تُمثل سول قوةً اقتصادية في حد ذاتها، إذ تُعد مع المناطق المحيطة بها واحدةً من أكبر المدن الاقتصادية في العالم، وهي أكبر حتى من شانغهاي وبكين وسيدني وموسكو، لكن كوريا الجنوبية تعاني مشكلة، إذ تنخفض معدلات المواليد هناك بوتيرةٍ هي الأسرع في كوكبنا والوضع شديد السوء لدرجة أن كوريا الجنوبية باتت تكسر أرقامها القياسية في الانخفاض عاماً تلو الآخر، ففي 2023، بلغ عدد المواليد الجدد 230 ألف طفل، بانخفاض قدره 7.7% عن العام السابق.
ويُعد هذا المستوى بمثابة حجر الزاوية لأي مجتمع فاعل، إذ ينمو السكان إذا كان الرقم أكبر من ذلك، ويموتون مع ثقافتهم إذا كان أقل، وكلما انخفض الرقم اقترب الموت بسرعةٍ أكبر، أي إنه وبرغم النجاح الاقتصادي المبهر، تتجه كوريا الجنوبية إلى الانقراض في الواقع ويتجه الشعب البالغ تعداده 51 مليوناً إلى الانخفاض بمقدار النصف مع نهاية القرن.
وقد كانت الحكومة بطيئة في استيعاب عُمق وتعقيد المشكلة، لكنها أفاقت من غفوتها، وهناك خطة جارية لإعادة الأسرة النواة (الأوَّلية)، لكنها تريد فعل ذلك داخل بيئة مختلفة عن سول. لهذا يجري بناء مدينة جديدة كلياً تُدعى سيجونغ على بعد 120 كم نحو الجنوب، وستحل محل سول كعاصمةٍ لكوريا الجنوبية في غضون بضع سنوات.
منصة أسباب وبالشراكة مع Caspian Report، تشرح لكم في هذا الفيديو كيف ستتطور وتنمو مدينة سيجونغ الجديدة، وهل ستصبح نموذجاً تحتذي به المجتمعات الغربية؟
شعبٌ من المُسنِّين
منذ عام 1998، حين أصبح الإنترنت على طريق الرواج وبدأت أحجام الهواتف المحمولة تتضاءل، وأطلقت مايكروسوفت نظام تشغيلها الجديد، وكانت جوجل تقدم نفسها للسوق، ركبت كوريا الجنوبية موجة نجاحٍ ضخمة.
- كسر ناتجها المحلي الإجمالي فخ الدخل المتوسط ولم يعُد هناك ما يوقفه.
- على مدار السنوات القليلة التالية تطوّر اقتصاد كوريا الجنوبية بسرعة كبيرة ليصبح من بين الأكبر في العالم.
- تجاوز حجمه التريليون دولار في عام 2006 قبل أن يصل إلى حجمه الحالي البالغ 1.6 تريليون دولار.
وشهد سكان كوريا الجنوبية طفرةً خاصةً بهم بالتزامن مع الطفرة الاقتصادية، حيث تضاعف عددهم من نحو 20 مليون مواطن في 1950 إلى 40 مليوناً بحلول 1983 ثم ارتفع إلى 51 مليون نسمة بحلول 2016.
لكن معدلات الخصوبة الكورية الجنوبية انخفضت بوتيرةٍ ثابتة أثناء نمو اقتصادها وسكانها، وبالتزامن مع الوقت الذي تحسنت فيه ظروف المعيشة، لم يكن هذا التحوُّل الثوري اقتصادياً أو سكانياً فقط بالنسبة لكوريا الجنوبية، بل كان ثقافياً أيضاً، حيث اختار جزء كبير من المجتمع الكوري الحياة دون أطفال.
صحيحٌ أن تراجع معدلات المواليد هو أمر ملحوظ في كافة البلدان المتقدمة، لكن معدل التراجع مستفحلٌ في كوريا أكثر من غيرها، وقد لا يبدو معدل المواليد الحالي البالغ 0.72 شديد السوء، لكنني سأشرح لكم كيف يسير الأمر على مدار عدة أجيال في حال عدم مواجهته.
تخيل أن لدينا شعباً يبلغ تعداده 100 شخص، ولنقل إنهم 50 زوجاً وزوجة سينجبون 40 طفلاً فقط ليحلوا محلهم، بناء على معدل مواليد كوريا الجنوبية، ثم سينجب الأبناء نحو 16 طفلاً من ذريتهم، وستنجب ذريتهم 6 أطفال فقط لاحقاً. أي إن شعباً من 100 نسمة سينخفض إلى 6 أفراد فقط خلال أربعة أجيال فحسب، وهذا انخفاض بنسبة 94% خلال أربعة أجيال، لذلك تبدو آفاق كوريا الجنوبية قاتمة.
وإذا ظلت معدلات المواليد عند مستواها المنخفض القياسي:
- سيتراجع عدد سكان البلاد إلى 24 مليون نسمة
- هذا نفس عدد السكان في 1958
- تركيبة المجتمع ستكون مختلفة بالكامل هذه المرة
- كان متوسط العمر في 1958 يبلغ 18 عاماً
- وصل متوسط العمر إلى 45 عاماً اليوم
- بحلول عام 2100، سيبلغ متوسط العمر 59 عاماً
أي إن كوريا الجنوبية ستتحول إلى شعبٍ من المسنين وستكون التداعيات وخيمة.
الهرم السكاني المقلوب
يحتاج المجتمع الفاعل إلى عددٍ كاف من المواطنين في سن العمل، ويساهم الأشخاص من عمر 25 إلى 64 عاماً بالشطر الأعظم في الاقتصاد. بينما يُعد الأشخاص الأكبر مصدراً لغالبية تكاليف الرعاية الصحية، أخذ الهرم السكاني شكل الهرم طوال معظم تاريخه.
حيث كان الشباب يعتنون بكبار السن، وكان بمقدورهم فعل ذلك لأنهم ينتمون إلى شريحةٍ سكانية أكبر عدداً من المسنين، لكن الرعاية الصحية تحسّنت وأصبحت أعمار الناس أطول، فبدأ الهرم السكاني يأخذ شكل عُقاب البحر، وسيتحول ذلك العُقاب إلى هرمٍ مقلوب بالتدريج في العقود المقبلة.
لكن المجتمع ذو الهرم السكاني المقلوب سيفرض أعباءً مالية غير مستدامة على قوته العاملة، وسيعاني سكان أكثر الدول ثراءً، حيث سيضطرون للعمل ساعات أطول لمواكبة ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية، قد تساعد التكنولوجيا في تخفيف الضغوط، لكنها تعجز عن إصلاح أزمة متفشية مثل انخفاض معدلات المواليد، خاصةً في الحالات الحرجة كحالة كوريا الجنوبية.
وسيؤثر انخفاض معدل المواليد القياسي على كوريا من مختلف الزوايا الممكنة، حيث سيتعرض لضغوط شديدة كل من
- الاقتصاد
- نظام التقاعد
- الأمن الكوري الجنوبي
مدينة من وحي الخيال
يظهر انهيار معدلات المواليد داخل كافة الدول المتقدمة ولم تنجح أي منها في تحسين أوضاعها حتى الآن، ففي كوريا الجنوبية، ضخّت الحكومات المتعاقبة الأموال لحل المشكلة واستثمرت على مدار الـ20 عاماً الماضية أكثر من 286 مليار دولار على البرامج المجتمعية الرامية لتشجيع الأسرة النواة.
والأسرة النواة هي الأسرة التقليدية في معظم الثقافات، لكن البرامج المجتمعية الكورية الجنوبية لم تحقق المرجو مع الأسف، وعاماً تلو الآخر، واصلت كوريا كسر رقمها القياسي في انخفاض معدلات الخصوبة، إذ يتمثل جزءٌ من المشكلة في طريقة نمو كوريا الجنوبية في الثمانينيات، وخاصةً عاصمتها سول.
- يعيش نحو نصف سكان كوريا الجنوبية على مساحة 12% فقط من أراضيها
- يتركزون بشكلٍ أساسي حول العاصمة ومحيطها
- سول هي المكان الذي توجد فيه أغلب الفرص
ومع الأسف، سنجد أن تكديس ملايين الناس داخل بيئة حضرية مغلقة يضغط على البنية التحتية والموارد، لهذا أصبحت الحياة في سول تشبه سباق الفئران لسكانها، وذلك خلف أضواء التقنية العالية ودعاية البوب الكوري.
وأدت حركة المرور المروعة وسوء جودة الهواء إلى استنزاف الخدمات العامة بشدة، وصار الإسكان خارج المتناول بصورةٍ متزايدة، ولا عجب أن معدل المواليد في سول هو الأقل في البلاد.
حيث وصل إلى 0.55 طفل لكل امرأة، أي أقل بنحو 30% من إحصاءات بقية كوريا المنخفضة بدرجةٍ قياسية بالفعل، علاوةً على أن استمرار التوسع الحضري في سول بكل قوة يعني أن الوضع سيزداد سوءاً.
تكلفة المعيشة في كوريا الجنوبية
تُعد كوريا الجنوبية أغلى بلد يمكن تربية الأطفال فيه عالمياً، فتكاليف الدروس الخصوصية ورعاية الطفل مرتفعة، كما أن تربية طفل من الولادة وحتى 18 عاماً تُكلَّف مبلغاً أكبر من حصة الفرد في الناتج المحلي بـ7.7 ضعفاً، وهذا مُعدَّلٌ هو الأعلى في العالم.
وللمقارنة، تصل تكلفة تربية طفل في ألمانيا وفرنسا إلى 3.6 و2.2 ضعفاً لحصة الفرد في الناتج المحلي، أي إن كوريا الجنوبية تحتل مرتبتها بلا منافس، وتُعدُّ تكلفة المعيشة في سول جزءاً من المشكلة، إذ يتجاوز سعر الشقة متوسطة الحجم في سول الـ740 ألف دولار.
وهذا مبلغ بعيد عن متناول الغالبية، حتى بمعايير الكوريين الأثرياء، لكن البنية التحتية والإسكان هي مشكلات ملموسة تستطيع الحكومة حلها، وسيكون إصلاح سول مهمةً شديدة التعقيد، فهي مدينة تُديرها الشركات بشكلٍ أساسي.
سيجونغ.. مدينة جديدة
وضع الرئيس رو مو هيون استراتيجية استجابة للانهيار السكاني إثر تولِّيه المنصب عام 2003 وصدر التكليف ببناء مدينة جديدة تُدعى سيجونغ، على بُعد 120 كلم فقط جنوب سول، وتقع المدينة الجديدة في منتصف البلاد لتركز بشكلٍ أساسي على توطين الأسر النواة.
كانت المدينة تحت الإنشاء منذ 2009 حتى أصبحت بهذا الشكل بعد 15 عاماً فقط.
- مهّدت الحكومة الأراضي
- أنشأت منظومة الشبكة
- شيّدت مئات البنايات شاهقة الارتفاع
- شيّدت المدارس والجسور والمستشفيات وغيرها من المرافق والخدمات العامة
وينوي الكوريون نقل عاصمتهم إلى هناك، إذ ستنقل الحكومة أكثر من 36 وزارة ووكالة حكومية إلى سيجونغ، ويبلغ عدد سكان المدينة حالياً نحو 300 ألف نسمة لكن من المتوقع أن يصل عدد سكانها إلى نحو 500 ألف نسمة مع اكتمال بنائها عام 2030، أو هذا ما تنص عليه الخطة.
أحدث التقنيات في سيجونغ
وتمتلك سيجونغ في الوقت الراهن منطقتها المالية والتجارية الخاصة، بالإضافة إلى خطط بناء منطقة صناعية قريبة، ويعمل كل شيء في سيجونغ بأحدث التقنيات الممكنة.
- يحتوي كل شارع على شاشات باللمس وأكواد استجابة سريعة ولوحات معلومات رقمية
- جرى تصميم المدينة بهذه الطريقة لاستيعاب السيارات ذاتية القيادة والأتمتة الكاملة في المستقبل القريب.
- يعتمد المشروع بأكمله على الطاقة النظيفة مع التركيز على المساحات الخضراء
- يوجد شاطئ صناعي فيها
والمهم أيضاً هو أن تصميم سيجونغ يتمحور حول تنظيم الأسرة، لهذا تعج بـ:
- المنتزهات
- ملاعب الأطفال
- وتضم الكثير من المدارس الابتدائية ورياض الأطفال ميسورة التكلفة
ما يجعلها المكان المثالي لتكوين أسرة، ولا شك أن تصميم مدينة من الصفر له مزاياه لأنك تستطيع التخطيط لكل شيء، كما يعد الإسكان في سيجونغ ميسور التكلفة أكثر على سبيل المثال، ورغم أنها تبعد 120 كلم عن العاصمة فقط، لكن تكلفة الشقة متوسطة المساحة في سيجونغ تعادل نحو نصف تكلفتها في سول، أي يبلغ سعرها 390 ألف دولار في مقابل 740 ألف دولار تحديداً.
ويشكل السعر الأقل هذا فارقاً كبيراً بالنسبة للأسر حديثة التكوين، بينما تتحدث النتائج عن نفسها، إذ يصل معدل المواليد هناك إلى 0.97 طفلاً، وشهدت سيجونغ عدد مواليد أكبر من أي مكانٍ آخر في كوريا الجنوبية خلال السنوات الثلاث الماضية، وما يزال الرقم أقل من مستوى الإحلال البالغ 2.1، لكنه يجعل سيجونغ حالةً استثنائية في كوريا الجنوبية، لأنه يبرهن على إمكانية عكس مسار تناقص السكان.
وبهذا قد تنجح كوريا الجنوبية في الإفلات من براثن الانقراض بنقل عاصمتها.
ما الغرض من كل هذا؟
لم يكتمل بناء سيجونغ بعد، لكنها بدأت تأتي بثمارها الإيجابية ويُعزى الكثير من نجاحها إلى التخطيط الحضري ومنظومة الرعاية الاجتماعية السخية، ونظراً لتطويرها كعاصمة جديدة للبلاد، شهدت سيجونغ انتقال مسؤولي الحكومة وموظفي الخدمة العامة إليها بشكلٍ أساسي.
ويستفيد جميعهم من البرامج الاجتماعية الحكومية السخية.
- يتمتع موظفو الحكومة بحرية نسبية في الحصول على إجازة رعاية طفل تصل إلى 3 سنوات
- إجازة الأمومة
- لا توجد ضغوط الشركات المألوفة هناك لأن الوظائف الحكومية أقل تنافسية
- تضمن لموظفي الخدمة العامة عودتهم للعمل بعد إنجاب الطفل
بينما سنجد الوضع معاكساً تقريباً في سول، إذ يتجنب الكوريون في القطاع الخاص الحصول على إجازة رعاية طفل مطولة، وذلك خشية فقدان أفضليتهم لدى الإدارة في مكان العمل، أي إن الوظائف المستقرة والإسكان ميسور التكلفة يشجعان الناس على إنجاب أطفال أكثر، وقد أثبتت سيجونغ نجاح هذه المعادلة.
وتشير البيانات الرسمية في 2016 إلى ولادة 32.7 طفلاً لكل ألف موظفٍ حكومي، أي أكثر من ضعف الـ14.5 طفلاً المولودين لكل ألف موظف بالقطاع الخاص، من العمر نفسه وفي العام نفسه، لكن الحكومة لم تفكر في كل التفاصيل أثناء تخطيطها لسيجونغ ولو فعلت ذلك، لكان من المحتمل أن تزيد معدلات مواليدها أكثر.
- هناك الكثير من موظفي الحكومة الذين نُقِلَت وظائفهم إلى سيجونغ لكنهم لم ينتقلوا معها
- قرر أغلبهم الإقامة في سول وقضاء عدة ساعات في الطريق إلى العاصمة الجديدة يومياً.
- يقول العديدون إن المدينة الجديدة تفتقر إلى الثقافة، أي إنها بلا روح،
- سيجونغ تفتقر إلى وسائل النقل إذ لا تحتوي على شبكة مواصلات تُذكر ولا يوجد في المدينة قطار أنفاق أو شبكة ترام
فرغم تخطيط المدينة من الصفر، ارتكب المطورون الكوريون غلطة لا تُغتفر، إذ أغفلوا إضافة منظومة نقل، وتحتوي المدينة على حافلات عامة، لكنها قليلة العدد وتصل نسبة من يتنقلون بالحافلات في سيجونغ إلى 7% فقط.
فيما تشكل السيارات نسبة 41% من حركة النقل، أي ضعف المعدل الحالي في سول، ونستطيع القول إنك لن تصل إلى عملك في سيجونغ إذا لم تكن لديك سيارة، ويتعارض هذا الخطأ في البنية التحتية مع هدف توفير إسكان ميسور التكلفة نوعاً ما.
إذ تبحث الأسر حديثة التكوين عن المزايا المالية التي تجعل الانتقال إلى سيجونغ يستحق العناء، وهذا يعني أنها ليست مدينة خضراء ومتطورة وميسورة التكلفة بالدرجة المزعومة، وربما يعوق خطأ البنية التحتية هذا انتقال السكان الذين يستهدف المطورون جذبهم.
ومع ذلك، يُعلِّق المشرعون الكوريون آمالهم على سيجونغ وتأتي هذه السياسة مدفوعةً بالحاجة أكثر من الاختيار، إذ تحتاج الدولة إلى حل أزمتها السكانية، لأن كل نجاحها الاقتصادي لن يعني شيئاً إذا عجزت عن استبدال سكانها من جيل لآخر.
بينما تبرهن سيجونغ على إمكانية عكس مسار الانهيار السكاني، لكن نجاح الخطة يقتضي من الحكومة مضاعفة برامجها الاجتماعية وحل أوجه قصور البنية التحتية المحلية.