سياسات القوى الإقليمية
تحميل الإصدار

القوى الإقليمية هي دول تتمتع بنفوذ داخل منطقة جغرافية محددة، قد يصل إلى الهيمنة، استنادا إلى قدرات اقتصادية وعسكرية وسياسية وأيديولوجية، تمكنها من تشكيل أجندات الأمن والسياسة في الإقليم، وتتبنى استراتيجيات تسعى إلى خلق الولاء والمتابعة بين الدول المجاورة. كما تؤثر بنسب متفاوتة في السياسة الدولية، ولكن بمستوى أقل من القوى العالمية.

كيف تعمل القوى الإقليمية؟

كيف تعمل القوى الإقليمية؟

  1. التأثير السياسي والدبلوماسي: تلعب هذه الدول أدوارًا حاسمة في المنظمات وأطر التعاون الإقليمية والترتيبات السياسية، وغالبًا ما تعمل كوسطاء أو قادة في الصراعات الإقليمية.
  2. التأثير الأيديولوجي: قد تروج القوى الإقليمية لبعض النماذج الأيديولوجية أو الثقافية أو السياسية التي تشكل المعايير والسياسات الإقليمية.
  3. المصالح الاستراتيجية: غالباً ما يكون للقوى الإقليمية مصالح استراتيجية في الحفاظ على الاستقرار والنظام داخل مناطقها، ما يدفعها إلى تدخلات أو دعم أنظمة أو سياسات معينة.
  4. تحدي التحالفات الإقليمية المنافسة: من العوامل الأساسية التي تحدد مستوى أي قوة إقليمية هو مدى قدرتها على العمل منفردة في الإقليم في مواجهة أي دولة أو تحالف منافس.
  5. تتفاعل القوى الإقليمية باستمرار مع الديناميكيات العالمية، للتأكيد على مكانتها، وضمان ألا تشكل السياسات الدولية المنطقة بما يعارض مصالح القوى الإقليمية.
  6. لا يشير معني “الإقليم” إلى نطاق جغرافي محدد ومغلق؛ فالدولة التي لديها الموارد والإمكانات الكافية، يمكن أن تحاول تشكيل “منطقتها” وفقًا لمجالات القضايا ذات الأولوية.

يتطلب تقييم سياسات القوى الإقليمية دراسة العوامل المركبة التي تتفاعل معا لتشكل هذه السياسات. وتكمن أهمها في ثلاثة أبعاد:

  1. الضرورات: وهي ما يجب أن تمتلكه الأمة حتى تظل آمنة.
  2. القيود: المفروضة على الدولة، والتي لا يمكنها تغييرها.
  3. مصادر القوة: (اقتصادية، وعسكرية، وسياسية، ومعنوية/أيديولوجية) اللازمة لتأمين الضرورات والتعامل مع القيود.

تشير دراسات لنمط التفاعلات الإقليمية في منطقة الشرق، أن أمن النظام، بمعنى بقاء النخبة الحاكمة في السلطة، يمثل الأولوية في تشكيل سياسة الدول الخارجية. أي إن السياسة الخارجية تعتبر في المقام الأول وسيلة للبقاء ومصدرًا بديلاً للشرعية الداخلية. ولذلك؛ فإن تقدير أنظمة إقليمية بأن سلطتها المحلية مهددة من قبل جيرانها، شكّل محركا رئيسيا للسياسة الإقليمية منذ انطلاق الثورات العربية. وزاد من حساسية هذا الأمر أن الشرق الأوسط يمثل حالة مثالية لهيكل الأمن الإقليمي المترابط، كما تصوره نظرية باري بوزان “المجمع الأمني” (security complex)، إذ لا أمن مستقل لأي دولة بمعزل عن علاقاتها مع جيرانها، وحيث المستوى الإقليمي هو ساحة التفاعل بين الأمن الوطني لكل دولة، والأمن العالمي.

وفيما يلي، تقييم موجز لسياسات دول الإقليم الرئيسية، من خلال فهم الضرورات والمخاوف التي تحكم هذه الدولة، وتقدير الطرق التي يمكنها العمل من خلالها، سياسيا واقتصاديا وعسكريًا.

تركيا

تقوم مقاربة الحكومة التركية للسياسة الخارجية على أولوية ضمان مكانة تركيا كقوة دولية متوسطة صاعدة، تعزز نفوذها في البلقان، والشرق الأوسط، والقوقاز، وآسيا الوسطى، وأفريقيا. وتتبنى تركيا نهجا خارجيا متوازنا، تتمسك فيه بموقعها كعضو فاعل في الناتو، مع زيادة من هامش استقلالها عن النفوذ الغربي، ودون أن تكون معادية له. ولذلك؛ تواصل أنقرة علاقة عمل مفيدة مع روسيا، لأسباب جيوسياسية واقتصادية، رغم دعم تركيا الكامل لأوكرانيا.

تتمثل أبرز ضرورات تركيا الأمنية على مستوى منطقة الشرق فيما يلي:

  • التصدي للمجموعات الانفصالية الكردية، وهو الأمر الذي يشكل عاملا رئيسيا في صياغة سياسة تركيا تجاه سوريا والعراق، كما يفرض عليها التعاون مع إيران.
  • صراع السيادة في بحر إيجه، ويشمل الحدود البحرية وقضية قبرص وموارد الطاقة في شرق المتوسط، وهو صراع يؤثر على علاقة تركيا بالغرب، خاصة مع دعم أمريكا وفرنسا لليونان وقبرص، بالتواجد عسكريا في موانئ يونانية، ورفع حظر الأسلحة عن قبرص. كما تحكم هذه الضرورة نظرة تركيا للعلاقة مع مصر، ومستقبل دورها في ليبيا، والعلاقة مع “إسرائيل”.
  • تأمين وتنويع إمدادات الطاقة للسوق التركية في ظل اعتماد أنقرة الواسع على واردات الطاقة، وتجنب الاعتماد المفرط على مصادر بعينها، خاصة روسيا وإيران، وهو ما يتطلب تأمين مصادر بديلة تتمثل في أذربيجان والعراق وقطر والجزائر، فضلا عن زيادة الإنتاج المحلي.

يمثل تطوير وتنويع الاقتصاد ضرورة لمواصلة مسيرة الاستقلال العسكري، والدفاع عن المصالح الخارجية. وتتمثل أبرز ضرورات تركيا الإقليمية اقتصاديا في الآتي:

  • تتطلب أولوية تحسين الاقتصاد، احتواء التوترات الخارجية، بما في ذلك مع الغرب الشريك التجاري الأكبر لتركيا، وتطوير العلاقة مع جيرانها الإقليميين، خاصة السعودية والإمارات ومصر، وفتح أسواق للمنتجات والشركات التركية في أفريقيا، وتأمين عملها في ظل الاضطرابات الأمنية.
  • تستهدف أنقرة تحويل البلاد إلى مركز دولي لتداول الغاز الطبيعي، تبدأ من حقوق إعادة بيع الغاز الروسي، وغاز بلدان أخرى مثل أذربيجان وإيران والعراق، وربما “إسرائيل”، وتصديره إلى أوروبا، وهذا يتطلب التعاون مع الدول المنتجة، والحفاظ على علاقات وثيقة مع السوق الأوروبية.
  • ضمان موقع تركيا في مشروعات ممرات النقل الدولية التي تعيد تشكيل سلاسل التوريد بين الشرق والغرب، مثل مبادرة الحزام والطريق الصينية، و”طريق التنمية” مع العراق والإمارات وقطر، وممر زنغزور لربط تركيا مع آسيا الوسطى والصين، عبر أذربيجان، فيما يعرف بطريق بكين-لندن.

تعد المنافسة الجيوسياسية بين تركيا وإيران أحد أبرز اتجاهات السياسة الإقليمية، في العراق وسوريا وأذربيجان وآسيا الوسطى، رغم أن البلدين تمكنا من إدارة التنافس بحرص وحذر شديدين طيلة السنوات الماضية. وبينما كان الملف السوري أبرز ساحات الصراع، فقد أثارت خطط تشغيل ممر زنغزور في أذربيجان، و”طريق التنمية” في العراق، مخاوف إيران أنها قد تواجه بحصار من النفوذ التركي في محيطها الجغرافي.

مصر

يربط موقع مصر البحرين المتوسط والأحمر عبر قناة السويس، ويتصل عنده غرب آسيا والجزيرة العربية بشمال أفريقيا، ويمنحها نفوذا جغرافيا على فلسطين. ويمثل عدد سكانها الذي تجاوز 105 مليون سوقا كبيرا وطاقة عمل شابة حيوية. ولذلك؛ تحرص القوى العالمية والإقليمية على استقرار النظام في مصر، وتفضل الاحتفاظ بعلاقات جيدة معه، إن لم يكن نفوذا عليه.

تضع مصر العلاقات مع الولايات المتحدة والغرب في قلب أولوياتها الأمنية والاقتصادية. حيث تحظى بتصنيف “حليف من خارج الناتو”، ويعتمد جيشها في تسليحه على الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وإيطاليا، ويتلقى 1.3 مليار دولار سنويا كمعونة أمريكية عسكرية منذ أكثر من 40 عاما. وتضمن شراكة مصر مع الغرب تدفقا كبيرا للدعم الاقتصادي من المؤسسات الدولية والغربية، والذي تعتمد القاهرة عليه، في ظل أزمة الاقتصاد المصري المزمنة.

ومع هذا، تحرص القاهرة على تنويع علاقاتها الدولية. حيث تواصل توثيق العلاقات مع روسيا، وتنسق معها في ليبيا وسوريا، وتعتمد على موسكو بنسبة 70٪ من إجمالي وارداتها من القمح، كما تعتمد عليها في مشروع محطة الضبعة النووية.

وبالمثل، طورت مصر علاقاتها مع الصين منذ عام 2014 إلى مستوى “الشراكة الإستراتيجية الشاملة”، وباتت أكبر شريك تجاري للقاهرة، وانضمت مؤخرا لمجموعة بريكس، ومنظمة شانغهاي للتعاون.

تظل دول الخليج العربي هي الحليف الإقليمي الرئيسي لمصر؛ إذ تشارك القاهرة أولويات تتعلق بمواجهة النفوذ الإقليمي الإيراني والتركي، والدفاع عن الوضع الراهن في المنطقة ضد احتمالات تجدد الاحتجاج الشعبي وتغير الأنظمة، وضد تهديد الأحزاب الإسلامية. ورغم التباينات وأحيانا التنافس، تظل لدى مصر ضرورة اقتصادية مُلحة لمواصلة علاقة مستقرة مع دول الخليج.

بالإضافة لحيوية تأمين تدفق نهر النيل، فإن لدى مصر ضرورة في الحفاظ على أمن قناة السويس، ما يتطلب الاهتمام بالقرن الأفريقي. كما تواجه مصر تحديات تأمين حدودها البرية المترامية، خاصة في ظل الأوضاع في غزة وليبيا والسودان.

وتعتبر القاهرة أن مصالحها تقتضي إبعاد أي تواجد أجنبي عن ليبيا والسودان، لكنّ تراجع قدرة القاهرة على إسقاط القوة خارج حدودها يحد من قدرتها على فرض أولوياتها الأمنية إقليميا، ويدفعها بالتالي للعمل ضمن شبكة حلفاء متنوعة، ما يضعها بصورة متكررة في تناقض مصالح لا تحظى فيه بالأفضلية الكافية.

رغم التباينات والشكوك، سيظل من مصلحة مصر تطوير العلاقات مع تركيا؛ فبالإضافة للمكاسب الاقتصادية المتبادلة، توفر فرص تنسيق المواقف فيما يخص ملفات مثل ليبيا وشرق المتوسط، مزايا إقليمية للجانبين. بينما يشهد مسار تطبيع العلاقات المصرية الإيرانية تقدما، يحد من تطوره الانقسام حول ملفات إقليمية، والقيود المتعلقة بعلاقة مصر مع الولايات المتحدة و”إسرائيل”. وتنظر مصر لمكتسبات من هذا التقارب، في مقدمتها حماية المشاريع والعمالة المصرية في العراق.

إيران

تقع إيران في موقع جغرافي هام حيث تطل على الخليج وبحر قزوين، مما يساعدها على أن تصبح لاعبا فاعلا في ملفات الشرق الأوسط وجنوب القوقاز وبحر قزوين وآسيا الوسطى، فضلا عن ميزات أخرى مثل امتلاك 18% من احتياطيات الغاز العالمية، والإطلالة على مضيق هرمز الذي تمر عبره نحو 40% من إمدادات النفط عالميا.

يرى المنظرون الإيرانيون أن بلدهم عانت من مأزق جيوسياسي يتجلى في ضرورة الدفاع عن حدودها الشاسعة التي تآكلت بمرور الوقت، وافتقادها إلى حليف استراتيجي من القوى العظمى مما يتركها فريسة للخصوم، ويولد شعورا دائما بانعدام الأمن.

لذا، تعمل طهران على زيادة عمقها الاستراتيجي ببناء شبكة وكلاء ضمن نظرية “الدفاع الأمامي”، وتحقيق الاكتفاء الذاتي في القدرات العسكرية غير المتكافئة عبر تطوير القدرات الصاروخية، والطائرات المسيرة، والبرنامج النووي.

يمثل تماسك ووحدة الجبهة الداخلية المتنوعة عرقيا وطائفيا ضرورة أخرى تشكل جزءًا مهما من سياسة إيران الخارجية، خاصة تجاه دول الجوار مثل باكستان وأفغانستان والعراق وأذربيجان وتركيا، فضلا عن الدول التي تتهمها إيران باستهداف تأجيج التوترات داخليا خاصة “إسرائيل”.

على وقع العداء مع الغرب، تعزز طهران من سياسة التوجه شرقا، بتطوير الشراكة مع روسيا والصين اقتصاديا وعسكريا، وإلى حد ما الهند، بالإضافة للانضمام إلى منظمة شنغهاي للتعاون في 2023، ومجموعة البريكس في العام التالي، وتطوير العلاقات مع دول أفريقية وفي أمريكا اللاتينية.

يشغل الاقتصاد أولوية في سياسة إيران الخارجية لمعالجة آثار العقوبات الغربية التي تؤجج الغضب الشعبي، ولجذب استثمارات أجنبية تساهم في توفير فرص عمل.

وتمثل مشاريع ممرات النقل الدولية مثل “ممر شمال-جنوب” الذي يربط روسيا مع الهند عبر إيران، وتطوير ميناء تشابهار، باكورة المشاريع الكبرى الهادفة لتحسين الوضع الاقتصادي، وتحويل إيران إلى مركز عبور.

تميل إيران مؤخرا للتهدئة وتعزيز التعاون إقليميا، وذلك لطمأنة جيرانها باعتبار أن ذلك سيحد من تزايد الحضور الأمريكي في منطقة الخليج، فضلا عن الحد من تطور تحالف خليجي إسرائيلي. تُوّج ذلك بعودة علاقات إيران مع السعودية والإمارات، وقريبا البحرين. لكنّ التطبيع مع “إسرائيل” سيظل مصدر توتر في علاقات طهران مع دول الخليج المطبعة، وربما يقوّض سياسة التهدئة.

ينعكس نفوذ الحرس الثوري في صنع السياسة الخارجية الإيرانية، على تزايد الإجراءات العسكرية الإيرانية إقليميا، بما في ذلك التدخل في سوريا واليمن، ودعم وكلاء مسلحين في العراق والبحرين. ويمثل التواجد الإيراني في سوريا أهمية استراتيجية لطهران، من جهة الحفاظ على ممر بري إلى البحر المتوسط، يمر عبر العراق إلى سوريا ولبنان، وإكمال ما تعتبره “حلقة النار” حول “إسرائيل”.

لكنّ هذه الأنشطة العسكرية ألحقت بطهران ضررا، حيث جلبت لها مشاعر العداء على المستوى الشعبي الإقليمي، فضلا عن إثارة قلق الدول المجاورة، ودفعها للتنسيق فيما بينها لمواجهة “التهديد الإيراني”. والأخطر من هذا، أن هذه الأنشطة استندت على تأجيج الولاء الطائفي كأداة للتعبئة في عموم المنطقة، ما كرّس خط صدع سني-شيعي، يزيد من انقسام وتجزئة المنطقة، فضلا عن الانقسام المجتمعي العميق داخل الدول نفسها.

يؤدى الدعم الإيراني الواسع للمقاومة الفلسطينية، إلى إبراز قواسم مشتركة بين إيران ودول إقليمية أخرى، وجماعات عربية رافضة للاحتلال. ويدفع هذا للنقاش حول إمكانية إيقاف الصراع الطائفي لصالح التركيز على العدو المشترك المتمثل في الاحتلال ورعاته الغربيين، خاصة مع احتمال عودة ترامب للبيت الأبيض، ومواصلته المتوقعة لسياسة الضغط القصوى ضد إيران.

السعودية

تحتفظ السعودية بموقع محوري في سوق الطاقة العالمي، استعاد الكثير من زخمه الجيوسياسي عقب حرب أوكرانيا وتنامي التنسيق مع روسيا التي يسعى الغرب لعزلها وتقييد صادراتها النفطية. ولذلك؛ ستظل السعودية محل اهتمام القوى الدولية الرئيسية. واستنادا إلى هذا التأثير الدولي، والموارد المالية الكبيرة، يعتقد ولي العهد السعودي أن قيادة المملكة للعمل الإقليمي العربي لا ينبغي أن تكون محل شك، وهو ما يتسبب في توتر كامن في علاقاته مع دول مثل مصر والإمارات.

الأولوية الأمنية الأساسية التي تشكل توجهات السعودية الخارجية هي اكتساب مزيد من الحصانة ضد التهديدات الإيرانية المتنوعة، رغم تطبيع العلاقات. ولذلك؛ فإن المملكة تنظر للشراكة مع الولايات المتحدة كضرورة. وقد بات واضحا أن التوتر الذي شهدته علاقات الرياض وواشنطن لم يكن بدافع التخلي عن الشراكة، وإنما الرغبة في تطويرها. وتشير مطالب السعودية من إدارة بايدن بخصوص اتفاق التطبيع مع “إسرائيل” إلى أن أولوية الرياض هي اتفاقية أمنية استراتيجية مع واشنطن، وأنها تخاطب الأخيرة أكثر مما تخاطب “إسرائيل”.

تركز أولويات السعودية الاقتصادية، خاصة “رؤية 2030″، على خفض الاعتماد على عائدات النفط، وتنويع الاقتصاد ليشمل الطاقة المتجددة والسياحة والخدمات اللوجستية والذكاء الاصطناعي، وهي رؤية يتطلب نجاحها مجموعة من العوامل، في مقدمتها فرض موقع السعودية كمركز أول للأعمال في الشرق الأوسط، وتنويع شبكة العلاقات الدولية، كما يظهر في الانضمام لمجموعة بريكس، والانفتاح على مناطق غنية بالفرص الاستثمارية مثل آسيا الوسطى عبر الانضمام لمنظمة شنغهاي، وأفريقيا، وهو ما تؤسس له القمة السعودية الأفريقية في نوفمبر الماضي.

من المبكر تصوير اتفاق تطبيع العلاقات السعودية مع إيران كنهاية للصراع بينهما؛ إذ لا يمثل الاتفاق تغيرا في نظرة الرياض لطبيعة “التهديد الإيراني”، ولكن تغيرا في استراتيجية التعامل مع هذا التهديد، إذ تقتضي أولوية السعودية خفض التصعيد وإدارة التنافس عبر أدوات غير عسكرية، بما يتناغم مع مساعي ولي العهد السعودي لاحتواء التوترات الإقليمية والتركيز على تعزيز الاستثمارات والتنمية الاقتصادية.

الإمارات

لا تقبل الإمارات الاكتفاء بالسياسة التقليدية للدول الصغيرة المتمثلة في التحوط، لكنّها فرضت نفسها كلاعب في حد ذاتها، ليس فقط في الخليج والمنطقة العربية، ولكن في المحيط الهندي والبحر الأحمر والقرن الأفريقي وشرق أفريقيا، عبر استراتيجية واسعة لخلق نفوذ إقليمي يتمثل في سلسلة من الموانئ اللوجستية، مدنية وعسكرية، تمتد من جزر اليمن مرورا بالصومال وتنزانيا حتى الموانئ المصرية في البحر الأحمر. في هذه الرؤية الاستراتيجية، تقع إيران والإسلام السياسي ضمن دائرة التهديدات الإقليمية، وتبرز قطر كمنافس، فيما السعودية ومصر و”إسرائيل” حلفاء رغم التنافس والتناقضات. أما تركيا فقد انتقلت من التهديدات إلى مسار التأسيس لشراكة اقتصادية.

يظل التمدد الإماراتي خارجيا خاضعا للقيود المفروضة على الدولة: جغرافيا من حيث المساحة والعمق، وديموغرافيا من حيث طاقة العمل والقدرة على التعبئة العسكرية. لمواجهة القيد الأول؛ تعتبر الإمارات أن تجنب الاستهداف المباشر ضرورة حيوية، وهو ما يجعلها تنشط في ساحات خارجية أبعد وتجنب التصعيد مع دول الجوار التي يمكنها إيذاء الدولة، كما يفرض عليها ذلك ضرورة التحالف مع قوى يمكنها ردع الجيران. أما القيد الثاني، فقد لجأت الإمارات لتجنيد وكلاء خارجيين ودعمهم ماليا وعسكريا لتحقيق مصالحها الإقليمية.

في هذا السياق، فإن الإمارات ليست بصدد التخلي عن تحالفها مع واشنطن لمصلحة أي قوة دولية أخرى، بما في ذلك الصين وروسيا، ولكنّها على العكس تسعى لضمان الاعتماد على هذه العلاقات لعقود قادمة، من خلال ترقيتها إلى علاقة تقوم على “التزامات واضحة ومقننة” على حد التعبير الإماراتي الرسمي، لا تتأثر بتغير الإدارات في البيت الأبيض.

عقب تعرض الأراضي الإماراتية لهجمات الحوثيين، أطلقت أبوظبي مراجعة لنهجها الإقليمي، وتبنت نهج “تصفير المشاكل”، والذي يتضمن طي صفحة النزاعات والتوصل لتفاهمات أمنية وسياسية فحسب مع المنافسين، وتحصين هذه التفاهمات الجديدة بروابط تجارية واستثمارية واسعة، تجعل من شبكة المصالح بين الإمارات والأطراف الأخرى أكثر قوة للدرجة التي تضمن صمودها في مواجهة أي تباين في السياسات الإقليمية أو تعارض المصالح في بعض الملفات، وبالتالي يحد من احتمالية استهداف أراضي الدولة مجددا.

لذلك، فإن التقارب مع تركيا بدا سريعا ومنطقيا نتيجة توفر إمكانية للتركيز على التجارة ذات المنفعة المتبادلة. ويتمثل هذا النهج أيضا في استهداف علاقات اقتصادية مع “إسرائيل” بقيمة تريليون دولار خلال العقد المقبل. والإعلان الرسمي عن برنامج زمني مدته عام للتفاوض على اتفاقيات اقتصادية شاملة مع ثماني دول خلال عام، هي: المملكة المتحدة، كوريا الجنوبية، الهند، تركيا، إثيوبيا، كينيا، إندونيسيا، و”إسرائيل”.

رغم تطبيع العلاقات، فإن “التهديد الإيراني” يظل حاضرا في أولويات الإمـارات، وبالتالي ستظل استراتيجية الإمارات تمزج بين نهج تجنب العداء المباشر مع طهران، مع السعي لإحداث توازن مضاد من خلال تطوير شراكات أمنية ثنائية دولية، خاصة مع الولايات المتحدة والهند، وإقليمية خاصة مع تركيا و”إسرائيل”.

الجزائر

تميل الجزائر للحفاظ على علاقات جيدة مع القوى الكبرى وتجنب الانضمام إلى محاور أو تحالفات. ومن ثم؛ تحرص على موازنة علاقاتها مع دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة من جهة، والعلاقة مع روسيا التي تمثل حليفاً سياسياً وعسكرياً ومورداً رئيساً للسلاح. كما تعمل على زيادة جذب الاستثمارات من الصين، والتي تمثل الشريك التجاري الأول للبلاد، ومصدرا جديدا لصفقات التسليح خاصة الطائرات بدون طيار. كما تتمتع الجزائر بعلاقات متوازنة مع تركيا وإيران.

تسعى الجزائر للاستفادة من مواردها من الطاقة، خاصة بعد حرب أوكرانيا التي هيأت للجزائر فرصة تعزيز أوراق قوتها الخارجية للتأثير على سياسات القوى الأوروبية تجاه القضايا الإقليمية التي تمثل أولوية جزائرية، خاصة قضية الصحراء، والأمن في منطقة الساحل.

تركز السياسة الخارجية الجزائرية على الجوار الجغرافي المباشر بصورة لافتة، خاصة في ظل تنامي عدم الاستقرار في ليبيا وتونس ومنطقة الساحل. وتعمل على إظهار نهج أكثر حزما في سياستها الخارجية، بعد سنوات من الركود الإقليمي، خاصة في مواجهة التحالف الأمني الناشئ بين المغرب و”إسرائيل” والذي تضعه الجزائر كتهديد رئيسي، خاصة بعد أن ارتبط باعتراف إدارة “ترامب” بسيادة المغرب على الصحراء.

يظهر هذا النهج في موقف الجزائر إزاء ما اعتبرته مساعي فرض الواقع في قضية الصحراء، والتي اتخذت أبعادا إقليمية أوسع وأكثر تعقيدا منذ تطبيع علاقات المغرب مع “إسرائيل”، فقد قطعت الجزائر العلاقات الدبلوماسية مع المغرب في أغسطس/آب 2021، واتخذت إجراءات عقابية ضد إسبانيا، بالإضافة للانعكاسات السلبية على العلاقات مع الإمارات، والتي بدأت قبل ذلك مع رفض الجزائر لسياسة الإمارات إزاء الصراع في ليبيا.

تضع الجزائر أولوية لتغيير الموقف العربي، بقيادة دول الخليج ومصر، الذي يميل لصالح الموقف المغربي في قضية الصحراء، مع العمل على ضمان استمرار الموقف الأفريقي الداعم من خلال تعزيز العلاقات مع الدول الأفريقية المؤثرة، خاصة جنوب أفريقيا ونيجيريا وإثيوبيا. بالإضافة لذلك، فإن التعاون مع جنوب أفريقيا يظل في قلب الأولويات الجزائرية بهدف التصدي لمساعي “إسرائيل” اختراق منظمة الاتحاد الأفريقي.

المغرب

عرفت السياسة الخارجية المغربية خلال السنوات الماضية مجموعة من التحولات، ترتكز على ثلاث توجهات رئيسية: أولوية قضية الصحراء، زيادة النفوذ داخل العمق الأفريقي، وتحسين صورة المغرب في العالم واستقطاب الاستثمارات.

شهد ملف الصحراء، الذي يعتبره المغرب قضية جيوسياسية مصيرية، تحولا نوعيا أعقب اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بمغربية الصحراء خلال اتفاقية التطبيع التي وقعها المغرب مع أمريكا و”إسرائيل” عام 2020. وأصبحت قضية الصحراء المنظور الأساسي الذي يقيّم من خلاله المغرب مستوى علاقاته مع القوى الدولية والإقليمية.

وقد خلف هذا التحول مراجعة شاملة للعلاقات الثنائية مع مجموعة من شركاء المغرب التقليديين والذين ظل موقفهم يشوبه قدر من الغموض، وهو ما أثر سلباً على العلاقات مع إسبانيا وفرنسا بشكل خاص، رغم كونهما أهم شريكين اقتصاديين للرباط، وأدى إلى موجات من التوتر نظير مطالبة المغرب لهما بتبني مواقف واضحة تجاه القضية. وسرعان ما شهدت الأزمة المغربية الإسبانية انفراجة بعد دعم مدريد الحل المغربي لقضية الصحراء في مارس/آذار 2022، في حين لا تزال العلاقات مع فرنسا متوترة إلى حد كبير.

من شأن معركة طوفان الأقصى ثم الحرب على غزة أن تشكل ضربة قوية لمسار التطبيع بين المغرب و”إسرائيل”، الذي سجل تطورا مضطردا منذ اتفاق التطبيع، تمثل في التوقيع على مجموعة من الاتفاقيات الاقتصادية والأمنية والعسكرية.

وعلى الرغم من أن الضغط الشعبي الواسع الذي رافق مسيرات الاحتجاج التي عمت أرجاء المغرب من شأنه وضع حد للطابع العلني لهذه العلاقات، فإن الرباط ترسل إشارات واضحة بأنها ماضية في الشراكة الأمنية مع “إسرائيل”.كما ستظل دول الخليج العربية هي الشريك الأساسي للمغرب في المنطقة.

تسببت الحرب الباردة المستمرة منذ عقود بين الرباط والجزائر في تقويض فرص التكامل في الفضاء المغاربي، خاصة تعطيل منظمة الاتحاد المغاربي. وهو المعطى الذي أدى بالمغرب إلى مراجعة سياساته الإقليمية وتبني استراتيجية تركز على التوجه للعمق الأفريقي وتعزيز النفوذ في داخله، لكسب مزيد من الحلفاء في قضية الصحراء، والاستفادة من الفرص التجارية والاستثمارية.

تسعى الرباط، بعد أن أصبحت المستثمر الإفريقي الأول في غرب إفريقيا والثاني على المستوى القاري، إلى تنفيذ مجموعة من الخطط الاستراتيجية أهمها مبادرة مشروع خط أنابيب الغاز أفريقيا-أوروبا الذي يربط بين نيجيريا والمغرب عبر أراضي 11 دولة أفريقية، وسيكون بديلا للمغرب (ومن ثم إسبانيا) عن غاز الجزائر الذي توقف مع قرار قطع العلاقات.

وقد تعزز هذا التوجه من خلال المبادرة الأطلسية التي أطلقها المغرب في 23 ديسمبر/كانون أول 2023، والتي تهدف إلى إتاحة الفرصة لدول الساحل الأربع -مالي وبوركينا فاسو والنيجر وتشاد- للوصول إلى المحيط الأطلسي عبر الموانئ المغربية وفك العزلة عنها بعد التحولات التي عرفتها في السنوات الأخيرة. ويراهن المغرب على مساهمة المبادرة في تعزيز مكانته كقوة إقليمية في غرب أفريقيا، والدفع قدما بالتكامل الاقتصادي والسياسي معها.