عام على الطوفان: الشرق لن يعود كما كان… والجديد لم يولد بعد
مآلات - أكتوبر 2024

ملخص

الدرس الافتتاحي بعد عام من طوفان الأقصى، هو أننا إزاء محددات مشهد إقليمي جديد تماما، لا تحكمه كافة القواعد السابقة، وهو مازال قيد التشكل، ما يعني أن خطط كافة الأطراف، بما في ذلك “إسرائيل” والولايات المتحدة، ليست مضمونة النجاح، وإنما محل تدافع مع إرادة وسلوك الفاعلين الآخرين، بما في ذلك صمود المقاومة، وثبات الشعب الحاضن لها والواقف على أرضه.
ستكون من نتائج الطوفان، أن دول المنطقة العربية باتت أكثر تمسكا بالشراكة الأمنية مع الولايات المتحدة. بينما تواجه اتفاقيات أبراهام مأزقها الجوهري؛ فهي لا تلبي لدول المنطقة الحماية اللازمة، إذ ظهر أن “إسرائيل” نفسها بحاجة للدعم الأمريكي. كما أنها لا تعالج إخفاق مشروع “إسرائيل” الأساسي: وهو بقاء الشعب الفلسطيني على أرضه متمسكا بمقاومة الاحتلال. 
تقود تداعيات معركة الطوفان نحو تعزيز الوعي داخل المنطقة تجاه أولوية التصدي لعدو مشترك لا مصلحة لأحد في انتصاره. لا ينهي هذا بالضرورة الانقسام السني-الشيعي، ولا يتصور أنه يطوي تجلياته العميقة في سوريا بصورة خاصة؛ لأن هذا يتطلب مراجعة جادة من قبل طهران، وهو أمر لا يبدو مرجحا في الأجل القريب.
ثمة جيل جديد حول العالم يتشكل وعيه عن القضية الفلسطينية، وفق معطيات مختلفة تماما عن الأجيال الأكبر سنا. هذا الجيل لن يظل في الجامعات طويلا، وسينتقل قريبا إلى قاعات الحكومة، والمؤسسات الإعلامية والفكرية. ليست هذه مجرد مشكلة داخل الحزب الديمقراطي الأمريكي، وإنما واقع سيكون على الغرب و”إسرائيل” التعامل مع تداعياته البعيدة.
من المبالغة وصف خط إيران-روسيا-الصين كمحور متماسك، لكنّ الطوفان جعل من الشراكة الروسية الإيرانية، والإيرانية الصينية ضرورة حيوية. لن يكون من مصلحة روسيا أن تنتهي إيران إلى هزيمة تدمر مقدراتها في وقت تفتقر روسيا للحلفاء. بينما تشكل طهران شريكا استراتيجيا لبكين، ومن ثم فإن الدعم الصيني لإيران، بصور شتى، لن يكون مفاجئا.
الفرضية حول تراجع أولوية الشرق الأوسط كانت تستبطن أن هذه المنطقة “راكدة”، وأن النفوذ فيها محسوم. لكنّ التطورات منذ الثورات العربية، وحتى “طوفان الأقصى”، تنفي عنها حالة الركود، وتؤكد أنها قيد إعادة تشكل جوهري ومستمر، سيكون له تداعيات واسعة على مجمل صراع النفوذ الدولي، وأيضا على أدوار الفاعلين الإقليميين.
القوى العربية التي تبدو مستسلمة للنفوذ الأمريكي، قد تقودها التطورات إلى استكشاف بدائل من أجل البحث عن “النجاة”، خاصة وأن الخطط الإسرائيلية الاستراتيجية ستقوض أمن بعض تلك الدول، وستضع البعض الآخر في مواجهة غضب شعبي داخلي لا يمكن احتوائه إلى الأبد.

عام على الطوفان الشرق لن يعود كما كان... والجديد لم يولد بعد

مقدمة

عام كامل مرّ على منطقة الشرق منذ انطلاق عملية “طوفان الأقصى”، دفع فيه قطاع غزة ثمنا باهظا، فهناك أكثر من 42 ألف شهيد، وأضعافهم من الجرحى، كما دمر الاحتلال بصورة ممنهجة كامل البنية التحتية المدنية وكافة مقومات الحياة في القطاع بهدف إجبار السكان على الرحيل.أما المقاومة التي أطلقت العملية، فقد دفعت هي الأخرى ثمنا كبيرا، لا يقتصر على استشهاد رئيسها إسماعيل هنية ونائبه صالح العاروري، وإن كان ما زال من غير الواضح أبعاده بدقة؛ في ظل سياستها المقصودة إزاء الغموض حول خسائرها العسكرية بصورة خاصة. وعلى الرغم من أن المؤشرات ترجح استشهاد نحو نصف مجلسها العسكري، وعدة آلاف من المقاتلين، فإن المؤكد أن هزيمة حماس عسكريا أو القضاء عليها كما تصورت “إسرائيل” ما زال هدفا بعيد المنال.

في لبنان، يتلقى حزب الله ضربة قاسية غير متوقعة، تضمنت استشهاد كل مجلسه العسكري تقريبا، وعلى رأسهم أمينه العام التاريخي السيد حسن نصر الله، وخليفته المحتمل هاشم صفي الدين، فضلا عن عشرات الكوادر النوعية في مستويات وتخصصات مختلفة، كما تلقى ضربة موجعة لمنظومة اتصالاته السرية، واستبيحت ضاحيته المفضلة في جنوب بيروت كما لم يحدث من قبل. ومع هذا، فما إن قررت “إسرائيل” اختبار الغزو البري، ظهر واضحا أن الأضرار الفادحة التي لحقت بمنظومة التحكم والسيطرة لدى حزب الله، لا تعني أبدا أن هزيمته باتت مسلم بها، أو أن الغزو البري سيكون مجرد نزهة لجيش الاحتلال، كما أن قدرة الحزب على استهداف الداخل الإسرائيلي لا يبدو أن الضربات الإسرائيلية ستنجح في إيقافها قريبا.

ليست هذه هي الصورة الوحيدة التي يجب أن نتأملها بعد عام من الطوفان؛ ذلك أن غبار المعارك ودماء الشهداء ودمار العمران لا يكفي بمفرده لاستشراف التحولات البعيدة التي أطلقها الطوفان، أو التي كشف عنها وجعلها أكثر وضوحا. ولابد من الأخذ في الاعتبار أن بعض تلك التحولات باتت ضمن مكونات المشهد الجيوسياسي الجديد لمنطقة الشرق بمجرد انطلاق العملية ونجاحها صباح السابع من أكتوبر 2023، ولا يمكن لآلة الدمار العسكرية الإسرائيلية أن تعيد حركة الزمن إلى الوراء، وكأن ذلك الصباح لم يمر على منطقة الشرق. المؤكد أن الضرر الفادح الذي لحق بإسرائيل، لا يمكن أن يمحوه أي مستوى من التوحش العسكري.

بعيدا عن أسئلة الحرب المباشرة، والتي تظل مهمة، والسيناريوهات المحتملة مثل احتمالات توسع الحرب البرية في لبنان، ومستقبل التصعيد العسكري بين الاحتلال وإيران، ودخول جبهات أخرى على خريطة الحرب كالأراضي السورية أو العراقية، فإن هذا العدد من مآلات يركز على الصورة الأوسع، حيث يسلط الضوء على استنتاجات جيوسياسية، لاحظناها خلال عام الطوفان، ونرجح أنها لن تتأثر جوهريا بالسيناريوهات المحتملة المتعددة لسير المعارك على الأرض.

نموذج ما بعد الطوفان لم ينضج بعد

الدرس الافتتاحي بعد عام من الطوفان، هو أن محددات المشهد الإقليمي السائدة قبل الطوفان، لم تعد قائمة، وليس من المجدي بأي حال التفكير في سلوك الفاعلين – خاصة الإسرائيلي – وفق تلك القواعد. يشمل ذلك قواعد الصراع بين إيران ومحورها من جهة، و”إسرائيل” من جهة أخرى، والديناميات التي حكمت القضية الفلسطينية نفسها. نحن الآن إزاء نموذج تفسيري جديد تماما (Paradigm)، وهو ما زال قيد التشكل، لم ينضج بعد.

بمعنى أننا في مرحلة انتقالية نحو نموذج جديد (Paradigm Shift)، ولا يجري الصراع حاليا وفق قواعد سابقة متفق عليها، أو قواعد جديدة جرى الاعتراف بها، ولكن حدود هذا النموذج الجديد، وقواعده الحاكمة للمعادلات والتوازنات السائدة فيه، يجري الآن فرضها بقوة الدم، ووفق المدى الذي تصل إليه الصواريخ، وبمستوى صمود المقاومة وثبات الشعب الحاضن لها والواقف على أرضه، في فلسطين ولبنان، وغيرها.

الذهول عن هذه الحقيقة لا يربك المتابعين والمعلقين فقط، بل أربك تقديرات بعض أطراف الصراع نفسه. فعلى مدار العام الماضي، أثبت نتنياهو، أكثر من أي طرف آخر، أنه يعني حقيقة نهاية النموذج السابق. ومن ثم؛ ظهر تركيزه وتمسكه اللافت بكل ما هو استراتيجي من وجهة نظر الاحتلال. ما منح “إسرائيل” تفوقا نوعيا خلال العام المنصرم في مواجهة المحور الإيراني هو أن “إسرائيل” كانت تعلم جيدا ماذا تريد، ومن ثم كانت مستعدة لتجاوز المسلمات السابقة كي تحقق أهدافها، بينما كانت إيران ومحورها تدري فقط ما الذي لا تريده، وهو الحرب المباشرة، ومن ثم راهنت على مسلمات ومعادلات لم تعد قائمة أصلا، فتحولت إلى قيود فرضتها إيران على نفسها، وحدت من قدرتها على المبادرة، أو حتى توقع خطوات “إسرائيل”.

على سبيل المثال؛ تجاوزت “إسرائيل” مسألتين كانتا مسلمتين في أي تحليل للمشهد في الأشهر الأولى من الحرب، حين كانت التحليلات ما زالت مقيدة بمسلمات ما قبل الطوفان. المسألة الأولى: أنه لا يمكن لإسرائيل تحمل حرب طويلة. بينما تهيأت دولة الاحتلال لمعركة ليست فقط طويلة، وإنما مفتوحة، وبات واضحا أنها تحشد الامكانات الاقتصادية والعسكرية، سواء الذاتية أو الغربية خاصة الأمريكية، اللازمة للمواصلة ليس فقط حتى نهاية 2024، بل أبعد من ذلك بكثير.

المسألة الثانية: أن “إسرائيل” غير قادرة على خوض مواجهة متعددة الجبهات. هذا أيضا جرى تجاوزه. سبق أن أطلقت “إسرائيل” بنفسه مواجهة متعددة الجبهات عام 1967. والآن، تتجهز لمواجهة متعددة الجبهات، طبعا طالما ظل الدعم العسكري الأمريكي حاضرا في المنطقة. لا شك أن هذه المسألة تظل نسبية، حيث لا تشهد كل الجبهات نفس المستوى من العمليات العسكرية، لكنّها تظل كلها جبهات مفتوحة في نفس الوقت، والأمر الذي له دلالة خاصة أن “إسرائيل” هي من تبادر لتوسيع تلك الجبهات، وليست الأطراف الأخرى.

كلا الافتراضين كانا صحيحين قبل الطوفان، لكن بعده تغير النموذج بأكمله، ومن ثم لا يمكن للمسلمات حول نهج الاحتلال الأمني والعسكري السائد منذ أوسلو أن يقدم تفسيرا أو توقعا لسلوكه بعد الطوفان. بل يجب النظر لسلوكه في سنوات التأسيس الأولى التي كان يخوض فيها صراعا وجوديا في بيئة معادية على كافة الجبهات.

يتجلى ذلك في غزة؛ إذ لم ينشغل نتنياهو بإنجازات تكتيكية وعملياتية، ولم يقبل بها كإنجاز كاف كي يتخلى عن أهدافه البعيدة: إضعاف حماس استراتيجيا وإبعادها عن حكم غزة، والاحتفاظ بالسيطرة الأمنية على القطاع، ودفع عدد من السكان للرحيل.

ظهر هذا في سلوكه إزاء قضايا مثل الإصرار على احتلال محور فيلادلفيا، ورفض عودة النازحين إلى شمال القطاع، ورفض خطط اليوم التالي (حتى لو كانت أمريكية) التي لا تلبي معاييره الأمنية الجديدة، فضلا عن عدم الاكتراث بمسألة استعادة الأسرى وعدم الخضوع لضغوط الرأي العام المحلي بخصوص هذا الملف إذا كان ثمن استعادتهم هو التخلي عن أي من الأهداف بعيدة المدى التي وضعها للحرب.

أما في جبهة لبنان؛ أكد نتنياهو مجددا أنه ليس مشغولا بالتكتيك. بمعنى أن استعادة الأمن في الشمال لن تتحقق من وجهة نظره بإبعاد حزب الله إلى ما وراء الليطاني فحسب، ولكن بضمان فرض معادلة من الردع تضمن أن ألا يكون الحزب قادرا على تهديد الشمال مجددا، وذلك بتوجيه ضربة استراتيجية لقدراته، أو أنه لن يلجأ لاحقا إلى استخدام ورقة تهديد مستوطنات شمال “إسرائيل” إلا كقرار حرب شامل عليه تحمل تبعاته.

وبالتالي فإن الهدف هو ليس إعادة تموضع حزب الله جغرافيا في الجنوب اللبناني، من حيث مدى ابتعاده عن الحدود وطبيعة تواجده العسكري، ولكن الهدف هو إضعاف حزب الله استراتيجيا، وإعادة رسم تموضعه في مجمل معادلة الصراع الإيراني مع “إسرائيل”، باعتبار أن خطوة “إسرائيل” التالية بعد لبنان هي العمل على إضعاف إيران نفسها.

معنى أن “النموذج الجديد” لم ينضج بعد أن خطط كافة الأطراف، بما في ذلك “إسرائيل” والولايات المتحدة، ليست مضمونة النجاح، وإنما محل تدافع مع إرادة وسلوك كافة الفاعلين الآخرين. امتلكت “إسرائيل” المبادرة إزاء استهداف إيران وحزب الله، واجتازت كافة الخطوط الحمراء السابقة، لكنّها في المقابل كان عليها تقبل أن الآخرين سيجتازون أيضا خطوطا حمراء مقلقة، وأصبح من معادلات الصراع الجديدة أن إيران تهاجم العمق الإسرائيلي مباشرة دون أن يكون هذا بالضرورة بمثابة “إعلان حرب”.

وبالإضافة لذلك، أصبح الداخل الإسرائيلي عرضة لهجمات من اليمن والعراق، وهي معادلة لا تحقق لإسرائيل معايير الأمن التي تريد فرضها واستعادتها بعد الانهيار الكبير في نظرية الأمن الإسرائيلي في السابع من أكتوبر/تشرين أول 2023. وليس أبلغ دلالة من هذا أنه وبعد عام من طوفان الأقصى، أظهر استطلاع أجرته هيئة البث الإسرائيلية أن 86٪ من الإسرائيليين غير مستعدين للعيش في غلاف غزة بعد انتهاء الحرب.

مأزق اتفاقيات أبراهام

كان تقديرنا العام في “أسباب” أن التطبيع الإقليمي الذي يتطور وفق “اتفاقيات أبراهام”، يجعل “إسرائيل” أكثر اندماجا في هيكل المنطقة الاقتصادي والأمني، لكنّه لن يجعلها أكثر أمنا. وجاء الطوفان ليعزز من هذا الاستنتاج. فمن ناحية، تواصل دول المنطقة المعنية بالتطبيع مع الاحتلال، خاصة مصر والإمارات والأردن والسعودية والمغرب والبحرين، تعزيز علاقاتها الأمنية والاقتصادية مع “إسرائيل”، بل وساهمت بعضها في توفير بدائل تجارية عقب تعطيل الحوثيين لحركة الملاحة المرتبطة بالاحتلال في البحر الأحمر. كما قدمت بعض تلك الدولة مساهمات متفاوتة في جهود “إسرائيل” والولايات المتحدة للتصدي للهجمات الإيرانية تجاه “إسرائيل”.

في الواقع، ستكون من نتائج الطوفان غير المقصودة، وغير المرغوبة من قبل حماس، ومن قبل إيران أيضا، أن دول المنطقة العربية باتت أكثر تمسكا بالشراكة الأمنية مع الولايات المتحدة، كما أن الولايات المتحدة أصبحت أكثر حرصا على تلك الشراكة. إن قدرة إيران ووكلائها على تهديد جيرانها تعزز من توجههم نحو تمتين التعاون الأمني مع واشنطن.

في حين أن مأزق “إسرائيل” الأمني يتطلب من واشنطن استمرار ضمان تعاون جيران “إسرائيل” العرب في مواجهة تهديدات إيران. أظهر الطوفان أن دور دول مصر والأردن يظل حيويا لأمن “إسرائيل”، كما أن تعاون دول الخليج يوفر للاحتلال خط استطلاع وإنذار مبكر ضد التحركات الإيرانية. وحتى الدول التي تبدو بعيدة عن هذه الترتيبات المباشرة مع الاحتلال، مثل الكويت وقطر وسلطنة عمان، فإن تصاعد التهديدات الإقليمية تجعل علاقتها مع واشنطن ضرورة حيوية.

لذلك؛ وعلى الرغم من غضب القاهرة وعمّان من بعض تصرفات نتنياهو، والقلق إزاء مخطط التهجير، فإن إمدادات الغاز الإسرائيلي لمصر بلغت مستويات غير مسبوقة، كما مثلت موانئ مصر على البحر المتوسط متنفسا لدولة الاحتلال بدلا من خطوط الإمداد المباشرة المعطلة في البحر الأحمر. وكانت الأردن شريكا رئيسا في جهود صد الهجمات الإيرانية.

أما دول الإمارات والبحرين والسعودية بالإضافة للأردن، ففضلا عن تبادل المعلومات الاستخبارية النشط وبيانات الاستطلاع الخاصة بالصواريخ والمسيرات، فإنها وفرت شريانا تجاريا بريا من موانئ الخليج إلى “إسرائيل”. ومن اللافت، أن السعودية تتجه للتراجع عن الخفض الطوعي في إنتاج النفط، وهي خطوة تمثل إشارة حاسمة في عودة التنسيق بين الرياض وواشنطن في أسواق النفط، وستؤدي لانخفاض الأسعار، بما يضر بمصالح موسكو، وذلك بعد تمنع سعودي استمر تقريبا طوال سنوات حكم “بايدن”. 

في المقابل، أعلنت واشنطن الإمارات “كشريك دفاعي رئيسي (وهو تصنيف لا تحظى به سوى الهند)، ورفعت حظر تصدير الأسلحة عن السعودية وباتت اتفاقية الشراكة الأمنية قاب قوسين. أما مصر فقد تلقت دعما اقتصاديا دوليا وخليجيا سخيا بضوء أخضر أمريكي، فضلا عن تقديم المعونة العسكرية السنوية كاملة دون أي اقتطاع للمرة الأولى منذ سنوات. وقد ربط البيت الأبيض الخطوة تجاه الإمارات بدورها في “منع الصراع وخفض التصعيد” في المنطقة، وهي إشارة مماثلة لتبرير الخارجية الأمريكية عدم اقتطاع أي جزء من المعونة العسكرية لمصر بالنظر لمساهمات مصر المحددة والمستمرة في أولويات الأمن القومي الأمريكي، خاصة دورها في مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة.

ومع هذا، لا تخفي تلك التطورات مأزق اتفاقيات أبراهام الجوهري؛ فهي من ناحية لا تلبي لدول المنطقة الحماية اللازمة في مواجهة ما تراه “تهديدا إيرانيا”، فقد ظهر أن “إسرائيل” نفسها غير قادرة على حماية نفسها دون الدعم الأمريكي. وفي المقابل، فإنها لم تجعل “إسرائيل” أكثر أمنا؛ لأنها لا تعالج إخفاق “إسرائيل” في مسألة جوهرية وهي بقاء الشعب الفلسطيني على أرضه، وتمسكه بمقاومة الاحتلال.

وهكذا، بعد عام من الطوفان، وجدت “إسرائيل” نفسها تقف وحيدة مجددا في بيئة ما زالت معادية، رغم تطور علاقاتها وصداقاتها مع حكومات المنطقة، فيما يواجه حلفاؤها العرب نفس حالة الانكشاف الإقليمي التي يعتمدون فيها على مظلة الحماية الأمريكية. ومن الجدير بالذكر؛ أن السعودية والإمارات أدركتا هذا في لحظة مبكرة، ومن ثم تتمسكان، كل على حدة، بالتوصل لاتفاقية دفاعية ثنائية مع واشنطن توفر لكل منهما التزاما أمريكيا تجاه أمن البلدين.

ترميم خطوط الصدع الإقليمي؟

تعهد الحرس الثوري الإيراني، طوال العقد الماضي، أنشطة عسكرية في دول عربية، خاصة في سوريا، مما ألحق بطهران ضررا إقليميا، رغم المكاسب التي يمكن لإيران الترويج لها. فقد جلبت تلك الأنشطة والتدخلات مشاعر العداء على المستوى الشعبي العربي، فضلا عن إثارة قلق الدول المجاورة، ودفعها للتنسيق فيما بينها في مواجهة “التهديد الإيراني”، وطلب الدعم الأمريكي والإسرائيلي من أجل ذلك. استندت تلك الأنشطة على تأجيج الولاء الطائفي كأداة للتعبئة في المنطقة، مما كرّس خط صدع سني-شيعي، فاقم من انقسام وتجزئة المنطقة، فضلا عن أثره في الانقسام المجتمعي العميق داخل الدول نفسها، في العراق وسوريا واليمن ولبنان بصورة خاصة.

من المبالغة تصوير أن عام الطوفان وانحياز إيران الواضح فيه لدعم المقاومة الفلسطينية قد وضع نهاية لهذا الصدع. لكن، لا شك أن الدعم الإيراني الواسع للمقاومة الفلسطينية، والمتمثل في جبهات إسناد في لبنان واليمن وحتى العراق، وضع إيران كشريك للمقاومة الفلسطينية لاسيما بعد أن تطورت جبهات الإسناد إلى جبهات حرب، خاصة في لبنان، إذ دفع حزب الله ثمنا باهظا، وربما لاحقا إيران نفسها إذا تعرضت لهجوم واسع هي الأخرى. يدفع هذا إلى تصاعد النقاش حول ضرورة إيقاف الصراع الطائفي لصالح التركيز على العدو المشترك المتمثل في الاحتلال ورعاته الغربيين، خاصة مع احتمال عودة ترامب للبيت الأبيض، ومواصلته المتوقعة لسياسة الضغط القصوى ضد إيران، والقوى السُنّية الإسلامية على حد سواء.

إن معركة الطوفان وتداعياتها الواسعة التي ما زالت تتفاعل، تقود بالتدريج نحو تعزيز وعي داخل المنطقة حول أولوية التصدي لعدو مشترك لا مصلحة لأحد في انتصاره. لا ينهي هذا بالضرورة خط الصدع السني-الشيعي، ولا يتصور أنه يطوي تجليات هذا الصدع العميقة في سوريا بصورة خاصة. يتطلب ذلك مراجعة جادة وإجراءات من قبل طهران، وهو أمر لا يبدو مرجحا قريبا. لكنّ تداعيات معركة الطوفان مع هذا تفتح المجال لتسكين هذا الانقسام، وربما تساهم في إعادة تقييم إيرانية لمقاربتها الإقليمية السابقة. فلم تكن إيران مهددة كما هي اليوم، وهي بحاجة لهذا العمق الإقليمي، على المستويين الرسمي والشعبي. قد يكون تغير الموقف الرسمي غير مرجح في الأجل القريب، لكنّ الضغوط الشعبية قد تكون مهمة للضغط على السلوك الرسمي.

انهيار الرواية “الإسرائيلية” وتشكل وعي جديد في الغرب

أظهر عام الطوفان أن ثمة جيل جديد حول العالم يتشكل وعيه عن القضية الفلسطينية، وعن “إسرائيل”، وفق معطيات مختلفة تماما عن الوعي الذي لدى أجيال أكبر سنا. فقد شهد جيل سابق لحظة تشكل دولة الاحتلال عقب مآسي الهولوكوست، ومن ثم كانت “إسرائيل” بالنسبة لهم أقرب إلى مشروع انقاذ لليهود المضطهدين. كانت كيانا وليدا يستوجب التعاطف والدعم أكثر من أي شيء آخر، وكانت تبدو الطرف الأضعف والمهدد وسط بيئة معادية من الدول العربية التي تريد القضاء عليها.

في عقود تالية، بدأت سردية تكون “إسرائيل” يعاد روايتها في الغرب بواسطة مؤرخين يهود وإسرائيليين، بعد إتاحة وثائق فترة الحرب. وبدأ الحديث الموثق عن التطهير العرقي الممنهج بحق السكان الفلسطينيين، والمذابح التي ارتكبت كنهج عسكري مقصود وثابت خلال حرب تأسيس الدولة. صحيح أن “إسرائيل” ظلت محل تعاطف الغرب، لكنّ السردية الأخلاقية بدأت في التراجع، خاصة وأن ذلك واكبه الانتفاضة الفلسطينية الأولى ثم الثانية.

الآن؛ يتشكل وعي جيل جديد لدى طلاب الجامعات والناشطين حول العالم، والذين قادوا مظاهرات واسعة خلال الأشهر الماضية لم يسبق أن شهد الغرب لها مثيلا من حيث مستوى تعاطفها ليس فقط مع الفلسطينيين، بل حتى مع حركة حماس. بالنسبة لهؤلاء، ليست “إسرائيل” هي المهددة من قبل جيرانها العدوانيين، وإنما هي الطرف المعتدي على الفلسطينيين، الذين يمثلون الطرف الأضعف المستهدف بمستوى غير مسبوق لدى هذا الجيل من العنف العسكري.

وتظهر استطلاعات الرأي في الولايات المتحدة الأمريكية أن جيل Z والشباب من جيل الألفية يميلون إلى التعاطف مع الفلسطينيين، ويريدون من الولايات المتحدة التوقف عن دعم الحرب الإسرائيلية بمعدلات أعلى من الأمريكيين الأكبر سنا. هذا الجيل لن يظل في الجامعات طويلا، وسينتقل قريبا إلى قاعات الحكومة، والمؤسسات الإعلامية والفكرية… الخ، محملا بتصورات مختلفة تماما عن العالم مقارنة بأجيال سابقة

في الصورة الواسعة، ليست هذه مجرد مشكلة داخل الحزب الديمقراطي الأمريكي، وإنما واقع جديد سيكون على الغرب و”إسرائيل” التعامل مع تداعياته البعيدة. وكلما توسعت دائرة المعارك، فإن آلة الحرب الإسرائيلية تلحق الضرر بصورة “إسرائيل” في الغرب بنفس القدر الذي تدمر به البنية التحتية المدنية في غزة ولبنان. ليست هذه مجرد مسألة أخلاقية، ولكنّها لن تلبث أن تتجلى كواقع له انعكاسات على التصورات السياسية وتيارات الفكر للأجيال الجديدة، وبالتالي سياسات الدول نفسها.

أوسع من الشرق.. الطوفان يضيف دوامات للصراع الدولي

طور عدد من علماء السياسة الدولية المقاربة البنائية (Constructivism) لتقديم مزيد من الفهم للتغيرات في النظام الدولي. وكان من فرضياتهم الأساسية أن النظام الدولي يتألف من عناصر مادية وفكرية، ومن ثم لا يمكن فهم التغيرات الدولية بمعزل عن دور الأفكار وتأثيرها، وكيفية تطورها و”بنائها” اجتماعيا. بهذا المعنى، لا يمكننا تجاهل كيف تؤدي حرب غزة إلى انهيار “فكرة” النظام الدولي الراهن بصورة متسارعة، حتى لو كانت مؤسساته المادية ما زالت قائمة. والمثير أن الولايات المتحدة التي ترفع راية الدفاع عن “النظام الدولي القائم على القواعد” في مواجهة جهود الصين وروسيا لتغييره، هي من حملت معول هدم “فكرة” النظام الدولي على مدار عام.

إذ لم تكتف بتمويل ودعم عمليات عسكرية تستهدف قتل أكبر عدد ممكن من المدنيين، ومنع التغطية الإعلامية للحرب، وشرعنة استهداف المستشفيات وحتى المؤسسات الأممية في قطاع غزة، بل إن الأمر بلغ حد التهديد بفرض عقوبات على محكمة العدل الدولية. يقول البنائيون إنه إذا أصبح من المعتاد ترديد فكرة فستتحول إلى واقع، ولا شك أن تعميم القناعة بغياب القانون الدولي وعدم فاعلية المؤسسات الدولية، وعدم الحاجة لها أصلا، يعني ببساطة أن هذا النظام انهارت فكرته، وهي خطوة أولى لانهياره المادي، أو على الأقل، لاستمرار تآكله.

ما زال من المبالغة وصف خط إيران-روسيا-الصين كمحور متماسك، لكنّ بلا شك أن عاما من الطوفان جعل من الشراكة الروسية الإيرانية، والإيرانية الصينية ضرورة حيوية؛ فقد نجحت إيران في إثبات أنها شريك مفيد لروسيا في حربها ضد الغرب في أوكرانيا، وفي المقابل، تحتاج إيران لحليف دولي وقوة عسكرية مثل روسيا في مواجهة التهديد الأمريكي والإسرائيـلي الذي يعرض للخطر جهودها المستمرة منذ أربعة عقود لبناء مجال نفوذ من طهران إلى شرق البحر الأبيض المتوسط. ولذلك، تسارع إيران الخطى لتوقيع اتفاقية استراتيجية مع روسيا والتي يتوقع إعلانها خلال الأسابيع القادمة

وإذا كانت روسيا ترغب في عدم تطور الصراع في المنطقة إلى حرب شاملة بين إيران و”إسرائيـل”، فإن هذه الحرب التي لم تعد مستبعدة ولن يكون من مصلحة روسيا أن تنتهي بهزيمة لإيران وتدمير لمقدراتها، في وقت تفتقر روسيا للحلفاء. أما الصين، فإن التطورات في الشرق الأوسط تمثل لها تهديدا مباشرا؛ كونها تتلقى على الأقل نصف إمدادات الطاقة من المنطقة، وستتعثر بعض مراحل مشروع الحزام والطريق بصورة كبيرة نتيجة الاضطرابات الأمنية التي ستمتد من إيران وحتى شرق المتوسط. وتشكل إيران شريكا استراتيجيا للصين في هذا الصدد، ومن ثم فإن الدعم الصيني، السياسي والعسكري بصور شتى، لن يكون مفاجئا.

في نفس الوقت؛ يمثل الاستنزاف الأمريكي في الشرق الأوسط مصلحة واضحة للصين وروسيا، وهو ما يتوقف على قدرة محور إيران على بقائه فاعلا ومعيقا للمصالح الأمريكية في المنطقة، حتى لو كان حلفاء واشنطن هم شركاء للصين وروسيا في نفس الوقت. وهكذا، فإن التفاعلات التي أطلقها الطوفان تقع في قلب الصراع الدولي، وإن لم تكن هي نفسها محلا لهذا الصراع. وستوازن القوى الدولية بين حاجتها لتجنب أن يلحق الضرر بمصالحها، والعمل على استغلال الفرص المتاحة لتقويض مصالح القوى الأخرى

إن الحجة التقليدية التي يجري تداولها على نطاق واسع، والمتمثلة في تراجع أولوية الشرق المتوسط لدى الولايات المتحدة مقارنة بشرق أوروبا (أوكرانيا)، وبحر الصين الجنوبي (تايوان)، لم يعد بإمكانها الصمود كثيرا في ظل التركيز الأمريكي الواسع على منطقة الشرق. إن الافتراض حول تراجع أولوية الشرق ينبع بصورة رئيسية من هيمنة واشنطن على المنطقة، وبالتالي اعتبار أن نفوذها فيها غير مهدد.

بينما روسيا حاضرة جغرافيا في شرق أوروبا وتخوض حربا بالفعل لتقرير مصير نفوذها التاريخي في المنطقة، كما أن الصين حاضرة جغرافيا في منطقتها وتتجهز لحسم مسألة تايوان والنفوذ في بحريها الجنوبي والشرقي. أي إن الفرضية حول تراجع أولوية الشرق الأوسط كانت تستبطن أن هذه المنطقة “راكدة”، وأن النفوذ فيها محسوم. لكنّ تطورات المنطقة منذ الثورات العربية، ثم تفاعلاتها عقب “طوفان الأقصى”، تنفي عنها حالة الركود، وتؤكد أنها قيد إعادة تشكل جوهري ومستمر، وسيكون له تداعيات واسعة على مجمل صراع النفوذ الدولي.

لا يشمل إعادة التشكل الجاري في المنطقة حظوظ القوى الدولية من النفوذ فيها، ولكن أيضا أدوار الفاعلين الإقليميين، وارتباطها بتصاعد الصراع الدولي. يشمل ذلك مستقبل “إسرائيـل” وحدود مساعيها للهيمنة عسكريا على المنطقة، ومستقبل إيران ومجال نفوذها الإقليمي، وحدود النفوذ التركي الذي قد يملأ فراغات إقليمية على وقع الإضعاف المتبادل المحتمل بين “إسرائيل” وإيران

وحتى القوى العربية التي تبدو حاليا مستسلمة للنفوذ الأمريكي كواقع لا يمكن تحديه، قد تقودها تطورات الصراع الإقليمي في لحظة ما إلى استكشاف بدائل من أجل البحث عن “النجاة”، خاصة وأن الخطط الإسرائيـلية الاستراتيجية ستقوض أمن بعض تلك الدول، وستضع البعض الآخر في مواجهة غضب شعبي داخلي لا يمكن احتوائه إلى الأبد.

فمن المستبعد تماما أن تطورات الطوفان لا تجد صدى لدى الشعوب العربية التي تبدو الآن متوارية عن المشهد؛ فلا شك في أن طوفان الأقصى يمثل حلقة جديدة وحاسمة في عملية اتساع الهوة بين النظام الإقليمي العربي وشرائح واسعة من شعوب المنطقة. وقد أثبتت شعوب المنطقة دائما أنها تختزن غضبها، وتراكم شعورها بالرفض، لكنّها لا تلبث أن تعبر عن هذا المخزون في مناسبات غير متوقعة، وبطرق لا يمكن التنبؤ بها.