تقديم عام
قیّمنا لمستقبل منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط ثلاثة سیناریوهات. وبالنظر إلى الدرجة العالیة من عدم الیقین والتقلّب في الموقف، فقدحصرنا توقعات السیناریوهات المتوقعة في فترةٍ تتراوح بین 6-12 شهراً.
حدّدنا ضمن كل سیناریو “المؤشرات” الرئیسیة التي سترسم على الأرجح مسار السیناریو. وهذه “المؤشرات” لیست شاملة أو متعارضةأو متسلسلة، ومع ذلك فهي تُقدّم معالم رئیسیة ستساعد في تحدید مسارٍ بعینه للنتائج المُحتملة. وجمیع السیناریوهات مُصنّفة وفقاًلاحتمالیتها.
هذه السیناریوهات مبنیةٌ على أنّ كافة الدول المعنیة ستحافظ على استقرارها المحلي ولن تُواجه تهدید تغیر سیاسي خلال فترة التوقعاتالتي جرى تقییمها.
– في الجدول أدناه، نوضح المتغيرات التي سيتم بناء السيناريوهات عليها وهي في ثلاث تبويبات: متغيرات اقتصادية، دبلوماسية وعسكرية.
السيناریو الأول
توترات مستمرة مسيطر عليها دون اندلاع صراع مباشر
المسار الأكثر ترجيحاً على المدى القریب هو استمرار التوتّرات التي یُمكن السیطرة علیها دون اندلاع صراعٍ مباشر بین تركیا ودولمنتدى غاز شرق المتوسط. يعتمد هذا السیناریو إلى حدٍ كبیر على استمرار تطورات الوضع السیاسي الراهن، حيث أنّ الدافع المُستمرللتنقیب داخل المیاه المتنازع علیها، والوجود المتزاید للبحریة التركیة الجاهزة لاعتراض سفن تنقيب شركات النفط الدولیة، وعجز أو عدمقدرة الاتحاد الأوروبي على تحدّي تركیا هي عواملٌ اجتمعت معاً لتجعل من هذا السیناریو المسار الأكثر ترجيحاً.
كما ستُعزّز تركیا وجودها العسكري في البحر المتوسط أكثر، مع تشغیل ست غواصات جدیدة لها خلال السنوات الست المُقبلة، إلىجانب الفرقاطات والصواریخ قصیرة المدى الجدیدة. هذه التعزيزات وغيرها ستؤدي إلى ظهور حقائق جدیدة على الأرض، ستحرص تركيا بها على خلق واقعها القانوني والمادي الذي ينسجم مع مصالحها.
من جانب آخر، تُدرك تركیا أنّه من المستبعد للاتحاد الأوروبي أن یُطوّر نیة أو إرادة سیاسیة لمواجهةٍ شاملة معها على المدى القریب. كماستُواصل تركیا استعراض عضلاتها داخل المیاه المتنازع علیها، وستواصل استضافة ملایین المهاجرین، وتعزز من نفوذها الكبیر الذي اكتسبته في لیبیا -نقطة ضعف أوروبا-؛ لذا ستظل قدرة الساسة الأوروبیین محدودةً في فرض أي تغيير ولو كان جزئياً على السیاسةالتركیة. إذ یخشى ساسة أوروبا من أزمة مهاجرین أخرى، خاصةً في خضم الانكماش الاقتصادي والتداعیات المتواصلة لجائحةكورونا، مما یضع أردوغان في موقف أفضلیة حین یتعلّق الأمر بأي صراعٍ مُحتمل مع الاتحاد الأوروبي.
ومن المرجّح أنّ تعمل تركیا على تعطيل عملیات تنقيب شركات النفط الدولیة في منطقة شرق المتوسط إن عادت لعملها في أي فترة مقبلة، خاصة أن شركتا توتال وإيني علقتا أعمال التنقيب حتى نيسان/أبريل 2021 على الأقل، في حين أرجأت شركة إكسون موبيل أعمال الحفر حتى أيلول/سبتمبر 2021 على خلفية تداعيات كورونا. ونتوقع في ظل تصاعد وتيرة التوترات أن تنأى شركات النفط الدولیة عن عمليات التنقيب في شرق المتوسط، أو تتخلّى عنها لأجلٍ غیر مُسمى. وهذا من شأنه أن یحُد من قدرة تركیا للضغط على الدول الساحلیة المُنافسة فيشرق المتوسط، حيث قد تمتد المواجهات بین القوات البحریة للدول المتنافسة إلى حد إطلاق أعیرةٍ تحذیریة، خاصةً داخل المنطقةالاقتصادیة الخالصة لقبرص، خاصة في نقاط الاشتباك الساخنة في المنطقة السادسة (Block 6) ثم المنطقة رقم ثلاثة (Block 3). لكن التصعید الذي یتضمّن تبادل إطلاق النار سيبقى مُستبعداً في هذا السيناريو.
كما يتوقع أن يكون الاحتكاك بين بحرية تركيا مع القطع العسكرية البحرية لدول غربية كثفت حضورها في شرق المتوسط لتوازن القوى المرتبط بهذا الصراع، خاصة فرنسا، التي نتوقع وفق هذا السيناريو أن تواجه قطعها البحرية مضايقات من البحریة التركیة لا تصل حد مواجهة مباشرة أو تصعيد متبادل.
السيناريو الثاني
صراع متصاعد
یعتمد هذا السیناریو على تصلّب مواقف الأطراف الرئیسیة، مما سیخلق الفرصة المثالیة لسوء التقدیر أو عدم الرغبة في إیجاد الحلولالوسط. وفیه تُصعّد الدول المتنافسة خطواتها بعرقلة تطویر خطوط أنابیب جدیدة أو محاولات التنقیب عن الغاز. وربما یجد زعماء بعضالدول أنفسهم مُحاصرین، أو یقعوا في فخ خطابهم. وخیر مثالٍ على ذلك هو النیة التركیة المعلنة بالحفر في المیاه المُجاورة لجزر كریتورودس، التي تدعّي تركیا أنّها لها الحق في التنقيب فيها بناءً على اتفاقها مع لیبیا. ویُمكن أن تنفجر جولة صراع مكثف (Intensified Conflict) نتيجة سوء تقدیرٍ عسكري غیر متوقّع أو بسبب أخطاء تكتیكیة، خاصةً في حالة وقوع أضرار مادیة كبیرة أوخسائر في الأرواح.
وقد شهدنا بالفعل كیف أخطأت مصر والإمارات وروسیا في تقدیر استعداد تركیا لتخصیص أصولها العسكریة من أجل المواجهة علىالخطوط الأمامیة في ليبيا. فمثلاً، ربما تحاول تركیا اتخاذ خطوات سریعة على الجزر والمناطق الاستراتیجیة القريبة منها من أجل زیادةنفوذها ووجودها. وفي حال سعت إحدى دول منتدى غاز شرق المتوسط إلى اختبار صبر الأخرى بدعم المحاولات العنیدة لعملیات الغازداخل المیاه الإقلیمیة المتنازع علیها؛ فقد یؤدي ذلك إلى انتقامٍ غیر متوقّع، مما قد یُسفر في النهایة عن دائرةٍ مُفرغة من العنف.
وقد صار هذا الأمر ممكناً أیضاً بفضل المواقف الباهتة لكلٍ من الاتحاد الأوروبي والناتو حول الأزمة. فضلاً عن أنّ محدودية تدخل الولایات المتحدة والاتحاد الأوروبي مكّنت تلك الدول من تعزیز مصالحها الخاصة دون اعتبار لعواقب ذلك سياسياً واستراتيجياً. وربمایُؤدّي بطء الأطراف الثانویة في الرد على اندلاع التوتّرات إلى حلقاتٍ مُباشرة من العنف. وحینها ستصبح العودة إلى طاولة المفاوضاتأكثر تعقیداً، بالتزامن مع رؤیة الأطراف المعنیة أنّ الحوار بات غیر ذي صلة وسط مناخٍ من التوتر والاستفزاز المتبادل.
السیناریو الثالث
تسویة بالمفاوضات
في هذا السیناریو ستُقدّر الدول المتنافسة أنّ مستویات التوتّر القائمة لم تعُد ملائمة، لعددٍ من الأسباب، وبالتالي ستختار التسویة بالمفاوضات. وربما تكون تلك الأسباب مدفوعةً بفقدان النفوذ السیاسي، أو نتیجة زیادة الضغوط الاقتصادیة المحلیة التي تمنع المغامرات الخارجیة. ومن هذا المنطلق، سوف تُفضّل الدول المتنافسة المحادثات، مع الاستسلام للضغوط الدولیة. وستتوسّط الأمم المتحدة في هذه العملیة من أجل إجراء المحادثات. كما سیُؤدّي الاتحاد الأوروبي والدول صاحبة المصالح دوراً قیادیاً إلى جانب جهود الأمم المتحدة، إما عن طریق الإكراه أو الإقناع، في تخفیف الخطاب وتقریب وجهات النظر. إذ دعت ألمانیا في أوائل أغسطس/آب إلى محادثات مباشرة بین الیونان وتركیا من أجل تهدئة التوتر وحلّ النزاعات حول الحقوق البحریة. وسوف تُسفر المحاولات المماثلة عن توقیع مذكرة تفاهم بین الأطراف الرئیسیة (تركیا والیونان). كما ستُفضّل الدول الأخرى (مصر ولیبیا وإسرائیل وقبرص) المشاركة طوعاً في هذه المفاوضات خوفاً من الخسارة في أيّ ترتیبات جدیدة. أما الجانب الأمريكي فسيكون ضاغطاً على تركيا لتقديم تنازلات بهذا الملف نتيجة توازنات الانتخابات الأمريكية ونتائجها التي قد تسفر عن نجاح بايدن وفوز الديمقراطيين في مجلسي الكونجرس.