يتعامل العالم مع تهديدات كوريا الشمالية بـ الحرب وبتدمير أعدائها وكأنها مجرد تهديدات جوفاء. إلا أن زعيمها كيم جونغ أون قد يكون جاداً حيال الصراع المسلح الآن وهو في العام الـ13 من ولايته، إذ يختبر كيم حدود قوته الاستراتيجية الجديدة بالتزامن مع نضج قدرات بلاده النووية وبرنامجها الصاروخي.
ففي يناير/كانون الثاني عام 2024، أغلق الوكالات التي تعمل على إعادة توحيد الكوريتين، وأزال التصريحات ذات الصلة من دستور كوريا الشمالية. ثم مضى ليُعلن أن له الحق في إبادة كوريا الجنوبية، وصحيحٌ أن كوريا الشمالية ليست لديها فرصةٌ للفوز في الحرب ضد الجنوب، لكن تداعيات الحرب قد تشهد إطلاق ملايين قذائف المدفعية وآلاف الصواريخ على العاصمة الكورية الجنوبية سول، التي تقع على بُعد مرمى حجر من المنطقة منزوعة السلاح.
ويُصادف أن سول هي موطن الشطر الأكبر من الاقتصاد الكوري الجنوبي الضخم، ولهذا ستكون تداعيات صراعٍ كهذا عالمية النطاق.
منصة أسباب وبالشراكة مع Caspian Report، تشرح لكم في هذا الفيديو كيف يبدو شكل الحرب بين الكوريتين؟
لن تكون شبيهةً بما حدث عام 1950 على الإطلاق، إذ فاجأت القوات الكورية الشمالية الغازية قوات الولايات المتحدة آنذاك وسرعان ما استولت على غالبية أراضي شبه الجزيرة قبل الهجوم المضاد من أمريكا وكوريا الجنوبية.
كادت بيونغيانغ أن تحقق النصر الكامل بل وشارفت على بلوغ الحدود الصينية ولا عجب أن بكين تدخلت عندها، ما أدى إلى طريق مسدود في الصراع وأسفر عن اتفاق وقف إطلاق النار، وظلت شبه الجزيرة الكورية مقسمة عند خط عرض 38 تقريباً منذ ذلك الحين. ومن المستبعد أن يُعيد كيم جونغ أون التاريخ بحذافيره.
- تتمتع كوريا الجنوبية بتفوقٍ تقني واضح
- تستطيع إسقاط المقاتلات الكورية الشمالية قبل أن تدخل مجالها الجوي
أين يمكن أن تكون شرارة الحرب؟
لهذا من المرجح أن تندلع الحرب بين الكوريتين عن غير قصد حيث يُمكن أن يُساء تفسير استفزاز روتيني، ثم يتطور انتقام العين بالعين إلى اندلاع حرب شاملة، ويأتي المكان الأرجح لحدوث واقعةٍ كهذه بالقرب من الجزر الحدودية في البحر الأصفر، إذ تُعد تلك الجزر جزءاً من كوريا الجنوبية، ولكنها تقع داخل مياهٍ تُطالب بها كوريا الشمالية.
- أطلقت القوات الشمالية طوربيداً على سفينة حربية جنوبية قرب جزيرة باينجنيونجدو عام 2010، وأسفرت الواقعة عن مقتل 46 بحاراً.
- شهدت الجزيرة نفسها قصفاً مدفعياً مميتاً أسفر عن مقتل مدنيين وجنود بعد بضعة أشهر
- في يناير/كانون الثاني عام 2024، نفّذت كوريا الشمالية مناورات عسكرية قرب الجزر الحدودية
ورد الرئيس الكوري الجنوبي يون سوك يول بالقول إنهم سيعاقبون كوريا الشمالية بردٍ مضاعف على أي استفزاز.
أهمية عاصمة كوريا الجنوبية سول
ومن المؤكد أن تصعيد أي مناوشات، حتى ولو كانت هجوماً هامشياً في البحر الأصفر، سرعان ما سيوجه فوهات المدافع نحو سول.
- تُعد سول العاصمة السياسية والصناعية لكوريا الجنوبية
- يقطن منطقة العاصمة الكبيرة ما يصل إلى 26 مليون نسمة
- هي موطنٌ لنحو 70% من إجمالي اقتصاد كوريا الجنوبية الذي يبلغ حجمه 1.6 تريليون دولار
- هي المقر الرئيسي لبعض أكبر عمالقة الصناعة في العالم مثل سامسونج، وهيونداي، وكيا، وإل جي
ومن المؤكد أن اندلاع صراع مسلح يمس سول -ولو لفترةٍ وجيزة- سيؤدي إلى انهيار سلاسل التوريد العالمية، ما قد يدفع بالاقتصاد العالمي إلى فترة ركود بالتبعية، ومن سوء حظ سول أنها تقع على بُعد 40 كم فقط من المنطقة منزوعة السلاح.
وقد وضعت كوريا الشمالية بطول ذلك الخط نحو 12 ألف قطعة مدفعية مزودة بملايين القذائف، ناهيك عن آلاف الصواريخ والقنابل، وفي حال اشتعال الصراع، من المرجح أن تستهدف كوريا الشمالية الأهداف العسكرية والسياسية والاقتصادية عالية القيمة في سول.
وبحسب تحليل أجرته مؤسسة راند عام 2020:
- سيؤدي استمرار وابل المدفعية والصواريخ لمدة دقيقة واحدة إلى سقوط 15 ألف ضحية في سول
- إذا استمر القصف لأكثر من ساعة، فسيقفز الرقم إلى 100 ألف ضحية
سيناريو الحرب الأول
ويقول الكوريون الجنوبيون إن الشمال يستطيع إطلاق نحو 500 ألف قذيفة مدفعية خلال الساعة الأولى مع الحفاظ على الوتيرة نفسها لعدة ساعات، وهذا يعني أننا نتحدث عن مئات الآلاف من الضحايا في اليوم الأول باستخدام النيران التقليدية فقط.
ولا شك أن مجرد التفكير في هذه القدرات يمنح بيونغيانغ نفوذاً سياسياً كبيراً، إذ تحتفظ كوريا الشمالية بمدافع هاوتزر، والهاون، والصواريخ في مواقع محصنة وجاهزة للإطلاق خلال وقتٍ قصير لهذا الغرض تحديداً، وفي الوقت ذاته، تقول وزارة الدفاع الكورية الجنوبية إن نحو 200 ألف جندي كوري شمالي سيحاولون عبور الحدود براً، وجواً، وبحراً، وحتى عبر الأنفاق.
وسيتمثّل هدفهم في استهداف وتدمير البنية التحتية على نهر هان الذي يمر عبر وسط سول، ولا شك أن فعل ذلك سيقسم المدينة إلى نصفين ويحاصر ملايين المدنيين ليمنع فرارهم، وبعد حصار المدنيين، تستطيع كوريا الشمالية إطلاق أسلحتها الكيميائية على المدينة.
- تمتلك بيونغيانغ ترسانةً تضم ما يصل إلى 5,000 طن من الأسلحة الكيميائية
- تضم غازات الكلور والسيانيد والسارين
- يُمكن لـ1,000 كلغ من السارين قتل ما يصل إلى 125 ألف شخص في الظروف المناسبة
- سيموت الآلاف كل دقيقة في حال إطلاق غازات أعصاب من هذا النوع على سول
كيف تستعد سول للمعركة جويا وبريا؟
لا شك أنه سيناريو من الكوابيس، لكن الأفضلية الكورية الشمالية تنتهي عند هذا الحد، حيث أن كوريا الجنوبية مستعدة لهذه المعركة تماماً.
- تمتلك منظومة باتريوت الدفاعية القادرة على اعتراض الصواريخ
- لديها نحو 600 ألف جندي نشط في الخدمة وأكثر من 3.1 مليون جندي احتياط
- الميزانية العسكرية الكورية الجنوبية أكبر من اقتصاد كوريا الشمالية بالكامل
- القوات البرية الكورية الجنوبية أفضل عتاداً وتدريباً.
- أنظمتها الصاروخية من نوع جافلن ستدمر المدرعات السوفيتية التي تستخدمها قوات الشمال بسهولة، والتي يبلغ عددها نحو 6,500 تقريباً.
- لدى كوريا الجنوبية مقاتلات إف-35 المسلحة بصواريخ سطح جو المتطورة
- تستطيع التعامل مع أي شيء تطلقه كوريا الشمالية
- وجود نحو 28 ألف جندي أمريكي متمركز في البلاد
- تمتع الجيش الكوري الجنوبي بالوصول إلى أقمار التجسس الأمريكية دون انقطاع
وإذا لم يكن كل هذا كافياً فستهب المدمرات الأمريكية في غوام وسفنها الحربية في اليابان لمساعدة كوريا الجنوبية، وخلال الدقائق الأولى من الاشتباك ستحقق كوريا الجنوبية بمعاونة الأمريكيين تفوقاً جوياً كاملاً بكل الطرق الممكنة، وستستهدف كوريا الجنوبية مراكز القيادة، ومواقع الذخيرة، والرادارات، والمخابئ، ومستودعات الصواريخ، والمنشآت النووية المعادية وذلك أملاً في القضاء على أكبر قدر ممكن من الأصول المعادية.
الاستعدادات في المجال البحري
سيمتد هذا التفوق إلى المجال البحري أيضاً، إذ إن الغواصات الكورية الشمالية قديمة الطراز، ولا تستطيع الابتعاد عن الشاطئ كثيراً حتى لا يتم رصدها، أي إن البنية التحتية العسكرية، والخدمات اللوجستية، وشبكة النقل الكورية الشمالية ستُدمَّر في غضون أيام وستصبح بلا حماية.
لكن القتال على الأرض قد يستمر لعدة أسابيع أو ربما شهور، ومع ذلك، ستحظى كوريا الجنوبية باليد العليا في النهاية قبل أن تتقدم للسيطرة على مدن الشمال وستنتصر سول، لكن الثمن سيكون باهظاً جداً لدرجة أن البعض قد يعتبره لا يُحتمل.
سيناريو الحرب المحتمل الثاني
أما السيناريو المحتمل الآخر فيتمثل في الحرب المحدودة مع الشمال. وقد جرى نقاش مشهدٍ كهذا في عهد إدارة ترامب، وستندلع الحرب المحدودة في صورة ضربات استباقية. إذا تشكّلت لدى واشنطن وسول قناعة باحتمالية شن كوريا الشمالية لهجوم كبير وشيك.
وسيتمثّل هدف الحرب المحدودة في إظهار التفوق العسكري لقوات الحلفاء وتذكير كيم بأنه سيلقى نهايةً غير متوقعة تماماً، وسيكون الغرض هو توجيه رسالة ردع لكن مشكلة الحرب المحدودة هو أنها ستؤدي إلى اندلاع حرب شاملة على الأرجح.
علاوةً على أن الشطر الأكبر من صواريخ الوقود السائل الكورية الشمالية قد تحوّل إلى أنظمة الوقود الصلب في السنوات الأخيرة، وبات إطلاق تلك الصواريخ يستغرق وقتاً أقصر أي إن خيار الضربة الاستباقية سيشهد رداً كورياً شمالياً بالصواريخ والقنابل دون سابق إنذار تقريباً، والأسوأ من ذلك هو أن كيم قد يرد باستخدام أسلحته النووية إذا أخطأ في تفسير الضربة الاستباقية الأمريكية.
في يناير/كانون الثاني عام 2023 كشف تقرير رُفِعَت عنه السرية لمجلس الاستخبارات الوطنية الأمريكي أن كيم سيستخدم الأسلحة النووية فقط حال شعر بتهديد له ولنظامه، ومن الممكن أن تندرج إساءة تفسير رسالة الردع تحت هذا التصنيف. ولا نعلم عدد الأسلحة النووية الكورية الشمالية على وجه التحديد، لكن التكهنات تشير إلى أنها تتراوح بين 40 و90 رأساً حربياً.
بينما يتمثل هدف كيم النهائي في تطوير ما يتراوح بين 100 و300 رأس حربي خلال السنوات المقبلة، وقد تؤدي ضربة نووية واحدة على سول إلى سقوط قرابة الـ1.5 مليون ضحية، ونتحدث هنا عن ضحايا رأس حربيٍ واحد فقط، كما قد تضرب كوريا الشمالية القواعد الأمريكية القريبة، بما فيها قواعد بوسان وأوكيناوا وحتى غوام، وسيصل عدد الضحايا الأمريكيين إلى الآلاف.
كما تجري مناقشة مسألة ضرب أهداف في البر الرئيسي الأمريكي على الملأ، لكن امتلاك كوريا الشمالية لتقنية الصواريخ البالستية العابرة للقارات ما يزال محل شك حالياً.
أين دور الصين من الحرب المحتملة؟
الصين عنصر يجب وضعه في الاعتبار إذ لعبت بكين تاريخياً دورَ أقرب حلفاء بيونغيانغ وقاتلت إلى جانب الكوريين الشماليين في الحرب الأولى، ولدى الصين ما يكفي من الأسباب لمنع اندلاع صراع مسلح في منطقتها، إذ سيسفر الصراع بالأسلحة التقليدية أو النووية عن هزيمة كوريا الشمالية في النهاية، ما سيؤدي إلى اقتراب القوات الأمريكية من الحدودة الصينية أكثر.
وهذا يعني أن الصراع المسلح يتعارض مع مصالح الصين. لكن نفوذ بكين على بيونغيانغ يظل محدوداً، فبرغم العلاقات الاقتصادية الوطيدة، ثبت عجز الصينيين عن إجبار حلفائهم الكوريين الشماليين على تغيير سلوكهم، وفي عهد إدارة ترامب على سبيل المثال تعاونت الصين مع الولايات المتحدة في مجلس الأمن لإدانة برنامج الأسلحة النووية الكوري الشمالي.
لكن تلك المبادرة الدبلوماسية فشلت في تغيير سياسة كيم ولم تسفر سوى عن تقريب كوريا الشمالية من روسيا أكثر، ومنذ ذلك الحين، ساهمت مبيعات الأسلحة الكورية الشمالية إلى روسيا في زيادة تفاهم البلدين، لكن وعلى الجانب المقابل قد تكون مبيعات الأسلحة الكورية الشمالية إلى روسيا هي الضارة النافعة الوحيدة في المشهد الجيوسياسي بأسره، إذ يبيع كيم ملايين قذائف المدفعية لبوتين بمليارات الدولارات وهذه أنباء سيئة لأوكرانيا، لكنها أخبار سارة بالنسبة لكوريا الجنوبية لأنها تمد كيم بشريان حياة يساعده على تفادي الصراع.
وإذا كانت لدى كيم نية صادقة لخوض الحرب، فآخر شيء سيفعله هو بيع الذخيرة والمخاطرة بنقص الإمدادات أثناء الحرب.
إقرأ أيضاً:
✚ استراتيجيتا اليابان وكوريا الجنوبية: تحالف استراتيجي مع الغرب لاحتواء الصين
✚ كيف تصعّب جغرافيا اليابان السياسية ترسيخ مكانتها شرق آسيا؟
✚ شراكة استراتيجية بين أمريكا وجزر المحيط الهادئ كأحدث مظاهر الحرب الباردة مع الصين
✚ ما أهمية تايوان الاستراتيجية لأمريكا وكيف تسعى لمنع الصين من استعادة السيادة عليها؟