تُعد مدينة الأحلام، لندن، واحدةً من أغنى المناطق الحضرية في العالم إذ يبلغ حجم اقتصادها نحو 508 مليارات جنيه استرليني، أي ما يعادل 652 مليار دولار، ولو كانت لندن دولةً مستقلة؛ لاحتلت المرتبة الـ22 على قائمة أكبر اقتصادات العالم، أي قبل الأرجنتين والسويد تحديداً. لكن رخاء لندن وجنوب شرق إنكلترا يُعد استثناءً بالنسبة لبقية أنحاء البلاد.
احيث تشكل هذه المنطقة الصغيرة نحو نصف الناتج المحلي الإجمالي للمملكة المتحدة، ويقطنها نحو ثلث سكانها، وإذا اقتطعنا إنتاج لندن من المعادلة؛ ستنخفض مستويات المعيشة البريطانية بنسبة 14%، لقد عاشت المملكة المتحدة أياماً أفضل، وكانت السنوات العشر الماضية قاسيةً للغاية، إذ لم يطرأ أي تغير تقريباً على الدخل الحقيقي المتاح للإنفاق، وهو الدخل المتبقي بعد خصم الضرائب والمخصصات.
بينما ارتفعت تكلفة السلع والخدمات وأصبح الناس يشترون سلعاً أقل بدخلهم مقارنةً بالوضع قبل عقدٍ مضى، يرجع أصل هذه المشكلات إلى القرارات السياسية السابقة، إذ تعثّرت بريطانيا وعانت سلسلةً من الانتكاسات، لكن الأزمة تفشّت الآن ولا يبدو لها حل سريع في الأفق، كانت المملكة المتحدة أول دولة تعيش التحول الصناعي، وهي اليوم على مشارف أن تصبح أول دولة تستغني عن الصناعة.
منصة أسباب وبالشراكة مع Caspian Report، تشرح لكم في هذا الفيديو كيف تتحول المملكة المتحدة إلى اقتصاد عالمٍ ثالث.
“العقد الضائع“
كانت بريطانيا واحدةً من أكثر دول العالم ازدهاراً حتى وقتٍ ليس ببعيد، كما كانت وجهةً رئيسة للمهنيين المحترفين الساعين إلى التقدم في حياتهم المهنية، لكن الوضع لم يعد كذلك اليوم، إذ تعاني الدولة من ضغوطات اقتصادية واجتماعية مهولة وأكبر مما يتصوره الناس.
تعرضت لثلاث صدمات جيوسياسية متتالية تركتها بدين مهول على عاتقها:
- الخروج من الاتحاد الأوروبي
- كوفيد
- الحرب الأوكرانية
لكن المحرك الأساسي هنا يرجع تاريخه إلى عام 2008، حين أفرزت الأزمة المالية تأثيراتها طويلة الأجل،وقد تضررت بريطانيا بشدة كبقية الدول، لكن طريقة تعاملها مع التداعيات هي التي اختلفت عن بقية العالم المتقدم.
- اقترضت الحكومة نحو 141 مليار جنيه استرليني لإنقاذ المصارف البريطانية
- لجأت إلى فرض تدابير التقشف بدلاً من الاستثمار في السياسات النقدية والاجتماعية
- لم تخفض الضرائب كثيراً أو ترفع الحد الأدنى للأجور
- لم تحاول التحكم في التضخم أو تقدم إعانات إسكان أو برامج لخلق فرص عمل
كانت التداعيات مدمرةً بالنسبة للمواطنين العاديين، إذ انخفض الدخل الحقيقي للأسر، ثم استقر على مدار الـ15 عاماً التالية، هذا هو ما يُعرف بـ“العقد الضائع” في عالم الاقتصاد، ولتوضيح السياق، كانت الأسرة البريطانية المتوسطة عام 2007 أقل رخاءً بنسبة 8% من أسر النرويج وبنسبة 6% فقط من الأسر الأمريكية، لكن الفجوة اتسعت بشكلٍ كبير في السنوات التالية.
واليوم، يتخلَّف الدخل الحقيقي للأسر البريطانية عن نظيرتها النرويجية بمقدار 20%، وعن نظيرتها الأمريكية بمقدار 16%، وتستشعر الطبقة المتوسطة هذا الانخفاض في مستويات المعيشة بكل وضوح. كما يُعد الدخل الحقيقي للأسرة من المحركات الأساسية للنشاط الاقتصادي، إذ يشجع على الإنفاق الاستهلاكي ويُحسِّن مستويات المعيشة.
ويساهم كلا الأمرين في نمو الاقتصاد، لكن الحكومة البريطانية أعطت الأولوية لمصالح الشركات قبل كل شيء، ومع ذلك، لم يحقق عالم الشركات سوى مكاسب قصيرة الأجل في الأغلب، إذ لم يتطرق أحد إلى معدلات الإنتاجية التي لم تشهد أي استثمارات كبيرة.
تُعد زيادة الإنتاجية واحدةً من أكثر الطرق فعالية لتنمية الاقتصاد، لكن بعكس الاعتقاد الشائع، فإن تحسين الإنتاجية لا يعني العمل بجدٍ أكبر، بل تكمن الفكرة في تعزيز الناتج الاقتصادي دون زيادة كم العمل، إذ تزيد الإنتاجية عندما يتحول اقتصادٌ زراعي إلى تصنيع الرقائق الدقيقة مثلاً، وذلك لأن صناعة التقنية تحقق ربحيةً وعائدات أكبر.
أي إن القوى العاملة تحقق ربحاً أكبر من تلك الصناعة بعدد العمال نفسه، ولهذا تُحوِّل اليابان أراضيها الزراعية إلى مصانع، إذ يزيد هذا من إنتاجيتها ويحسن اقتصادها بنهاية المطاف، بينما تراجعت إنتاجية الفرد في المملكة المتحدة بعد أزمة عام 2008 بسبب قلة الاستثمار.
فقبل الأزمة، كانت الإنتاجية تنمو بمعدل 2% سنوياً تقريباً، لكن الإنتاجية ضعفت بشدة بعد الأزمة، لتكسر الاتجاه الذي كان قائماً منذ الثمانينيات، وتسجل القوة العاملة البريطانية اليوم ثاني أدنى معدلات الإنتاجية بين اقتصادات مجموعة السبع.
بينما كانت تسجل ثاني أعلى معدلات الإنتاجية خلف الولايات المتحدة قبل الأزمة، ويُمكن القول إن التأثيرات المتزامنة لتباطؤ الدخل الحقيقي للأسر وانخفاض الإنتاجية تُفسِّر الكثير بشأن أداء الاقتصاد البريطاني، أي إن بريطانيا تكافح من أجل النجاة.
“أقساط الديون“
حلَّ العقد الضائع في بريطانيا بصورةٍ شديدة العرضية ودون اكتراث، لدرجة أن الأحزاب السياسية لم تعترف به أو تتطرق إليه، ولم يكن هناك خطاب سياسي حول هذا الموضوع الذي يؤثر على ملايين الأسر، لكنها كانت أزمةً على كل حال.
لذا جاء الخطاب في صورة الخروج من الاتحاد الأوروبي (بريكست)، لكن الشكوك بشأن بريكست حوّلت الوضع من سيئ إلى أسوأ، وكان لذلك تأثير حاد على الاستثمار الأجنبي المباشر، إذ أفاد بنك إنكلترا بأن بريكست خفض الاستثمارات بمقدار 25% بين عامي 2016 و2021.
فضلاً عن ذلك، جاء ظهور كوفيد بعد بريكست ليفاقم الأزمة الاقتصادية التي كانت تختمر تحت السطح، وتدخّلت الحكومة لتقترض 280 مليار جنيه استرليني أخرى من أجل الاستجابة لفيروس كورونا، وكان هذا الاقتراض ضرورياً لمساعدة الأمة في التغلُّب على الجائحة.
لكن المعضلة تكمن في أن غالبية قروض كوفيد تمت حين كانت أسعار الفائدة عند أدنى مستوياتها التاريخية، أي ما يعادل نحو 0.1%، وكان من المتوقع أن يكون سداد الأقساط في المتناول نسبياً آنذاك.
وربما كان هذا سيتحقق لولا المسمار الأخير الذي دُقَّ في النعش باندلاع الحرب الأوكرانية، فبمجرد أن شن الروس هجومهم الشامل؛ تعطّل الوصول إلى النفط والغاز الروسيين بفعل العقوبات والقيود التجارية، وفي الوقت ذاته، بدأت بوادر أزمة الطاقة، وقفزت تكاليف المعيشة في أرجاء أوروبا، وقد أثرت الأزمة على منازل البلاد، بعدما صارت الأسر البريطانية مضطرةً لدفع ثلاثة أضعاف السعر السابق من أجل تدفئة منازلها خلال الشتاء فقط.
وشعر غالبية العامة بالقلق، لهذا تدخلت حكومة بريطانيا مرةً أخرى، وكانت من أكثر دول أوروبا سخاءً في دعمها المالي، حيث استدانت ما يتراوح بين 60 و100 مليار جنيه استرليني لتغطية النفقات الزائدة، وكان الضرر على الأسر متوسطاً، لكن خطة الإنقاذ جعلت المملكة المتحدة تسجل أكبر زيادةٍ في حجم ديونها مقارنةً بناتجها المحلي، تضافرت أزمتا الجائحة والطاقة لتدفعا بمعدلات التضخم إلى أعلى مستوياتها، فاستجابت المصارف المركزية برفع معدلات الفائدة.
- بالنسبة للمواطنين العاديين، يعني هذا أن أقساط القروض العقارية زادت بمئات الجنيهات بين ليلةٍ وضحاها.
- أما بالنسبة للحكومة، أدت أسعار الفائدة المرتفعة إلى زيادة الدين الوطني بمليارات الجنيهات الإضافية.
وربما ساد الاعتقاد سابقاً بأن أقساط الديون في المتناول نسبياً، لكن سدادها أصبح باهظ التكلفة بدرجةٍ متزايدة بعد أزمة الطاقة، إذ قفزت أقساط الديون السنوية من 40 مليار جنيه استرليني إلى نحو 100 مليار جنيه استرليني. وهذه زيادة ضخمة في النفقات بمقدار 60 مليار جنيه استرليني، أي ما يعادل إجمالي ميزانية الدفاع البريطانية، ونستطيع القول إن الدعم البريطاني لأوكرانيا يستحق الإعجاب، لكنه دمَّر اقتصاد بريطانيا أيضاً.
أصبحت أقساط الديون اليوم ثاني أكبر أوجه الإنفاق في البلاد، وقد أدت زيادة الديون إلى تراجع السيولة المتوفرة بمقدار عشرات المليارات من الجنيهات، ما أسفر عن تقليل الإنفاق على البنود الأخرى، وتأثرت بذلك جميع الخدمات العامة في البلاد تقريباً، ما أدى إلى تراجع الجودة المقدمة بالتبعية.
“نقص القوة العاملة“
لا يتعلَّق الاقتصاد في جوهره بالأسواق والمال فقط، بل يعتمد على فهم اختيارات الناس وكيف تؤثر فيها التركيبة السكانية، ويُمكن القول إن الاقتصاد هو علم دراسة الناس، وليس الأرقام فقط، فبعد تراجع إغلاقات الجائحة وعودة الحياة إلى طبيعتها، سجّلت جميع الاقتصادات المتقدمة انتعاشةً في قوتها العاملة، إذ عثر الناس على وظائف جديدة ومضوا قدماً في حياتهم.
وتختلف بريطانيا عن البقية هنا لأن قوتها العاملة لم تنجح في التعافي، بل ظلت منخفضة ببساطة، ومن المؤكد أن القوة العاملة الأصغر لها الكثير من التداعيات اللاحقة، إذ تعني انخفاض العائدات الضريبية اللازمة لتغطية خدمات مثل الرعاية الصحية، مع زيادة النفقات على الرعاية الاجتماعية.
كما تعني تقليل الأموال التي يستطيع الجمهور إنفاقها، ما يضر بالشركات ويؤثر على عدد الوظائف المتاحة في الاقتصاد، أي إن التداعيات تدور في حلقةٍ مفرغة، لكن مشكلة القوة العاملة البريطانية تُعد أكبر بكثير من فقدانها لـ1% من قوامها.
فعلى المستوى الرسمي، تُعد البطالة في بريطانيا منخفضةً بحسب المعدلات التاريخية، حيث تستقر عند نسبة 4.4%، أي ما يعادل 1.5 مليون شخص، لكن الواقع يختلف عن الرواية الرسمية، إذ تفتقر القوة العاملة البريطانية إلى جهود 11 مليون شخص، لكن الحكومة لا تعتبرهم عاطلين عن العمل، بل تصفهم بأنهم “غير نشطين اقتصادياً”.
ويرجع السبب إلى وجود نحو 9.4 مليون شخص لا يبحث عن وظيفة، وليس متاحاً لبدء العمل فعلياً، ويشرح مكتب الإحصاء الوطني دوافع هؤلاء.
- هناك نحو 2.1 مليون طالب تتراوح أعمارهم بين 16 و24 عاماً، ولهذا فهم غير نشطين اقتصادياً.
- هناك نحو 3.5 مليون شخص تتجاوز أعمارهم الـ50 عاماً، وقد خرجوا من القوة العاملة بسبب المرض أو التقاعد المبكر.
- هناك ما لا يقل عن مليون شخص تتراوح أعمارهم بين 25 و49 عاماً، لكنهم لا يعملون بسبب مسؤوليات رعاية الآخرين
وليس افتقار القوة العاملة إلى جهود 11 مليون شخص بالأمر الهيِّن، لكن الشركات مضطرةٌ لمواصلة العمل رغم ذلك، ما يفرض ضغطاً مهولاً على الحكومة، ومن هنا تظهر إحدى سبل تعويض الفارق عن طريق فتح الحدود، وهذا هو ما فعله المسؤولون البريطانيون تحديداً، إذ زادت أعداد المهاجرين إلى المملكة المتحدة من أجل العمل وتصدرت القائمة دول جنوب آسيا ودول إفريقيا جنوب الصحراء.
ساهمت العمالة المهاجرة في سد فجوات انخفاض القوة العاملة، لكن التدفق السريع وواسع النطاق للمهاجرين أثار التوترات الاجتماعية داخل البلاد أيضاً، حيث شعر الناس بالتهديد بسبب التغييرات العرقية السكانية واستغل بعض المسؤولين تلك المشاعر لتحقيق أهدافهم السياسية.
وفي أغسطس/آب 2024، عصفت ببريطانيا احتجاجات وأعمال شغب مناهضة للهجرة في أكثر من 20 مدينة، وربما انكسرت ذروة أعمال الشغب، لكن علاج المشكلة من جذورها قد يستغرق وقتاً أطول.
وختاماً، سنجد أن وقائع الاقتصاد البريطاني، الذي يتسم بالتراجع المتواصل، تُظهر لنا كيف يمكن للأزمة أن تقود إلى أزمة ثانية وثالثة، ثم تؤدي في النهاية إلى سلسلة أحداث لا نجاة منها في القريب العاجل، هذا هو الطريق الذي وقع الاختيار عليه، وصار لزاماً على الناس المضي فيه.
أما على الجانب المشرق، تعيش كل أمة فترات صعود وهبوط، وليست المملكة المتحدة استثناء، فلا تزال لندن واحدةً من أكثر مدن الكوكب ثراءً وابتكاراً، لذا ستتحسن الأوضاع بنهاية المطاف، لكن وحتى ذلك الحين، ستظل بريطانيا أشبه باقتصاد من العالم الثالث محمولاً على أكتاف لندن.