تعرف على أبرز المتغيرات والتأثيرات التي خلفتها جائحة كورونا على جغرافيا النظام الدولي والقوى العظمى
تحميل الإصدارتقديم| لن تأذن جائحة فيروس كورونا بظهور نظام دولي جديد كليّاً، لكنَّها ستغيره على ثلاثة أصعدة مهمة أشار لها تقرير صدر في مطلع ابريل الماضي لـ Economist Intelligence Unit. إذ ستُبرِز على السطح تطوراتٍ لم تنل حظها من التركيز من قبل، مثل الطريقة التي أسَّست بها الصين مجالات نفوذ في مناطق لا تحظى باهتمامٍ كبير في العالم. وستُمثِّل عامل تسريعٍ للاتجاهات الجيوسياسية الحالية، لاسيما التنافس المتنامي بين أمريكا والصين والتحول في ميزان القوة الاقتصادية من الغرب إلى الشرق. وأخيراً، من المرجَّح أن تكون عاملاً مُحفِّزاً لتغييراتٍ يصعب التنبؤ بها حالياً، في كلٍّ من العالم النامي والمتطور، بدءاً من مستقبل الاتحاد الأوروبي وحتى دور روسيا والقوى المتوسطة الأخرى.
اشتداد حدة التنافس بين القوى العظمى
- تميل المنافسات العالمية في أوقات الأزمات إلى الاشتداد لا الانحسار. وأدَّت أزمة فيروس كورونا إلى مزيد من التدهور في العلاقات السيئة بشكل مزمن بالفعل بين الصين والولايات المتحدة. وبالوضع الحالي، لا يبدو أنَّ هناك احتمالاً كبيراً لإمكانية إصلاح الضرر الذي لحق بالعلاقة بينهما على المدى القصير، وسيفاقم الوباء الخلافات الأمريكية-الصينية طويلة الأمد، وهو الأمر الذي يُقوِّض أي استقرار ربما تحقَّق نتيجةً لـ”المرحلة الأولى” من الاتفاق التجاري الهش الذي وُقِّع في يناير/كانون الثاني الماضي.
- وفي خضم جائحة كورونا، اندلعت التوترات وتزايد التهديد والوعيد بين الصين والولايات المتحدة في بحر الصين الجنوبي. لكنَّ وباء كورونا ليس السبب في الصعوبات التي تمر بها العلاقات الأمريكية الصينية؛ بل هو فقط سيزيد من تسارع الاتجاهات القائمة منذ سنوات في ظل تنافس البلدين على الهيمنة الاقتصادية.
تحول ميزان القوى الدولي نحو الشرق
- ستُسرِّع الجائحة التحول في توازن القوى الدولي من الغرب إلى الشرق. وقد يكون الأثر السلبي للجائحة أكبر على المدى الطويل على اقتصادات أوروبا والولايات المتحدة المتطورة. وسيكون من الصعب التخلي عن الإجراءات النقدية والمالية الاستثنائية التي تتخذها تلك الدول حالياً لدعم الشركات والأسر. وهناك مخاطرة بألا تُرفَع كثير من تلك التدخلات بصورة كاملة، الأمر الذي يزيد من فرص حدوث أزمات ديون سيادية في الاقتصادات المتطورة على المدى المتوسط.
- في الوقت نفسه، ستكون الصين، بحكم كونها أول بلد يخرج من الأزمة، هي أول دولة على طريق التعافي، وستوجه كافة الموارد لبدء تشغيل الاقتصاد الصيني. لكنَّها ستواجه تحديات للتخطيط لعملية تعافٍ سريعة في ظل ضعف الطلب العالمي، وهي تواجه بالفعل تحديات جدية متوسطة المدى، ليس أقلها تراكم ديونها الكبيرة. مع ذلك، من المستبعد أن تمنع الجائحة إعادة ضبط توازن القوى الاقتصادي الدولي من الغرب إلى الشرق.
الصين قد تبرز كلاعب دولي أكبر
- يُرجَّح أن تخرج الصين من الأزمة لاعباً دولياً أكبر. وتحاول الصين جاهدةً إصلاح الضرر الذي لحق بسُمعتها بسبب تخبُّطها في بداية تفشّي فيروس كورونا، لاسيما من خلال تقاسم الخبرة الطبية، وإرسال المساعدات، وتغطية بعض النقص في الإمدادات الطبية حول العالم. وستسعى الدولة أيضاً إلى الاستفادة من إخفاق الولايات المتحدة في التحرك بحسم في بداية الأزمة، والاستعداد لما كان سيحدث حتماً بمجرد انتشار المرض حول العالم.
- وسيتعين على الصين التعامل مع التشكيك من جانب بقية العالم في استجابتها الأولية وافتقادها للشفافية، الأمر الذي سمح للفيروس بالانتشار بسرعة حول العالم. وستصبح العلاقات مع الولايات المتحدة، على وجه الخصوص، وأوروبا الغربية أكثر صعوبة.
- لكن يبدو من المرجَّح بشدة أن تؤدي الأزمة إلى بلورة تطور مجالات النفوذ للصين في أجزاء من إفريقيا وأوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية وجنوب شرقي آسيا. فأمام الصين الآن فرصة لتوسيع نفوذها من خلال تقديم الخبرة والدعم لأكثر البلدان تضرراً من الجائحة. وليس من الصعب على سبيل المثال تصوُّر أن تطلق الصين “مبادرة حزام وطريق” طبية في بعض البلدان الإفريقية، لتعزيز سُمعتها على الساحة الدولية وحماية استثماراتها هناك. وستصبح بعض تلك الأماكن ساحات تنافس وصراع بين القوى العظمى.
هل سيتراجع دور القيادة الدولية للولايات المتحدة؟
- يمكن القول بأنَّ سياسة “أمريكا أولاً” التي ينتهجها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد أدَّت بالفعل إلى تراجع في القوة الأمريكية عالمياً، في ظل شعور كثير من البلدان على نحوٍ متزايد، بأنَّ الولايات المتحدة ليست شريكاً موثوقاً يُعوَّل عليه (ما تزال الولايات المتحدة في وضع القوى المهيمنة عالمياً بالنظر إلى نفوذها الاقتصادي والعسكري).
- لكنَّ التراجع الأمريكي على الساحة العالمية منح الصين فرصة لملء فراغاتٍ معينة، لاسيما بعدما أجبر الوباء الولايات المتحدة على التركيز على الداخل في الوقت الراهن. مع ذلك، سيكون من الخطأ التقليل من شأن القوة والقيادة الأمريكية، الواعية -بلا شك- بنوايا الصين ومن المرجح أن تقاومها. فعلى الصعيد العالمي، يوجد سباق لتطوير لقاح: قد تبرز هذه كساحة محتملة للتعاون، وضمن ذلك بين الصين والولايات المتحدة، لكنَّها كذلك قد تصبح وسيلة أخرى ليؤكد بها أحد الطرفين سطوته.
الاتحاد الأوروبي سيخرج من الأزمة أضعف
- أدَّى الإخفاق في حشد استجابة أوروبية موحدة للأزمة وميل الدول الأعضاء إلى الاهتمام بمواطنيها، إلى توجيه ضربة للاتحاد الأوروبي؛ فلم تتصرَّف الدول الأعضاء بصورة متناغمة حين اندلعت الأزمة في أوروبا، بل تصرَّفت بصورة أحادية، فأغلقت الحدود، وعلَّقت حركة التنقل الحر، وأوقفت وسائل النقل البينية دون تنسيق. كان غياب التضامن الأوروبي مذهلاً؛ فجرى تجاهل مناشدة إيطاليا الحصول على المساعدة في البداية من جانب الدول الأوروبية الأخرى، التي علَّقت أيضاً تصدير الإمدادات والمعدات الطبية، ما سمح للصين بالتدخُّل لتقديم المساعدة ومن ثَمَّ تعزيز نفوذها العالمي.
- وقدَّم الاتحاد الأوروبي متأخراً مزيداً من المساعدات للدول الأعضاء التي تعاني والدول الطامحة إلى عضوية الاتحاد في غرب البلقان، لكن الضرر كان قد حدث بالفعل، ومن المرجح أن يستمر الاستياء طويلاً. ومع انتشار الأزمة في أنحاء القارة، طفت على السطح انقسامات متصاعدة داخل التكتل بين الشمال والجنوب، والشرق والغرب، وغيرها. وستؤدي أزمة كورونا، التي تلت أزمات الديون السيادية، والمهاجرين، وبريكست (خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي)، إلى إلحاق مزيدٍ من الضرر بالاتحاد الأوروبي.
القوى الناشئة ستسعى للاستفادة من الأزمة
- سعت القوى الإقليمية مثل روسيا وتركيا وإيران وغيرها في السنوات الأخيرة إلى الاستفادة من حالة التشظي المتزايدة بالنظام الدولي من تصرفات تعزز هذه النزعة القيادية في مناطق نفوذ مباشر لتلك الدول.
- بالنسبة لبعض هذه الدول، يُمثِّل الوباء فرصة لتعزيز حضورها الإقليمي والدولي. إذ أرسلت روسيا مساعدات عسكرية وطبية إلى إيطاليا على متن طائرات ووُصِفَت بأنَّها “من روسيا مع الحب”، في لفتة تحمل إهانة للاتحاد الأوروبي والشركاء التقليديين الآخرين، وكذلك فعلت تركيا مع دول أوروبية عديدة.
- من المُرجَّح أن تصيب أزمة فيروس كورونا هؤلاء اللاعبين الإقليميين بقوة، وقد يحد هذا من قدرتهم على مد نفوذهم في المدى القصير. لكنَّ الجائحة ستُسرِّع من إعادة تشكّل النظام الدولي ومراكز القوة فيه، الأمر الذي يفيد القوى الناشئة مثل الصين، وربما القوى الأخرى أمثال روسيا وتركيا.