زعيمة بنغلاديش فرّت من البلاد… فماذا سيحدث الآن؟

تُظهِر هذه اللقطات هروب رئيسة وزراء بنغلاديش الشيخة حسينة من مقر إقامتها الرسمي في دكا على متن مروحية، وبعدها بلحظات، اقتحم المحتجون المكان، وهذه لقطات للمحتجين داخل المبنى وهم يتجولون في الغرف، ويستلقون على الأثاث، ويلتقطون الصور، وينهبون المحتويات، حدث هذا في الخامس من أغسطس/آب، بعد وقتٍ قصير على استقالتها من منصبها، إذ شهدت بنغلاديش خروج مئات الآلاف من المحتجين المناهضين للحكومة إلى الشوارع طيلة أسابيع للمطالبة، باستقالة رئيسة الوزراء، وضغط الجيش عليها لتفعل ذلك قبل أن تطغى عليهم التظاهرات.

لم يكن أحد ليتصور حدوث هذا قبل بضعة أسابيع فقط، لكنه أصبح واقعاً الآن، إذ سبق لصحيفة إيكونوميست البريطانية وصف حسينة بأنها المرأة الحديدية في آسيا، بينما وضعتها مجلتا تايم وفوربس مراراً على قائمة أقوى الشخصيات في العالم، لكنها تبحث اليوم عن لجوء سياسي في الخارج.

لقد انتهى الحكم المتواصل بلا انقطاع لمدة 15 عاماً في غضون ساعات وبعدها مباشرةً، جرى حل البرلمان وتعيين محمد يونس الحائز على جائزة نوبل لقيادة حكومة مؤقتة لتقرير مستقبل بنغلاديش.

وما تزال تلك العملية جارية، لكنها عملية ستؤثر على المنطقة الأوسع، إذ تحتل بنغلاديش واجهة أزمة اللاجئين في أوروبا وأمريكا الشمالية، كما تأتي في طليعة تغيّر المناخ والحرب الاقتصادية الجارية بين أمريكا والصين، لهذا فإن ما يحدث في بنغلاديش ستكون له تداعيات خارج حدودها.

منصة أسباب وبالشراكة مع Caspian Report، تشرح لكم في هذا الفيديو ما بعد فرار زعيمة بنغلاديش من البلاد

الشيخة حسينة.. قصة نجاح آسيوية

تنحدر الشيخة حسينة من عائلة شديدة النفوذ فهي نجلة الشيخ مجيب الرحمن، مؤسس بنغلاديش المُلهم، وكانت حسينة السيدة الأطول حكماً على رأس دولةٍ في العالم قبل استقالتها المفاجئة.

  • تولت المنصب أول مرة عام 1996
  • تولّته ثانيةً منذ عام 2009 فصاعداً
  • أزالت الحواجز الديمقراطية الأساسية تدريجياً 
  • قيّدت استقلال القضاء
  • تعاونت مع أعضاء حزبها “رابطة عوامي” لقمع المجتمع المدني والصحافة
  • بناء شبكة محسوبيةٍ جديدة عززت سلطتها التنفيذية
  • قمعت حكومتها أحزاب المعارضة بيدٍ من حديد حين حاولوا التصدي لتلك الإصلاحات الجائرة
  •  حققت نمواً اقتصادياً مذهلاً أعفاها من تبعات اتجاهها إلى الاستبداد
  • شهدت ولايتها تنفيذ مشروعات بنية تحتية ومبادرات تنمية كبرى 
  • أصبحت بنغلاديش تُقدَّم كقصة نجاح، وصارت مثالاً للعولمة والازدهار الاقتصادي
  • نما الناتج المحلي الإجمالي سريعاً وبدأ الدخل اليومي في الارتفاع

كما كانت كل المؤشرات الاجتماعية تتحرك في اتجاهٍ إيجابي، لكن ليت الأمور كانت جيدةً لهذه الدرجة في الواقع، إذ من المرجح أن الإحصاءات التي قدمتها الحكومة كانت مزيفةً، علاوةً على أن أي نمو اقتصادي حققته حكومة حسينة لم تصل فوائده إلى غالبية الشعب، وظلّت الثروة مقتصرةً على من هم في القمة.

وحتى الآن، سنجد أن الـ10% الأكثر ثراءً من السكان يتحكمون في 41% من إجمالي دخل البلاد، بينما يحصل الـ10% الأكثر فقراً على نحو 1% فقط من إجمالي الدخل، ومن الصعب تجاهل هذا القدر من التفاوت، ففي داكا، تقع البنايات السكنية شاهقة الارتفاع الجديدة على مرمى البصر من أحيائها الفقيرة المعروفة.

 وأجرى معهد بنغلاديش لدراسات التنمية استطلاعاً بعد كوفيد كشف أن:

  1. نحو 51% من سكان دكا الفقراء دخلوا مرحلة الفقر المدقع بسبب الجائحة
  2. نحو 37 مليون شخص يعانون من انعدام الأمن الغذائي في بنغلاديش اليوم

أي إننا أمام حالةٍ كلاسيكية يزداد فيها الأثرياء ثراءً ويزداد فيها الفقراء فقراً، وإبان حكم حسينة، حظيت مصالح النخبة السياسية بالأولوية عن طريق فرض الضرائب المباشرة على الطبقة المتوسطة والفقراء.

بينما سُمِحَ للأثرياء بالتهرب من الضرائب على نطاقٍ واسع، يستقر معدل بطالة الشباب في بنغلاديش عند نحو 12% منذ عام 2017، وهذا يعني وجود نحو 18 مليون شخص بلا وظيفة في بلدٍ يبلغ تعداد سكانه 170 مليون نسمة.

لكن تقديرات الأطراف الثالثة في 2024 تشير إلى أن العدد الحقيقي للشباب العاطل أكبر من ذلك بكثير، وقالت إحدى التقديرات إن 40% من البنغلاديشيين الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و24 عاماً لا يعملون أو يدرسون أو يتدربون.

وفي  في يوليو/تموز 2024، انفجرت الأوضاع، إذ أدى الاستياء من الحكومة والاقتصاد إلى دفع مجموعة طلاب للاحتجاج ضد منظومة حصص التوظيف، حيث خُصِّصت 30% من الوظائف المدنية جيدة الأجر لعائلات قدامى المحاربين، و26% للأقليات وذوي الهمم والنساء والمناطق المعدومة.

ولم يعد منح الوظائف الحكومية على أساس الجدارة يشكل سوى 44% فقط، لكن نسبة الـ30% هي التي أرّقت المحتجين في الواقع، لأن جميع قدامى المحاربين تقريباً كانوا مقربين سياسياً من الحزب الحكم، وأصبح تسلُّق السلم الاجتماعي شبه مستحيل على شباب بنغلاديش.

لهذا خرج الطلاب إلى الشوارع، وردت حسينة بما كانت معتادةً على فعله، فقمعت التظاهرات بوحشية، لكن تلك الخطوة زادت حماس الطلاب وأخرجت المزيد منهم إلى الشوارع، وقد شعر غالبية الطلاب أن النظام السياسي يعمل ضدهم على كل حال، وهي حقيقة.

ولإخماد الاحتجاجات، عدّلت الحكومة حصص الوظائف المدنية وخفضت حصة قدامى المحاربين من 30% إلى 5% فقط، لكن أوان الإصلاح قد فات، وبدأت الاحتجاجات ضد منظومة الحصص تتحول إلى شيء أكبر.

احتجاجات بنغلاديش

“وصول العاصفة”

انضم مئات الآلاف من أبناء بنغلاديش إلى الاحتجاجات، لكنهم فعلوا ذلك بطريقة غريبةٍ تماماً عن السياسة البنغلاديشية، إذ لم يكن الحراك عموماً مرتبطاً بأي حزب سياسي ولم تكن هناك قيادة مركزية أو شخص يمكن لحكومة حسينة التفاوض معه.

أي إن ما شهدته بنغلاديش فعلياً كان حالة تعبئةٍ شعبية ضخمة بدأت تعيد ترتيب المشهد السياسي في البلاد بالكامل، أثارت الطبيعة الشعبية للاحتجاجات ذهول حسينة وحلفائها، ولم تكن لديهم أي فكرة أو وسائل تساعد على تهدئة الموقف، بينما أُنهِكت قوات الأمن في العاصمة، وسرعان ما اندلعت الاشتباكات.

وإبان ذلك، انضمت موجة أكبر من المدنيين إلى الاحتجاجات دون سابق إنذار على ما يبدو، وخرج ملايين المواطنين العاديين من كافة طبقات المجتمع إلى الشوارع، للتعبير عن شعورهم العميق بالحرمان الاقتصادي والسياسي.

  • استخدمت جهات إنفاذ القانون والقوات شبه العسكرية القوة الغاشمة لتفريق المحتجين على مدار أسابيع 
  • جرى فرض حظر التجول 
  • قطع خدمات الإنترنت المنزلي والمحمول
  • اعتمدت الشرطة مبدأ إطلاق النار على من تراه،

فجُرِحَ نحو 20,000 شخص وقُتِل المئات، وقدّرت بعض المصادر حصيلة القتلى بنحو 1,200 شخص، ولجأت حسينة إلى حلٍ أخير تمثّل في إلصاق الحراك بالمعارضة السياسية، أي الحزب الوطني البنغلاديشي والجماعة الإسلامية تحديداً.

وجادلت بأن القوى الإسلامية تحاول الانقلاب على حكومتها العلمانية، لكن هذا لم يكن حقيقياً، إذ لم تكن التظاهرات الحاشدة تخضع لتنظيم أو قيادة أي حزب سياسي معارض، بل كانت عفويةً بالكامل، لكن حسينة كانت تحاول إقناع الغرب أن يهب لنجدتها بإثارة مؤامرة انقلاب الإسلاميين.

ومع ذلك، فشل الرهان على الغرب وأصبحت حسينة بمفردها مع حلفائها، وفي مطلع أغسطس/آب، وقعت مذبحة شهدت قتل الطلاب بالرصاص في الشوارع أثناء مطالبتهم باستقالة حسينة.

وفقد 97 شخصاً على الأقل حياتهم، فكانت تلك المذبحة هي القشة التي قصمت ظهر البعير، فملأ البنغلاديشيون الشوارع وأجبروا رئيسة الوزراء على الهروب بالمروحية، رحلت حسينة بعد تدمير سمعتها وسمعة والدها بطل الحرب معها، حيث جرى تشويه تماثيل الشيخ مجيب الرحمن وتدميرها حول البلاد، وتحوّل التاريخ الطويل إلى غبار تذروه الرياح.

“بين النجاح والفشل”

يُعد التمرُّد قوةً دورية وظاهرةً متكررة تُحركها أسباب متشابهة بمرور الوقت، وقد أثار انهيار حكومة حسينة مشاعر الابتهاج، لكن تبعته موجة عنف ثانية.

  • سيطرت على العاصمة أعمال التخريب والنهب والهجمات ضد الأقليات ودور عبادتهم
  • يلوم المحتجون الأقليات -خاصةً الهندوسية- بسبب علاقاتهم السياسية الوثيقة بحسينة ورابطة عوامي
  • تتعرض الأقليات للاستهداف الآن لأنها كانت جزءاً من آلة القمع في الماضي
  • اندلاع اشتباكات جارية بين القوى المناهضة للحكومة وبين أنصار رابطة عوامي الحاكمة سابقا
  • تتركز غالبية تلك الاحتجاجات الثانوية في دكا، وفي جاتجام التي تضم أكبر موانئ بنغلاديش

وستتمثل أولى مهام الحكومة المؤقتة الجديدة في استعادة النظام والقانون وإعادة ثقة الجمهور في المؤسسات الفيدرالية، بينما ستعتمد الخطوات التالية على كيفية تطور الموقف، ومن المرجح إقامة انتخابات جديدة، لكن بعد استقرار الأوضاع في الشوارع، وإذا استمرت موجة العنف الثانوية دون رادع، فمن المحتمل أن تتعطل سلاسل النقل والإمداد المارة عبر جاتجام.

يُذكر أن بنغلاديش هي ثاني أكبر مصدر للملابس الجاهزة في العالم، وتشكل هذه الصناعة أكثر من 80% من صادراتها السنوية، كما تُدر عليها 16% من ناتجها المحلي الإجمالي.

وسيؤثر استمرار غياب الاستقرار بأي شكل في مدينة جاتجام الساحلية على الآفاق الاقتصادية للبلاد، وخاصةً صناعة المنسوجات، فهناك نحو 37 ألف حاوية عالقة في جاتجام بالفعل ولن يفيد هذا تجار التجزئة الأجانب مطلقاً، ويجب على الحكومة المؤقتة أن تنفذ ما ستقرره سريعاً.

إذ أفادت غرفة تجارة وصناعة المستثمرين الأجانب في بنغلاديش بأن حظر التجول، وقطع الإنترنت، والاحتجاجات كلّفت الاقتصاد نحو 10 مليارات دولار، وكلما طال أمد الاضطرابات واستمر فرض حظر التجوّل؛ زادت التكاليف على الاقتصاد.

كما يقول صندوق النقد الدولي إن احتياطيات النقد الأجنبي في بنغلاديش تتجه إلى الانخفاض من 27.8 مليار دولار اليوم، إلى 19 مليار دولار في 2025، وهذا انخفاض حادٌ خلال سنةٍ مالية واحدة، وفي المقابل، خفضت وكالة إس آند بي غلوبال التصنيف الائتماني لبنغلاديش، بحجة الانخفاض المستمر في احتياطيات النقد الأجنبي.

ومع تراجع الاحتياطيات الأجنبية، سيزداد الضغط على العملة المحلية، ما سيؤدي إلى خفض قيمتها بالتبعية، ومن المنظور الاقتصادي الكلي، يعني هذا أن بنغلاديش تتجه إلى ارتفاع معدلات التضخم وتكاليف الاستيراد، ولا شك أن خفض قيمة العملة هو أسوأ عقاب ممكن لاقتصادٍ قائمٍ على التصدير ويستورد المواد الخام لتصدير السلع النهائية.

وتستطيع حكومة بنغلاديش الجديدة إبرام صفقةً مع صندوق النقد الدولي، لكن الصفقة ستأتي بشروطٍ على الأرجح، إذ يؤدي التعامل مع صندوق النقد الدولي إلى إثارة الاضطرابات الاجتماعية كثيراً، لأن مقترحاته تنطوي على برامج اقتصادية مؤلمة للغاية عادةً.

وتأتي مثل هذه البرامج في وقتٍ يشعر فيه الناس بالإحباط من الاقتصاد بالفعل، أي إن الصفقة قد تؤدي إلى نتائج عكسية وتُجدِّد الاحتجاجات، ولهذا ليست هناك رغبة حقيقية لدى أي حكومة سابقة أو مستقبلية داخل دكا في التعامل مع الصندوق.

كما تُعد بنغلاديش من أكبر مصادر المهاجرين الدوليين أيضاً، إذ دفعت العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بملايين المواطنين للهجرة بحثاً عن فرص أفضل في الخارج، وينتهي المطاف بغالبيتهم في دول الخليج وجنوب شرق آسيا، وحتى أوروبا وأمريكا الشمالية.

وإذا عجزت بنغلاديش عن الخروج من مشكلاتها السياسية والاقتصادية، فقد يغادر ملايين المواطنين الآخرين البلاد، لكن هذا قد يُنهك المؤسسات السياسية في الدول المضيفة لا سيما حين نفكر في وضع الولايات المتحدة وأوروبا، أي إن ما يحدث في بنغلاديش قد يؤثر على الاضطرابات السياسية في أماكن أخرى عن غير قصد، وربما يفاقمها.

لكن مسائل الهجرة والاقتصاد ليست أهم من السياسة في الوقت الراهن، يُدير الجيش المشهد الآن كما فعل إبان الثورات السابقة، وربما يزعم قائد الجيش أنه يكترث لمصلحة الشعب البنغلاديشي، لكن نيته الحقيقية هي ضمان أن تستمر الحكومة المدنية المنتخبة المقبلة في خدمة مصالح الجيش، وليس العكس.

ومن الناحية المثالية، يرغب الجناح العسكري لبنغلاديش في الإبقاء على الوضع الراهن وعدم تطبيق أي إصلاحات كبرى، لكن غياب هذه الإصلاحات سيدفع البلاد إلى ثورةٍ جديدة خلال بضع سنوات على الأرجح، إذ يسهل السيطرة على شعب بلا أمل، بينما يستحيل احتواء شعب لديه أحلامه.