنمية الصناعية، وأدت التوترات الناتجة إلى تقويض الاستقرار السياسي وإحباط جهود وضع السياسات العقلانية والتخطيط بعيد المدى.