ملخص
● ترى موسكو في حرب “إسرائيل” على غزة فرصة لتوجيه جهود الدعم العسكري الغربي من أوكرانيا إلى جيش الاحتلال، بينما تنظر الصين إلى الحرب من زاوية مواجهتها مع أمريكا وليس من زاوية أزمة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وتعمل كل من روسيا والصين على الاستفادة من الحرب من خلال تعزيز دورهما كداعمين لدول الجنوب العالمي، وإظهار فشل وانحياز الولايات المتحدة والنظام الدولي الذي تقوده في التعامل مع مظالم تلك الكتلة الكبيرة من دول العالم.
● رغم رفض الموقف الغربي الداعم مطلقا للاحتلال الإسرائيلي، ستحافظ روسيا والصين على قدر من التوازن في الموقف إزاء الحرب في غزة؛ حيث تحرص موسكو على بقاء إسرائيل على حيادها إزاء الحرب الأوكرانية، فيما تقدم بكين نفسها كصانع للسلام مؤهل لدور الوساطة، خاصة وأن قدرتها على ممارسة ضغوط على إيران قد تكون مطلوبة للحد من توسع جبهة الحرب في الإقليم.
●وتوفر عودة القضية الفلسطينية لتصدر أجندة السياسة الإقليمية الفرص لكل من روسيا والصين لممارسة دور متزايد في المنطقة، خاصة وأن من المرجح أن الأزمة الحالية ستحفز اتجاهين رئيسيين كانا قائمين بالفعل في السياسة الإقليمية، كلاهما يخدم مصالح روسيا والصين:
◦ الاتجاه الأول: زيادة اتجاه دول المنطقة للعمل المشترك في الإقليم وبشكل مستقل عن الأجندة الأمريكية التي تتجاهل مصالحهم ولا تخدم حتى الاستقرار الإقليمي كما تريده هذه الدول.
◦ الاتجاه الثاني: الاستمرار في تعزيز علاقات دول إقليمية مع روسيا والصين، باعتبار أن هذه العلاقات باتت مهمة وتوفر بدائل لدول المنطقة في ظل مواقف الغرب في هذا الأزمة. حيث كانت الضغوط الغربية على بعض الدول العربية من أجل قبول تهجير أهل غزة إلى تلك الدول مزعجة إلى أقصى حد، وأظهرت عدم اهتمام الغرب بالاعتبارات الأمنية الداخلية لحلفائه، وأنه مستعد لحل مشكلة الاحتلال الديمغرافية دون اكتراث بمصالح باقي الدول. كما أن الموقف الغربي إزاء الوضع الإنساني في غزة جعل مسؤولين في دول عربية حليفة لواشنطن مقتنعين أن الغرب لا يكترث لحياة المدنيين فقط لأنهم عرب، بينما أظهرت كل من روسيا والصين جدية أكثر إزاء دعم دعوات وقف إطلاق النار وإدخال المساعدات الإنسانية والمواد الغذائية إلى غزة.
مقدمة
أجرى وفد من قيادة حركة حماس زيارة إلى موسكو، يوم 26 أكتوبر/تشرين أول، اجتمع خلالها مع “ميخائيل بوغنداف” مستشار الرئيس الروسي لشؤون الشرق الأوسط، وقوبلت الزيارة باستنكار حكومة الاحتلال الإسرائيلي التي اعتبرتها “مؤسفة”، بينما ردت موسكو بالتأكيد على أنها ستحافظ على قنوات التواصل مع جميع أطراف الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. قبل ذلك، وفي كلمته أمام “قمة كومنولث” البلدان المستقلة في قرغيزستان، لم يعرب بوتين عن أي تضامن مع إسرائيل، وتحدث عن “خسائر غير مقبولة” في صفوف الفلسطينيين، واستغرق الأمر ما يقرب من 10 أيام لاتصال بوتين مع نتنياهو للتعبير عن تعازيه في قتلى هجوم 7 أكتوبر.
- من جانبها، دعت وزارة الخارجية الصينية في أول بيان لها يوم 8 أكتوبر/تشرين الأول، “الأطراف المعنية إلى التزام الهدوء وضبط النفس وإنهاء الأعمال العدائية على الفور لحماية المدنيين”، وفيما بعد صرح وزير الخارجية الصيني “وانغ يي” بأن “تصرفات إسرائيل تجاوزت نطاق الدفاع عن النفس”، ودعاها إلى وقف “العقاب الجماعي” لسكان غزة.
- وبصورة عامة، امتنعت روسيا والصين عن الإشارة إلى هجوم حماس يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول باعتباره عملاً إرهابياً. وفي نفس يوم زيارة حماس لموسكو، استخدمت روسيا والصين حق النقض “الفيتو” ضد مشروع قرار أمريكي في مجلس الأمن الدولي، يدين هجوم حماس فقط، ويتجنب المطالبة بوقف شامل لإطلاق النار في غزة.
إطالة أمد الحرب في غزة دون اتساع نطاقها يخدم المصالح الروسية
- ترى موسكو في حرب “إسرائيل” على غزة فرصة لتوجيه جهود الدعم العسكري الغربي من أوكرانيا إلى جيش الاحتلال، حيث قد تؤدي الحرب في غزة نسبيا إلى صرف انتباه واشنطن وحلفائها الأوروبيين عن الجناح الشرقي لحلف شمال الأطلسي وتوجيه ترسانة الأسلحة الغربية إلى الاحتلال الإسرائيلي، مما قد يعيق جزئيا تدفق الأسلحة والذخائر إلى أوكرانيا، خاصة وأن الحرب في غزة تأتي بينما يواجه الغرب المستنزف بالفعل صعوبات في جمع المزيد من الذخيرة والأموال لدعم الهجوم المضاد الذي تشنه أوكرانيا على القوات الروسية.
- يشير طلب التمويل العاجل الذي قدمه الرئيس الأمريكي “جو بايدن” للكونجرس، وربط فيه المساعدات الإسرائيلية والأوكرانية في حزمة واحدة، إلى تخوفات الإدارة الأمريكية من أن تقديم الدعم والمساعدات إلى الاحتلال الإسرائيلي قد يؤثر على الدعم لأوكرانيا، خاصة في ظل تفاقم الانقسام الحزبي في الكونغرس. وتبلغ المخصصات التي طلبها بايدن نحو 106 مليار دولار، تتضمن مساعدات عسكرية قدرها 61 مليار دولار لأوكرانيا و14 مليار دولار للاحتلال الإسرائيلي.
- منذ الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير/شباط 2022، عمّقت موسكو تعاونها العسكري مع طهران. حيث استوردت روسيا الصواريخ الباليستية والطائرات بدون طيار الإيرانية مقابل مساعدة طهران في تحديث برامجها الصاروخية. وسيكون لهذا التعاون العسكري بين روسيا وإيران -خاصة في ظل استمرار الهجوم الأوكراني المضاد على القوات الروسية- انعكاساته على الحرب المشتعلة في الشرق الأوسط إذا ما اتسعت رقعتها، حيث ستكون إيران في وضع يسمح لها بالمطالبة بالمزيد من الدعم الروسي، مثل أنظمة الدفاع الجوي أو الطائرات المقاتلة.
- تسمح الحرب في غزة لروسيا بالاستفادة من الحرب في مواجهتها الأوسع مع واشنطن والغرب، من خلال تعزيز دورها كداعم لدول الجنوب العالمي، وإظهار فشل وانحياز الولايات المتحدة والنظام الدولي الذي تقوده في التعامل مع مظالم تلك الكتلة الكبيرة من دول العالم. وقد ألقى بوتين بالفعل باللوم على الفشل الأساسي للقيادة الأمريكية، مؤكداً أن واشنطن تجاهلت القضية الفلسطينية لفترة طويلة. بالإضافة لذلك، تظهر التغطية الإعلامية الروسية للحرب ميلاً واضحاً مؤيداً للفلسطينيين وكاشفا عن المعاناة الإنسانية مقارنة بانحياز تغطية وسائل الإعلام الغربية لصالح رواية الاحتلال.
- وبالرغم من العوامل السابقة، إلا أن الدبلوماسية الروسية ستظل تميل لتحقيق قدر من التوازن بين اللاعبين المتخاصمين في الشرق الأوسط، لأن هذا يزيد من مكاسب روسيا التي تريد أيضاً أن تحافظ على علاقتها الوثيقة مع إسرائيل، في ظل حاجة موسكو لبقاء إسرائيل على حيادها إزاء الحرب الأوكرانية، خاصة بعدم تقديمها أسلحة متطورة لكييف ورفض الانضمام للعقوبات الغربية.
- إجمالاً، فإن طول أمد الحرب في غزة دون اتساع نطاقها يخدم المصالح الروسية، إذ إن استمرار الحرب يمكن أن يؤدي إلى تخفيض المساعدات العسكرية الأمريكية لأوكرانيا، بينما تحول الصراع إلى حرب واسعة في الشرق الأوسط وفي ظل الدعم الأمريكي المطلق لإسرائيل ربما يدفع روسيا المنهكة عسكريا للميل نحو دعم إيران، الأمر الذي لا يخدم موسكو في حربها مع كييف.
الحرب في غزة تمنح الصين فرصة توسيع نفوذها السياسي في الشرق الأوسط
- تنظر الصين إلى الحرب في غزة من زاوية مواجهتها المتصاعدة مع أمريكا وحلفائها الغربيين وليس من زاوية أزمة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وهو الأمر الذي دفع بكين منذ بدء الحرب إلى اتباع لهجة محايدة، ثم زادت من حدة انتقاداتها لإسرائيل وبدت في موقف أكثر قرباً للفلسطينيين مقابل الدعم الأمريكي والأوروبي المطلق إلى الاحتلال الإسرائيل. وكما فعلت روسيا، حرصت الصين من خلال تصريحاتها ووسائل الإعلام الرسمية على الإشارة إلى الدور السلبي وغير المحايد للولايات المتحدة في الصراع المشتعل في الشرق الأوسط، وهو الأمر الذي يخدم السردية الصينية حول حاجة العالم إلى بناء نظام عالمي بديل عن النظام الذي تقوده واشنطن.
- تقدم الحرب في غزة فرصة للصين لتعزيز نفوذها السياسي في منطقة الشرق الأوسط التي تهيمن عليها الولايات المتحدة تقليديا. وقد سعت بكين في السنوات الأخيرة للموازنة بين نفوذها الاقتصادي والسياسي في المنطقة، ولا تستهدف الصين من ذلك التحول في سياستها الخارجية حماية مصالحها التجارية فحسب، ولكن أيضا تحقيق رؤية الرئيس الصيني شي جين بينغ للقيادة الصينية للجنوب العالمي الذي يضم غالبية الدول العربية، الأمر الذي يعزز جهود بكين في مواجهة واشنطن وحلفائها الغربيين وإعادة تشكيل النظام الدولي لصالحها.
- كثفت بكين نشاطها الدبلوماسي في الشرق الأوسط خلال الشهور الماضية ومن خلال وساطة غير مسبوقة للصين في المنطقة استطاعت عقد اتفاق إعادة العلاقات بين السعودية وإيران في مارس/آذار الماضي. كما لعبت بكين دورًا فعالاً في ضم أربع دول شرق أوسطية – مصر والسعودية وإيران والإمارات – إلى مجموعة البريكس في أغسطس/آب الماضي. وقام “شي” في يونيو/حزيران الماضي بعرض المساعدة في تعزيز محادثات السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وفي غضون أيام من اندلاع الحرب في غزة، أطلقت بكين حملة دبلوماسية حاولت من خلالها المساعدة في تنسيق وقف إطلاق النار. ويشير الموقف الصيني من الحرب في غزة إلى أن بكين باتت مستعدة لتقديم نفسها كصانعة للسلام والقيام بدور الوساطة المحايد، كما بدا أيضا أن استعدادها للدفع بقوة من أجل التوصل إلى حل للصراع يعكس ثقة في قدرتها على حل النزاعات الإقليمية.
- وبالرغم من الإحباط الإسرائيلي من رد الفعل الصيني على الحرب في غزة، وعدم مصلحة الاحتلال الإسرائيلي في تقويض الدور الأمريكي في الشرق الأوسط، فإن علاقات الصين الجيدة مع إيران، يجعل بكين في وضع جيد يؤهلها للعب دور في الحد من توسع الحرب إقليميا، نظرا لأن الصين واحدة من الجهات الفاعلة القليلة القادرة على الضغط على إيران، ما يعني أن بكين يمكنها أن تستخدم هذا النفوذ لمنع اندلاع حرب إقليمية واسعة.
خاتمة: الحرب في غزة يمكن أن تعزز علاقات دول المنطقة مع روسيا والصين
- ستكون القضية الفلسطينية مجددا ضمن أولويات الأجندة الإقليمية، خاصة بعض أن بات واضحا أنها مازالت قادرة على التأثير في حالة العديد من الدول العربية، بما يجعلهم حريصين مجددا على الاهتمام بالعمل على التوصل لحلول حقيقية ودائمة، وليس مجرد “حلول خلاقة” تعالج مشكلات جزئية، ثبت أنها لا تصمد مع الوقت. ولن يكون من السهل تجاهل القضية الفلسطينية في المدى المنظور، بغض النظر عن مآل الحرب الجارية ونتائجها العسكرية قصيرة الأجل.
- ولذلك؛ فإن هذا يفتح المجال لمزيد من الفرص لكل من روسيا والصين لممارسة دور متزايد في المنطقة، خاصة وأن من المرجح أن الأزمة الحالية ستحفز اتجاهين رئيسيين كانا قائمين بالفعل في السياسة الإقليمية، كلاهما يخدم مصالح روسيا والصين:
- الاتجاه الأول: زيادة اتجاه دول المنطقة للعمل المشترك في الإقليم وبشكل مستقل عن الأجندة الأمريكية التي تتجاهل مصالحهم ولا تخدم حتى الاستقرار الإقليمي كما تتصوره هذه الدول. ولا شك أن الولايات المتحدة مازالت القوة الدولية الأكثر تأثيرا في المنطقة، لكنّ قدرتها على تشكيل الأجندة الإقليمية باتت تتراجع بصورة بطيئة لكنها ملحوظة في السنوات الأخيرة. والأزمة الحالية ستعزز من هذا الاتجاه، وستدفع دول المنطقة لمزيد من العمل معا لتعزيز مصالحهم الإقليمية المحلية.
- الاتجاه الثاني: الاستمرار في تعزيز علاقات دول إقليمية مع روسيا والصين، باعتبار أن هذه العلاقات باتت مهمة وتوفر بدائل لدول المنطقة في ظل مواقف الغرب في هذه الأزمة والتي اعتبرتها حكومات عربية منحازة بشكل غير مسبوق. كانت الضغوط الغربية على بعض الدول العربية من أجل قبول تهجير أهل غزة إلى تلك الدول مزعجة إلى أقصى حد، وأظهرت عدم اهتمام الغرب بالاعتبارات الأمنية الداخلية لحلفائه، وأنه مستعد لحل مشكلة الاحتلال الديمغرافية دون اكتراث بمصالح باقي الدول. كما أن الموقف الغربي إزاء الوضع الإنساني في غزة جعل مسؤولين في دول عربية حليفة لواشنطن مقتنعين أن الغرب لا يكترث لحياة المدنيين فقط لأنهم عرب، بينما روسيا والصين أظهرتا جدية أكثر إزاء دعم دعوات وقف إطلاق النار وإدخال المساعدات الإنسانية والمواد الغذائية إلى غزة.