ملخص
● يمثل انتصار المعارضة رسالة مزعجة للنظام الإقليمي العربي، مفادها أن الوضع الإقليمي الراهن، لا يزال بالغ الهشاشة فضلا عن كونه محل رفض من قبل قوى الثورات التي لم تستسلم بعد. ويتقاطع “ردع العدوان” مع “طوفان الأقصى” استراتيجيا، ليؤكدا على أن المنطقة لن تشهد استقرارا قريبا، مالم تكن هناك معالجة لأسباب اضطرابها المديد.
● كشف “ردع العدوان” ضعف القبضة الإيرانية إقليميا، كنتيجة غير مخطط لها لمعركة طوفان الأقصى، ويعد هذا مؤشرا على ترابط الوضع الإقليمي وتفاعل مكوناته بصورة معقدة، تجعل من الصعب التحكم في تداعيات التطورات الجارية، خاصة كلما طال مداها الزمني. بينما يرسل التحرك التركي في سوريا رسالة مفادها أن أنقرة جاهزة لملء الفراغ الذي تتركه إيران إقليميا.
● يواجه مسار الانتقال السوري تحديات داخلية، أبرزها: (1) مدى نجاح المعارضة في الحفاظ على وحدة موقفها وتنسيقها وتوزيع الأدوار فيما بينها. (2) احتواء التباين المرجح بين المعارضة المنتصرة في دمشق، وبين المجموعات الكردية. (3) إحكام السيطرة على مؤسسات الحكم القديمة، وضمان عدم إعاقتها لعملية بناء نظام حكم جديد.
● خارجيا، تتمثل أبرز التحديات في مواقف الأطراف الداعمة للنظام، روسيا وإيران، وإلى أي مدى ستميل إلى التطبيع مع الوضع الجديد أو العمل على تقويضه. وبينما تبدو فرص روسيا أفضل؛ إذ يحتاج النظام الجديد إلى هامش واسع للاستفادة من تباين مصالح القوى الدولية، فإن خيارات إيران تبدو أكثر تعقيدا وهي على الأرجح ما زالت محل تشكل.
● على الرغم من المواقف الإيجابية التي عبرت عنها الولايات المتحدة، إلا إن من المبكر الجزم بانفتاحها على النظام الجديد. وفي ظل الوضع الإقليمي المرتبط بطوفان الأقصى، فإن مسألة أمن “إسرائيل” ربما تكون هي حجر الزاوية في تحديد موقف الغرب من نظام الثورة في دمشق.
● ستمضي خطوات النظام الجديد في دمشق في بيئة إقليمية يغلب عليها العداء. فباستثناء تركيا وقطر، تنظر دول المنطقة المؤثرة للنظام الجديد كمحصلة تهديدين رئيسيين: الثورات العربية والإسلاميين. وستوحد هذه النظرة على الأرجح مواقف أطراف إقليمية، من المتوقع أن تعمل بعضها بصورة متسقة معا لإجهاض الحكم الجديد في دمشق.
● لن يكون الانتقال السوري عملية خطية دون معوقات، نتيجة أهمية دمشق الجيوسياسية. وكما كانت سوريا، وعلى الأرجح ستظل، ساحة صراع بين دول متنافسة، فإنها الآن من المرجح أن تشهد صراعا بالوكالة بين قوى التغيير الشعبية في المنطقة وبين النظام الإقليمي العربي الرسمي.
مقدمة
في الساعات الأولى من صباح يوم الأربعاء 27 نوفمبر/تشرين الثاني، شنت فصائل المعارضة السورية، عملية عسكرية مفاجئة ضد قوات النظام السوري وحلفائه باسم “ردع العدوان”، هي الأولى من نوعها منذ اتفاق مارس/ أذار 2020. خلال اثني عشر يوما تالية، حققت قوات المعارضة مدعومة من تركيا انتصارات مذهلة، أفضت إلى إسقاط نظام بشار الأسد، الذي فار هاربا إلى موسكو إذ منحه الرئيس بوتين حق اللجوء الإنساني، فيما دخل قائد إدارة العمليات العسكرية في المعارضة السورية، أحمد الشرع (الملقب سابقا بالجولاني) يوم 8 ديسمبر/كانون أول إلى دمشق، وأعلن من الجامع الأموي أن “النصر الذي تحقق هو نصر لكل السوريين”، وتعهّد بأن الفصائل لن تتراجع وستواصل الطريق الذي بدأته في عام 2011، قائلا إن “المستقبل لنا”.
مشهد إقليمي جديد قديم
لا يمكن تجاهل مغزى انتصار قوات المعارضة السورية وإسقاط نظام بشار الأسد بعد كل هذه السنوات. فقد سيطر النظام السوري على مدينة حلب في ديسمبر/كانون أول 2016، أي قبل ثماني سنوات، وتبنت قوات النظام وحلفاؤها، خاصة من الميليشيات التابعة لإيران، نهجا عسكريا متوحشا ضد قوات المعارضة والمدنيين على حد سواء، وخلال السنوات الأخيرة طوى النظام الإقليمي العربي صفحة القطيعة مع نظام الأسد وتبنى إجراءات لإعادة دمجه والتسليم بالأمر الواقع. الآن، يمثل انتصار المعارضة رسالة مزعجة للنظام الإقليمي العربي، مفادها أن الوضع الإقليمي الراهن، والذي دافعت عنه حكومات عربية بشراسة عقب الثورات العربية، لا يزال بالغ الهشاشة فضلا عن كونه محل رفض من قبل قوى الثورات التي لم تستسلم وتعتبر أن تحديه ممكن.
في هذه النقطة يتقاطع “ردع العدوان” مع “طوفان الأقصى” استراتيجيا، ليؤكدا على أن المنطقة لن تشهد استقرار في الأجل القريب، مالم تكن هناك معالجة لأسباب اضطرابها المديد. وبنفس القدر الذي يمثلان فيه إلهاما لقوى التغيير في المنطقة، فإن كلاهما يحفز مخاوف الأنظمة العربية التي تشعر أنها مهددة وأن شبح موجات الثورات الشعبية لا يزال يطاردها بعد كل هذه السنوات.
تكشف عملية ردع العدوان حقيقة ضعف القبضة الإيرانية ليس في سوريا فحسب؛ بل في عموم المنطقة، كنتيجة غير مخطط لها لمعركة طوفان الأقصى وحرب غزة، والتي وضعت النفوذ الإيراني الإقليمي تحت استهداف إسرائيلي وأمريكي مكثف. يشمل ذلك الخسائر الواسعة التي تلقاها حزب الله والتي جعلته غائبا تقريبا عن الساحة السورية، والاستهداف المتواصل لضباط وخبراء الحرس الثوري والبنية التحتية اللوجستية الإيرانية في سوريا، وخطوط الإمداد القادمة من العراق عبر الأراضي السورية، فضلا عن تعرض الداخل الإيراني لتهديد شن هجوم إسرائيلي واسع تدعمه الولايات المتحدة.
ويمثل هذا التطور مؤشرا على مدى ترابط الوضع الإقليمي وتفاعل مكوناته بصورة معقدة، تجعل من الصعب التحكم في تداعيات التطورات الجارية بصورة دقيقة، خاصة كلما طال مداها الزمني. فقد كانت بعض دول المنطقة تشجع الاحتلال الإسرائيلي على إضعاف حزب الله وإيران، وعملت على إقناع نظام الأسد بالتخلص من النفوذ الإيراني، لكنّ محصلة ذلك خلقت فرصة مواتية لتحرك المعارضة السورية وتركيا.
سبق أن أشرنا إلى تقديرنا بأن التنافس الجيوسياسي التركي الإيراني هو الأكثر أهمية في المنطقة، وكانت المؤشرات ترجح أنه سيسجل وتيرة تصاعدية خاصة في العراق وأذربيجان وآسيا الوسطى. كانت خطوط الصراع في سوريا تبدو “مجمدة” يحميها الحضور الأمريكي والروسي وتوجه تركيا نحو التطبيع مع دمشق والانتشار الإيراني الميداني خاصة قوات حزب الله.
لكن مع الاستنزاف الروسي المتواصل في حرب أوكرانيا، وتقدير أنقرة بأن الأسد غير جاد في تطبيع العلاقات والتوصل لتفاهمات تفضي لإعادة اللاجئين وإنهاء الحرب مع المعارضة، فإن الضربات التي تلقتها إيران وحزب الله مثلت الحلقة الأخيرة من التطورات التي كسرت التوازنات السابقة، وجعلت من تحرك القوات على الأرض ممكنا وذي مغزى. ومن ثم فإن القرار التركي بالتحرك عسكريا في سوريا يمثل رسالة إقليمية أوسع من الملف السوري، مفادها أن أنقرة جاهزة وتسعى لملء الفراغ الذي تتركه إيران إقليميا.
قد لا تكون الولايات المتحدة سعيدة تماما بهذه التطورات؛ في ظل أنها استهدفت مناطق نفوذ حلفائها الأكراد غرب نهر الفرات، كما أن واشنطن لا تعتبر أن المعارضة السورية “الإسلامية” هي البديل المقبول لنظام الأسد. لكنّ واشنطن، كما “إسرائيل”، لديها مصلحة أكثر استراتيجية تتمثل في إضعاف إيران في سوريا بما يؤدي لقطع خطوط الإمداد عن حزب الله في لبنان كضرورة لاستكمال أهداف الحرب الإسرائيلية على لبنان وتحقيق أمن بعيد المدى للاحتلال إسرائيلي على جبهته الشمالية.
لذلك؛ ستوازن واشنطن بين الأمرين، الاستفادة من إبعاد النفوذ الإيراني ومراقبة سلوك النظام الجديد في دمشق، وستكون تحت ضغط من قبل حلفائها العرب، خاصة السعودية والإمارات ومصر والأردن، الذين يعتبرون المعارضة السورية مجرد “تهديد إسلامي” يجب التخلص منه، وكانوا يفضلون إعادة تأهيل الأسد وإدماجه عربيا ودوليا.
التحديات الأساسية
لا يزال هناك الكثير من الأمور الغامضة المفتوحة على سيناريوهات متعددة؛ وذلك نتيجة أساسية لعامل المفاجأة الذي عصف بحسابات كافة الفاعلين في الملف السوري، بما في ذلك روسيا وإيران والولايات المتحدة، وحتى تركيا وقيادة المعارضة السورية المسلحة، الذين بات عليهم التعامل مع واقع جديد له استحقاقات لا يتوفر لديهم بعد كافة الإجابات عليها.
ويواجه مسار الانتقال السوري تحديات سيتوقف عليها، وعلى تفاعلها المعقد مع بعضها، مآل المشهد الراهن، بعضها داخلي وبعضها خارجي:
أولا: أبرز التحديات الداخلية:
- مدى نجاح المعارضة في الحفاظ على وحدة موقفها وتنسيقها وتوزيع الأدوار فيما بينها. لا يشمل ذلك فقط الشراكة وتوزيع الأدوار بين المعارضة السياسية في الخارج والقيادة العسكرية في الداخل، ولكن أيضا بين المجموعات المسلحة نفسها التي أظهرت قدرا لافتا من العمل المشترك في عملية ردع العدوان. التحدي الأساسي هنا هو نجاح عملية التحول من حالة مجموعات ثورية مسلحة إلى مأسسة هذه القوات في جيش وطني جديد وأجهزة أمنية تحقق الاستقرار الداخلي، بدلا من أن تكون صراعات هذه المجموعات مصدر اضطراب وتوترات.
- احتواء التباين المرجح بين المعارضة المنتصرة في دمشق، بقيادة أحمد الشرع، وبين المجموعات الكردية، ممثلة في قوات سوريا الديمقراطية (قسد). إذ ليس من المرجح أن يكون هناك اتفاق قريب بين الجانبين على صيغة حكم مستقبلية توحد الأراضي السورية، وستعمل قسد على الضغط عبر أدوات قوتها المتمثلة في الدعم الأمريكي والسيطرة على حقول النفط.
- إحكام السيطرة على مؤسسات الحكم القديمة، وضمان عدم إعاقتها لعملية بناء نظام حكم جديد. فعلى الرغم من هشاشة بعض تلك المؤسسات، فإن بعضها يظل أقوى من الحالة التنظيمية لجبهة المعارضة المنتصرة، ومن ثم لا تزال قادرة على إثارة تحديات داخلية، بعضها له طابع أمني، والآخر سياسي وتنظيمي.
ثانيا: أبرز التحديات الخارجية
1.حلفاء النظام القديم (روسيا وإيران):
- على الرغم من فشل طهران وموسكو في وقف هجوم المعارضة وحماية نظام الأسد، إلا أن سوريا تظل مهمة بالنسبة للجانبين. وإذا كان عامل المفاجأة والظروف الخاصة بكل طرف منهما (حرب أوكرانيا، والحملة الإسرائيلية الأمريكية على إيران) تحد من قدرتيهما على ممارسة نفس التأثير السابق في سوريا، فإن مصالح الطرفين تجعلنا نتوقع أن تظل سوريا مهمة لهما، وأن يكون هناك تحرك لكلٍ منهما للحفاظ على بعض الحضور في مستقبل البلاد، رغم الشعور بالمرارة والغضب جرّاء التحرك التركي الذي قوّض نفوذهما في سوريا.
- تبدو فرص روسيا أفضل؛ إذ يحتاج النظام الجديد إلى الاحتفاظ بهامش واسع للاستفادة من تباين مصالح القوى الدولية، وهو ما يجعل روسيا مفيدة دوليا في مواجهة الضغوط الغربية المحتملة على دمشق. وعلى الرغم من أن روسيا كانت داعما رئيسا للنظام القديم، فإن الرأي العام السوري أقل عداءً لموسكو مقارنة بطهران التي يحمّلها السوريون الحظ الأكبر من جرائم الإبادة والتهجير. وفي ظل انهيار مقدرات سوريا العسكرية، فإن النظام الجديد قد يرى في وجود قاعدة روسية بعض الحماية المؤقتة ضد الاستهداف الخارجي.
- أما إيران؛ فسيكون عليها الاختيار بين طريقين، كلاهما يواجه صعوبات وتحديات. الطريق الأول، أن تتبنى نهجا عدائيا ضد النظام الجديد ومن ثم تعمل على تقويضه من الداخل عبر حلفائها القدامى في مؤسسات الحكم السورية، بما فيها العسكرية والأمنية، وعبر ميليشيات شيعية يمكن إعادة تنظيمها وتوجيهها إلى سوريا. لكن، يحد من هذا الاحتمال الاستهداف الإسرائيلي والأمريكي المتوقع لأي تحركات إيرانية جديدة في سوريا، فضلا عن مستوى الانهيار الفادح لمؤسسات النظام القديم العسكرية والأمنية. بالإضافة لأن إضعاف حزب الله في لبنان يحد بصورة كبيرة من قدرة إيران على إعادة التدخل بمستوى كبير في سوريا.
- الطريق الثاني، يتمثل في السعي للتطبيع مع النظام الجديد، والعمل على بناء تفاهمات ومصالح مشتركة على المدى الطويل. سيتطلب ذلك اعتراف إيراني “مذل” بجرائمها خلال الحقبة الماضية، وربما تقديم تعويضات للنظام الجديد بحيث تطوي صفحة دعم نظام الأسد. ولا توجد مؤشرات أن مثل هذا الاحتمال مرجحا، وإن كان من المحتمل أن تمضي فيه طهران بنسبة ما في ظل اعتبار خسارة سوريا تمثل هزيمة بعيدة المدى للاستراتيجية الإيرانية في المنطقة.
2.الولايات المتحدة والغرب و”إسرائيل”
- على الرغم من المواقف الإيجابية التي عبرت عنها الولايات المتحدة ودول أوروبية، إلا إن من المبكر الجزم بالانفتاح على النظام الجديد. فما زالت واشنطن في مرحلة تقييم الواقع الجديد، ويخيم عليها شكوك واسعة إزاء نوايا القيادة السورية الجديدة التي تصنفها على قوائم الإرهاب، وتعتقد أن مواقفها الإيجابية الراهنة ليست إلا مناورة مؤقتة. وفي ظل الوضع الإقليمي المرتبط بطوفان الأقصى، فإن مسألة أمن “إسرائيل” ربما تكون هي حجر الزاوية في تحديد موقف الغرب من نظام الثورة في دمشق. ولأن سوريا هي واحدة من دول الطوق، فليس من المتوقع أن تترك الولايات المتحدة و”إسرائيل” عملية بناء نظام حكم جديد، دون أن تكون هناك إجابات وضمانات واضحة إزاء موقف هذا النظام من “إسرائيل”، وإيران، وأمن الحدود السورية اللبنانية، ودعم حركات المقاومة الفلسطينية واحتمال تواجدها في سوريا الجديدة.
3.بيئة إقليمية يخيم عليها العداء
- لا شك أن النظام الجديد في دمشق ستمضي خطواته في بيئة إقليمية يغلب عليها العداء. باستثناء تركيا وقطر، فدول المنطقة المؤثرة تنظر للنظام الجديد كمحصلة تهديدين رئيسيين: الثورات العربية والإسلاميين. ستوحد هذه النظرة على الأرجح مواقف أطراف إقليمية مثل مصر والإمارات والسعودية والأردن و”إسرائيل”. ومن المتوقع أن تعمل بعض هذه الأطراف بصورة متسقة معا لإجهاض الحكم الجديد في دمشق.
- الدعم الخارجي الذي تتمتع به قوات (قسد) يمثل تحديا كبيرا لمسار الانتقال السوري. فبالإضافة للدعم الأمريكي الأساسي، ستكون قسد هي حليفة “إسرائيل” وأطراف إقليمية أخرى، خاصة الإمارات العربية المتحدة، كوكيل داخلي يوازن نفوذ “الإسلاميين” في دمشق. لا يهدد ذلك فحسب مسألة وحدة سوريا، ولكنّه يبقي على احتمال دعم عمليات عسكرية داخلية لتقويض السلطة الجديدة، خاصة بعد أن مارست الإمارات نفس السياسة في دول أخرى، بما في ذلك ليبيا والسودان واليمن.
- بالإضافة لذلك؛ فإن اقتصار النظام الجديد على الشراكة مع تركيا وقطر يزيد من المخاوف الإقليمية؛ فعلى الرغم من التطبيع التركي مع القوى العربية فإن هذه الدول من المؤكد أنها لن ترحب بخروج سوريا من مجال النفوذ الإيراني كي تنتقل ضمن مجال نفوذ تركي جديد. كما أن استمرار التنافس بين دول الخليج سيجعل من موقع قطر كداعم لنظام الثورة في دمشق محل استهداف من قبل السعودية والإمارات.
- في المقابل؛ فإن تركيا ستعمل على حشد بعض الدعم الإقليمي للنظام الجديد، أو في الحد الأدنى احتواء بعض المخاوف منه مستفيدة من اتصالاتها الوثيقة مع الولايات المتحدة والإمارات ومصر. وسيكون سلوك حكومة دمشق في الأسابيع القليلة القادمة إزاء دول المنطقة، مؤثرا في توجيه سياسة بعض تلك الدول وتحديد موقفها النهائي.
يلاحظ هنا أننا أغفلنا -عن عمد- مسائل مثل الوضع الاقتصادي، وانتظام الخدمات الحكومية المتنوعة، ومكافحة الجريمة…إلخ، باعتبار أن هذه الأمور ليست مهمة بذاتها لتقرير مستقبل حكومة الثورة في دمشق، لكنّها ستكون عرضة للاستخدام من قبل أطراف محلية أو خارجية. لذلك؛ ودون أن يعني هذا إغفالها، فإنها لا تمثل في تقديرنا مسائل استراتيجية، مقارنة بالتحديات المتمثلة في مصالح الأطراف الخارجية واحتمالات تدخلها، والتباينات بين المجموعات المحلية ومدى القدرة على احتوائها.
خاتمة
ما زال استقرار منطقة الشرق بعيد المنال؛ إذ ستواصل قوى المنطقة سعيها المتواصل –خاصة منذ انطلاق الثورات العربية– لتحدي أسس الاجتماع السياسي في المنطقة السائدة تقريبا منذ نهاية الحرب العالمية الأولى. في المقابل؛ تتمسك الدول والأنظمة الحاكمة، بالدفاع عن الوضع الراهن، مدعومة في الغالب من الولايات المتحدة والقوى الأوروبية التي لا يزال يغلب على تقديرها أن مصالحها تقتضي الحفاظ على الوضع الإقليمي الراهن، والدفاع عن “استقرار” المنطقة، حتى لو كان هذا الاستقرار يقتصر على المفهوم الأمني/القمعي الذي يستهدف السيطرة على الأمور والتحكم في تطورها.
لذلك؛ فإن الانتقال السوري لن يكون عملية خطية تمضي دون معوقات أو تحديات. إذ تمثل سوريا عربيا، أهمية جيوسياسية خاصة في المنطقة ربما لا تضاهيها إلا مصر. وكما مثل الصراع الروسي التركي الإيراني على النفوذ في سوريا ملمحا بارزا لأهمية البلاد الجيوسياسية، فإن سرعة التحرك الإسرائيلي عقب انهيار نظام الأسد تشير إلى ثقل وزن الجغرافيا السورية في معادلة الصراع الواسعة في فلسطين المحتلة. وهو نفس الثقل الشعبي والمعنوي الذي تتمتع به سوريا عربيا منذ تشكل النظام الإقليمي العربي، ومن ثم فإن نجاح ثورتها هو حدث إقليمي لن تقف تداعياته الشعبية والسياسية على حدود الجغرافيا السورية.
وكما كانت سوريا، وعلى الأرجح ستظل في الأجل القريب، ساحة صراع بالوكالة بين الدول المتنافسة، فإن سوريا الآن من المرجح أن تكون أيضا ساحة صراع بالوكالة بين قوى التغيير الشعبية في المنطقة وبين النظام الإقليمي العربي الرسمي، وهو صراع قد تحدد نتائجه مستقبل المنطقة الذي ما زال قيد التشكل منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية وانهيار نظام الإجماع الإقليمي.