نقف اليوم على شفا حربٍ إقليمية، لكنها ليست المرة الأولى، إذ تفادت إيران وإسرائيل الضربات يميناً ويساراً حتى الآن، ونجحتا في الإفلات من الحرب الشاملة بصعوبة، لكن سوريا غيّرت شكل مسرح الأحداث بشكلٍ جوهري، فبعد بضع ساعات من خروج الأسد، تقدّمت القوات البرية الإسرائيلية إلى الجانب السوري من هضبة الجولان، لتوسِّع بذلك المنطقة المنزوعة السلاح وتسيطر على مرتفعات استراتيجية.
وتقف الدبابات الإسرائيلية الآن على بعد 30 كيلومتراً من دمشق، وربما أقل، وفي الوقت ذاته، قصفت المقاتلات الإسرائيلية ودمّرت مواقع الأسلحة الكيماوية وغيرها من الأسلحة المتقدمة في سوريا، وذلك كي لا تقع في أيدي المتشددين.
- شوهدت انفجارات في قاعدة المزة الجوية قرب دمشق
- وقع قصف جوي هائل بالقرب من طرطوس أسفر عن تسجيل زلزالٍ بقوة 3 درجات وكانت الأضرار مهولة
- جرى تدمير المروحيات والطائرات المقاتلة ومستودعات الصواريخ
- تعرضت مواقع أخرى لقصف قوات الاحتلال الجوية قرب حلب والقامشلي واللاذقية والقنيطرة وحماة وحمص وغيرها
- جرى استهداف أكثر من 480 هدفاً إجمالاً، في عملية جوية هي الأكبر في تاريخ الاحتلال الإسرائيلي
وأسفر هذا عن تدمير 80% على الأقل من القدرات العسكرية السورية، ومن المرجح القضاء على ما تبقى من تلك القدرات في الأسابيع المقبلة.
منصة أسباب وبالشراكة مع Caspian Report، تشرح لكم في هذا الفيديو كيف تخطط إسرائيل لهزيمة إيران على رقعة الشطرنج.
“الصورة الكبيرة“
تشاهد في هذه اللقطات عمليات تدمير المروحيات، والمقاتلات وأنظمة الدفاع الجوي السورية المرتبطة، لكنك تشاهد كذلك الحركة الافتتاحية في مباراة شطرنج، إذ تعمل “إسرائيل” على تحويل سوريا إلى منطقة عقيمة الدفاعات على حد وصفها.
وبتنفيذ هذه الخطة وتحييد التهديد السوري؛ سيفتح الاحتلال ممراً يمهد الطريق أمام ضربةٍ استباقية ضخمة ضد إيران، إذ إن تدمير جميع الدفاعات الجوية السورية تقريباً سيحرك الجبهة الأمامية الجوية مسافة 600 إلى 700 كيلومتر، لتصبح بذلك أقرب إلى حدود سوريا الشرقية.
وبات بوسع جيش الاحتلال الآن إرسال طائرات التزوُّد بالوقود لمئات الكيلومترات الإضافية شرقاً، ما سيُتيح لمقاتلاتها التحليق إلى إيران ذهاباً وعودة دون أن ينفد منها الوقود، لم يكن هذا ممكناً من قبل، وسيغير كل شيء الآن.
ولتوضيح السياق:
- كانت سوريا تمتلك مجموعة بطاريات دفاع جوي من أكثر المجموعات كثافةً في العالم، ونتحدث هنا عن أنظمة روسية متوسطة مثل بطاريات إس إيه 17، و22، و6، و8، و5.
- تستطيع مقاتلات إف-35 التسلل تحت أعين هذه الأنظمة، لكن طائرات التزود بالوقود لا تستطيع، وهنا تكمُن المشكلة
- تُعد طائرات التزود بالوقود كبيرة الحجم، وبطيئة الحركة، وتفتقر إلى تقنيات التخفي
- إن أقدم المدافع المضادة للطائرات تمثل تهديداً لها
- إن أنظمة الدفاع الجوي التي استخدمتها سوريا كانت تمثل تهديداً لمقاتلات إف-16 أيضاً.
إذ أسقطت سوريا مقاتلة إف-16 إسرائيلية فعلياً إبان تصاعد الصراع بين البلدين عام 2018، أي إن المجال الجوي السوري كان منطقة حظر طيران بالنسبة لطائرات التزود بالوقود الإسرائيلية، وقلّص هذا الخيارات العسكرية المتاحة لجيش الاحتلال، ولم يكن من الممكن أبداً شن هجوم جوي من الأراضي المحتلة على إيران والعودة، إذ لا يسمح نطاق العملية ومسافتها بارتكاب أي أخطاء.
كما يٌقيد هذا الأمر عمل مقاتلات إف-35 الإسرائيلية اليوم أيضاً، إذ يصل مدى هذه المقاتلات إلى نحو 2,100 كيلومتر، ولو افترضنا أن “إسرائيل” أرسلت مقاتلات إف-35 من قاعدة رامات ديفيد، فإن مسافة رحلة الذهاب إلى طهران والعودة تبلغ 3,000 كيلومتر على الأقل، وهذا أبعد بكثير من مدى مقاتلاتها.
كما لا يشمل هذا الوقود اللازم للمناورات الجوية بالطائرة أو الحمولة على متنها، وليست خزانات الوقود الخارجية من الخيارات المتاحة أيضاً، لأنها ستغير الشكل الهندسي للطائرة وتقلل قدرتها على التخفي، وسيكون من الصعب اجتياز الدفاعات الجوية الإيرانية دون تخفٍ، لأنها تُعد من أكثر أنظمة الدفاع تطوراً في المنطقة.
أي إن شن ضربة استباقية واسعة ضد إيران، مع ضمان العودة بكامل الطائرات، يحتاج لمهمةٍ سرية، وهذا يعني عدم تثبيت خزانات وقود أو صواريخ خارجية، لكن تجدر الإشارة إلى أنه حتى في حال استخدام خزانات وقود خارجية، لن يتجاوز مدى عمليات إف-35 الـ2,700 كيلومتر، وهذا رقم أقل من المطلوب بكثير.
أي إن الهيمنة الجوية الإسرائيلية على سماء إيران لم تكن ممكنة فعلياً دون تدخل أمريكي، لكن كل هذا قد تغيّر الآن مع تحييد الدفاعات الجوية السورية، وتقول القوات الجوية الإسرائيلية إنها دمّرت 80% من أنظمة إس إيه 22 السورية قصيرة ومتوسطة المدى و90% من أنظمة إس إيه 7 متوسطة المدى.
ويجب التأكيد على أن هذه الأنظمة لم تكن تهدد مقاتلات إف-35 الإسرائيلية مطلقاً، لكنها كانت تهدد طائرات التزود بالوقود، ولم يتبق الآن سوى القليل من أنظمة الدفاع الجوي في سوريا، أي إن الاحتلال فتح ممراً جوياً يمنح سائر قواتها الجوية حرية الحركة، بما في ذلك طائرات التزود بالوقود، وتقدّمت الجبهة الجوية مسافة 600 إلى 700 كيلومتر قرب الحدود الشرقية لسوريا، وتستطيع طائرات التزود بالوقود الإسرائيلية الانتظار هناك الآن لإمداد المقاتلات بالوقود اللازم لقطع المسافة.
أي إن المقاتلات الإسرائيلية تستطيع من الناحية الفنية أن تقلع من قاعدة رامات ديفيد، وتحلق بطول الممر الجوي السوري، وتعبر إلى العراق، قبل أن تصل إلى إيران لقصف وتدمير المنشآت العسكرية والنووية، وبمجرد انتهاء العملية، ستعود المقاتلات إلى المجال الجوي السوري للتزوُّد بالوقود قبل العودة إلى أرض الوطن.
ولو شعر الإسرائيليون بالثقة الكافية، فربما ينفذون ضربةً قاصمة تستهدف المرشد الأعلى الإيراني وقيادة الحرس الثوري، وهذا يعني باختصارٍ أن إخراج الدفاعات الجوية السورية من الخدمة يمنح الاحتلال فرصة شن ضربة استباقية واسعة، وذلك ضد البنية التحتية النووية والعسكرية في إيران.
هذه فرصةٌ لا تُفوَّت، ومن المرجح أن يضع نتنياهو الخيارات العسكرية الجديدة على الطاولة أمام إدارة ترامب المقبلة، ويسعى لإقناع ترامب بالانضمام إليه في الهجوم على إيران، وحتى لو رفض ترامب الفكرة؛ سيكون لدى الاحتلال ما يحتاجه لتنفيذ الهجوم بمفرده قبل تنصيبه، ثم جر الولايات المتحدة للحرب.

“إنهم يراقبون”
مع انعدام الخيارات أمامها؛ ستسارع إيران الآن لتدعيم وكيلها حزب الله من أجل إعادة تأسيس الردع، إذ عاشت “إسرائيل” وإيران حالة جمود منعت اندلاع الحرب الشاملة لسنوات، إذ كانت إيران تمتلك شبكة وكلاء استخدمتهم كوسيلة ضغط ضد “إسرائيل” وكان حزب الله في لبنان أقوى وكلائها، أي إنه في حال شنّ الاحتلال هجوماً واسعاً على إيران؛ ستُعطي القيادة الإيرانية الضوء الأخضر لحزب الله حتى يقصف “إسرائيل”.
وأشارت تقديرات عام 2018 إلى امتلاك حزب الله نحو 130 ألف صاروخ وقذيفة في ترسانته، لكن مسؤولاً في فيلق القدس الإيراني، المُشرف على عمليات الحزب، صرح في يونيو/حزيران 2024 بأن حزب الله لديه أكثر من مليون صاروخ وقذيفة.
وبغض النظر عن صحة الرقم من عدمها؛ فإن أقل التقديرات هنا تمثل قوة نيرانية مهولة، لكن الضربات التي وجهتها “إسرائيل” لقيادات حزب الله مؤخراً قلّصت قدرات الجماعة بشكلٍ كبير، ولا تزال غالبية تلك الصواريخ والقذائف داخل لبنان، لكن هيكل قيادة حزب الله تضرر بدرجة قد يتعذر إصلاحها.
بينما تكمُن الفكرة في أن غياب تهديد حزب الله يترك إيران دون أداة ردع، لهذا سيبذل الإيرانيون قصارى جهدهم لدعم حزب الله بأسرع ما يمكن، لكن هناك مشكلة في هذا الصدد، فقد استغلت “إسرائيل” الفوضى في سوريا لإنشاء منطقةٍ عازلة قرب هضبة الجولان، جنوب غرب دمشق.
وإبان تقدُّم المعارضة السورية صوب العاصمة؛ دفع جيش الاحتلال بقواته سريعاً لاحتلال المواقع التي تركتها القوات السورية في الجولان، ثم استولى عليها دون قتال، وتقول قيادة الاحتلال إن هدفها هو منع القوات المعادية من التعدي على “إسرائيل”.
بينما وصف نتنياهو العملية بأنها مؤقتة، لكن الأراضي التي احتلها جيش الاحتلال تُعادل ضعفي مساحة غزة، كما تتمتع بأهمية استراتيجية كبيرة ومن المستبعد أن تتخلى عنها “إسرائيل”، إن أخطر ما يتعلق بعملية الجولان، التي تمثل حركة شطرنج أخرى، هو احتلال الإسرائيليين للجانب السوري من جبل الشيخ في صمت، والذي يصل ارتفاعه إلى 2,814 متراً، عادةً ما تشكل المرتفعات نقطة عمياء للدفاعات الجوية، وخاصة أجهزة الرادار.
وفي حالتنا هذه:
- حجب جبل الشيخ الرؤية عن الدفاعات الجوية الإسرائيلية طيلة عقود، وجعل من الصعب رصد ما وراء الجبل أو ما يحدث في أجزاءٍ من لبنان
- تستطيع الطائرات والمُسيّرات التي تحلق على ارتفاعٍ منخفض أن تستغل هذه النقطة العمياء، ما يُتيح لها التسلل إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة مراراً وتكراراً
- من المرجح أن هذه كانت طريقة تسلُّل مسيرات إيران وحزب الله إلى عمق “إسرائيل”، وصولاً إلى حيفا
- كانت هذه النقطة العمياء جزءاً من الجسر البري الإيراني إلى لبنان. إذ استغلت إيران غطاء جبل الشيخ لدعم حزب الله بالموارد، وذلك دون أن ترصدها “إسرائيل”
بينما اختلف الوضع الآن، إذ سيسعى الإسرائيليون بعد سيطرتهم على جبل الشيخ إلى تركيب أجهزة رادار على قممه، ما سيسمح لهم بمراقبة عمق الأراضي السورية واللبنانية. وبعد تثبيت هذه المنشآت، ستُنشئ “إسرائيل” منظومة إنذار مبكر للمقاتلات والمسيّرات التي تُحلق على ارتفاعٍ منخفض.
وفي الوقت ذاته، ستتمكن أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية من استغلال جبل الشيخ لمراقبة تحركات إيران وحزب الله، ولا تنتهي قائمة التطبيقات الاستراتيجية لجبل الشيخ هنا. لكن بيت القصيد هو أن سيطرة جيش الاحتلال على جبل الشيخ تعني مواجهة إيران لصعوبة في دعم حزب الله.
إذ إن أي تحرك عدواني في جنوب لبنان وسوريا سيرصده الإسرائيليون، ليصبح تحت رحمة طائراتهم ومسيراتهم وصواريخهم، هذا ما قاله زعيم حزب الله الجديد يوم السبت، حين صرح بأن الحزب خسر طريق إمداده عبر سوريا، وحتى لو استطاعت إيران الوصول إلى حزب الله عبر طريق بديل؛ فلن يجدي ذلك نفعاً.
إذ تضرر حزب الله بشدة كما ذكرنا سابقاً، وأدت الاستهدافات المتتالية لقياداته على مر أسابيع إلى تدمير هيكل قيادة حزب الله. ومع خسارة الحزب لقائدٍ تلو الآخر، ومسؤولٍ تلو الآخر؛ تمت ترقية أعضاء جدد لتولي الرُتب الشاغرة. يُذكر أن الموساد الإسرائيلي كان يمتلك بالفعل عملاء داخل رتب حزب الله الدنيا، وأدى استهداف القيادات إلى صعود عملاء الرتب الدنيا لتولي مناصب أعلى، هكذا تجري العمليات الاستخباراتية.
ومع استمرار تلك الضربات المتتالية لأسابيع، يمكننا القول إن “إسرائيل” قد اخترقت حزب الله تماماً. وحتى لو أعادت إيران قنوات اتصالها بحزب الله؛ ستظل الجماعة مليئةً بالاختراقات الداخلية التي تمنع الاحتفاظ بأي قدراتٍ عملياتية. وإذا عجزت إيران عن العثور على عملاء “إسرائيل” داخل حزب الله وإزاحتهم، فلن يمضي وقتٌ طويل قبل أن تخسر الجماعة قدراتها، حتى مع امتلاكها لكل هذه الصواريخ والقذائف.
وفي غياب حزب الله كرادعٍ موثوق، ومع سيطرة الإسرائيليين على جبل الشيخ، ودخول الممر الجوي السوري مسرح الأحداث، فهذا يعني أن الحرب تلوح في الأفق.وهناك تقاريرٌ الآن تشير إلى أن فريق ترامب يدرس شن ضربات جوية استباقية ضد إيران، لكن نتنياهو هو الذي جعل الأمر ممكناً في المقام الأول، وهو الذي سلّم ترامب هذا الخيار على طبقٍ من ذهب، وقد لا يمضي وقتٌ طويل قبل أن نشاهد 100 ألف طن من الدبلوماسية في طريقها إلى إيران.