استشراف حالة الدولة
- تشهد الحالة السياسية الجزائرية استقراراً ملموسا سيمتد أثره على المدى القريب، مدفوعاً بالوفرة المالية والفائض الاقتصادي الذي حققته الحكومة بفعل ارتفاع أسعار النفط والغاز، وفي ظل ارتفاع الإنفاق الحكومي على برامج الدعم الاجتماعي، ليس من المرجح اندلاع احتجاجات واسعة على مستوى البلاد خلال الفترة المقبلة، لاسيما أن السلطات شددت سيطرتها على المجتمع المدني، وزادت من حضورها وسيطرتها على الإنترنت ووسائل الإعلام.
- سيؤدي ارتفاع أسعار الطاقة إلى زيادة احتياطيات النقد الأجنبي لأول مرة منذ عام 2013، وسيكون لدى السلطات حيزا ماليا أكبر لتحفيز النمو الاقتصادي، ومن المتوقع أن يشهد الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي نمواً قوياً بنسبة تُقدر بـ 4٪، بسبب الزيادة في كل من الاستثمار والإنفاق الحكومي نتيجة للسياسة المالية التوسعية، وعلى الرغم من تحقيق الصادرات غير النفطية رقما قياسيا، إلا أن الاعتماد المزمن على عوائد النفط والغاز سيظل في المدى القريب.
- أسهمت أزمة الطاقة العالمية في تحسن علاقة الجزائر بعدد من دول الاتحاد الأوروبي، وستعمل الجزائر على الاستفادة من هذا في كبح مواقف هذه الدول تجاه قضية الصحراء، كما ستعمل على موازنة علاقتها مع الدول الأوروبية بحيث لا تكون على حساب العلاقة مع روسيا كحليف سياسي وعسكري، ومن المتوقع أيضاً أن يتسع نطاق علاقات الجزائر مع الصين، حيث تستفيد الجزائر من الاستثمارات الصينية الكبيرة في مشاريع البنية التحتية المدنية.
- سيواصل الرئيس “تبون” سياسة إقليمية نشطة ومبادرة لاستعادة وتوسيع نفوذها السياسي والأمني الإقليمي، ليس فقط في شمال أفريقيا، ولكن أيضا عربيا وفي منطقة الساحل، كما ستظل العلاقات مع المغرب متوترة للغاية بسبب المواقف المتباينة بشأن الصحراء الغربية وتطبيع العلاقات مع “إسرائيل”، وبينما سيظل الصراع العسكري المباشر بين الطرفين مستبعدا في المدى المتوسط، ستواصل الجزائر دعمها لجبهة البوليساريو بما يضمن عدم تغيير الوضع في الصحراء.
- خصصت الحكومة الجزائرية لعام 2023، أكبر موازنة يحصل عليها الجيش الجزائري منذ الاستقلال؛ لتواكب مساعي الحصول على معدات ومنظومات متطورة من التسليح، في ظل سباق تسلح واسع مع المغرب، وتعمل السلطات الجزائرية بالاستعانة بضباط مخضرمين على إعادة هيكلة لأجهزة المخابرات لمواكبة التهديدات الداخلية والخارجية على حد سواء.
- من غير المحتمل اندلاع عنف سياسي في البلاد؛ حيث يتجنب المجتمع المدني والقوى السياسية وأجهزة الأمن احتمالية تجدد دوامة العنف كما حدث في التسعينيات، وإثارة تصعيد مزعزع للاستقرار داخل البلاد.
الواقع السياسي
- تشير التوقعات إلى أن الحالة السياسية في الجزائر ستشهد استقراراً ملحوظاً خلال الفترة المقبلة، وسيحافظ الرئيس “عبد المجيد تبون” على منصبه الرئاسي، وفي حال حصل تغيير فإنه سيبقى محكوماً بتوجهات المؤسسة العسكرية التي ستظل تمثل مرجعية القرار السياسي في البلاد.
- منذ الانتخابات الرئاسية في عام 2019، عزز الرئيس “تبون” سلطاته بدعمٍ من الجيش، ومن المحتمل أن يفوز في الانتخابات المقرر إجراؤها في ديسمبر/كانون أول 2024، فيما أبرزت الانتخابات البرلمانية في يونيو/حزيران 2021 استمرار حالة تراجع الثقة في النظام السياسي؛ حيث قاطعت أحزاب معارضة العملية الانتخابية، وبلغت نسبة المشاركة 23٪ فقط، كما حافظ الحزبان المواليان للنظام، وهما جبهة التحرير الوطني (105 مقعدا) والتجمع الوطني الديمقراطي (57 مقعدا) على موقف قوي نسبيًا، فيما سجل الإسلاميون حضورا ملموسا كأكبر ثاني حزب في البرلمان ممثلا في حركة مجتمع السلم (64 مقعدا)، بينما حاز المستقلون على (78 مقعدا).
- سعى الرئيس “عبد المجيد تبون” إلى إضافة وجوه شابة إلى فريقه، لكنه رغم ذلك أصبح مكتبه أصغر من أي وقت مضى، وليس لديه سوى عدد قليل من الموظفين للاعتماد عليهم، كما أعلن “تبون” منذ مجيئه عن رؤية لتنفيذ إصلاحات وتطوير مؤسسات الدولة، لكنه أصبح محكوماً بالتوازنات الداخلية ومحاولة الاستدراك على أداء الحكومة الجزائرية، عدا عن تقاسمه الصلاحيات والسلطات مع المؤسسة العسكرية.
- تبرز شخصية مستشار رئيس الجمهورية للشؤون القانونية والقضائية، “بوعلام بوعلام”، باعتباره المستشار الأكثر نفوذا في مكتب الرئيس؛ وذلك لخبرته السابقة في التعامل مع الجيش، حيث عمل في فترة “بوتفليقة” مع المؤسسة العسكرية على أساس يومي، وفي كثير من الأحيان دخل في صراع مع قيادته، كما أنه يستخدم مهاراته القانونية لمساعدة “تبون” على متابعة العديد من دعاوى مكافحة الفساد المعلقة ضد شخصيات بارزة.
- كما تبرز شخصية المستشار السياسي “عبد الحفيظ اللهوم”، الذي تقاسم مهام محورية مع “حميد لوناوسي” وزير النقل السابق والذي يتمتع بقاعدة قبلية قوية، وجرى تعيينه مستشارًا مسؤولاً عن المنظمات غير الحكومية الوطنية والدولية في يونيو/حزيران 2021، وهو يقضي معظم وقته في التواصل مع أعضاء الحركة الأمازيغية الذين لديهم استعداد جيد تجاه الحكومة.
- الموظف الآخر من الوزن الثقيل في مكتب “تبون” هو مستشار الدفاع والأمن “بومدين بن عتو”، الذي تم تعيينه في مارس/آذار 2021 ليحل محل “عبد العزيز مجاهد”، الذي اعتُبر قريبًا جدًا من قائد الجيش “شنقريحة”، وجود “بن عتو”، غير البارز، يسمح للرئيس بمراقبة المؤسسة العسكرية التي يحاول، مثل سلفه، الاحتفاظ بهامش معين للمناورة معها.
- الرئيس “تبون” سبق أن قرر القيام بسلسلة من الإصلاحات شديدة الحساسية بالاعتماد على رئيس وزرائه “أيمن بن عبد الرحمن”، المسؤول عن إحداث تحول واسع في وزارة المالية، وكلف “تبون” رئيس ديوانه “عبد العزيز خلف” بمهمة التعامل مع أصحاب العمل والنقابات، ومع ذلك؛ فإن بعض القضايا الحساسة مثل إلغاء الدعم عن المنتجات الأساسية من المرجح أن تظل إلى حد كبير بعيدًا عن أيدي الرجلين وستتناولها في النهاية أجهزة الأمن، واستخبارات الجيش.
- في 9 سبتمبر/أيلول الماضي، أعلن “تبون” عن تعديل وزاري شمل ست وزارات من أصل 30 وزارة، حيث بقي رئيس الوزراء “أيمن بن عبد الرحمن” في منصبه بعد ترقيته من وزارة المالية لقيادة الحكومة في يونيو/حزيران، ويبدو أن التعديل استهدف تحسين أداء بعض الحقائب الوزارية، لكن تبقى احتمالية إجراء تعديل حكومي أوسع قائمة، وربما شمل تغيير رئيس الوزراء في حال زاد الاستياء الشعبي مستقبلا، لاسيما إذا شهدت أسعار النفط تراجعاً.
- أبقى “تبون” على وزير الشؤون الخارجية والتعاون الدولي “رمطان لعمامرة”، في منصبه لدوره المحوري على صعيد السياسة الخارجية، خاصة تحضيرات القمة العربية التي عقدت في 2 نوفمبر/تشرين ثاني الجاري، والتي أعدت لها الجزائر لتعزيز أوراق حضورها إقليمياً، ولمواجهة الدعم المتزايد لموقف المغرب بشأن الصحراء الغربية. دور “لعمامرة” تكلل مؤخرا بنجاح انعقاد الحوار الوطني بين الفصائل الفلسطينية.
- من المستبعد أن يغير التعديل الوزاري الاتجاه العام للسياسات الحكومية، خاصةً على صعيد الإنفاق الاجتماعي السخي الذي تحاول من خلاله الحكومة إضعاف تأثير التضخم المرتفع على الأسر والشركات للتخفيف من الاستياء الشعبي، وذلك من خلال زيادة دعم المواد الغذائية، وتقديم بدل بطالة شهري جديد يشمل حاليا أكثر من مليون جزائري، وخفض الرسوم الجمركية على السلع الاستهلاكية، وخفض ضريبة الدخل، وزيادة أجور العاملين في القطاع العام.
- ومع إظهار الجهود المبذولة لتنويع الاقتصاد كأولوية حكومية رئيسية، إلا أنه من المرجح استمرار النخبة السياسية والعسكرية إعطاء الأولوية للحفاظ على الاستقرار وضمان الامتيازات، على حساب الإصلاحات الهيكلية، لذلك؛ من غير المتوقع اندلاع احتجاجات واسعة على مستوى البلاد خلال الفترة المقبلة، لاسيما أن السلطات شددت سيطرتها على المجتمع المدني من خلال سيطرتها على الإنترنت ووسائل الإعلام، بالتوازي مع زيادة مستوى الدعم الاجتماعي والإنفاق على الرعاية الاجتماعية لإجهاض مبررات الحركة الاحتجاجية.
الحالة الاقتصادية
- الجزائر هي أكبر مورد للغاز الطبيعي في شمال إفريقيا إلى أوروبا، حيث تمد أوروبا بنحو 11%من احتياجاتها من الغاز، كما تعد الجزائر مورداً رئيساً لإيطاليا وإسبانيا، باستخدام خط الأنابيب “ترانسميد” الذي يربط الجزائر بإيطاليا، وخط “ميدغاز” الذي يربط الجزائر بإسبانيا، فلدى الجزائر أيضًا محطتان عاملتان لتصدير الغاز الطبيعي المسال.
- ولكن رغم التوقعات الإيجابية لنمو قطاع الغاز الطبيعي الجزائري، فقد انخفضت صادرات الغاز الطبيعي الجزائري بنسبة ملحوظة بلغت 12% على أساس سنوي خلال الشهور التسعة الأولى من عام 2022، بسبب التوترات المستمرة مع إسبانيا، والتي أدت إلى انخفاض صادرات الغاز إلى الأخيرة، بالإضافة إلى تأخر في الإنتاج بسبب مشاكل فنية وتراجع في تطوير الحقول والدفع باستثمارات جديدة.
- تتوقع “فيتش سوليوشنز” أن تسجل الجزائر فائضا في الحساب الجاري بنسبة 3.6٪ من الناتج المحلي الإجمالي، على خلفية ارتفاع أسعار النفط والغاز، كما سيؤدي ارتفاع أسعار الطاقة إلى زيادة احتياطيات النقد الأجنبي للمرة الأولى منذ عام 2013.
- تشير هذه المعطيات إلى أن الاقتصاد الجزائري سيستفيد من ارتفاع أسعار الطاقة في السنوات القادمة حيث سيكون لدى السلطات حيزا ماليا أكبر لتحفيز النمو الاقتصادي، ومن المتوقع أن يشهد الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي نمواً قوياً بنسبة 3.4٪ في عام 2022، وفقاً لتوقعات “فيتش سوليشنز”، لكن “وحدة معلومات الإيكونيميست” تتوقع نموا يصل إلى 4٪، بسبب الزيادة في كل من الاستثمار والإنفاق الحكومي نتيجة للسياسة المالية التوسعية.
- ويشير آخر تحديث اقتصادي للجزائر أصدره البنك الدولي إلى أن القطاعات غير النفطية في الجزائر تعافت إلى مستويات ما قبل الوباء في عام 2022، حيث تستأنف الجزائر عملياتها التجارية مع إسبانيا بعد أن أعلنت الجمعية المهنية للبنوك والمؤسسات المالية (ABEF) في 29 يوليو/تموز أنها سترفع القيود المفروضة على العمليات المصرفية للتجارة الخارجية مع الدولة الأوروبية.
- من الضروري الإشارة إلى أن الاقتصاد الجزائري يعاني من عدم تنوع مصادر الدخل الرئيسة؛ حيث لا يزال الاعتماد بشكل أساسي على موارد الطاقة، والتي تمثل 96٪ من إجمالي صادرات البلاد، و40٪ من إيرادات الميزانية، وخلال عام 2022 تخطت صادرات الجزائر غير النفطية 6 مليارات دولار بنهاية نوفمبر/تشرين ثاني، وهو أعلى رقم في تاريخ البلاد منذ الاستقلال، لكن في المقابل؛ تتوقع الحكومة تحقيق مداخيل من صادرات النفط والغاز تتجاوز 50 مليار دولار نهاية 2022، وهو مؤشر حاسم على أن الاعتماد الرئيسي على عوائد الطاقة سيظل مزمنا في المدى القريب.
- وعلى الرغم من زيادة عائدات تصدير النفط والغاز (أكثر من 50 مليار دولار متوقعة في 2022 مقابل 35 مليار دولار في 2021) ستؤدي لتحسن الاحتياطيات على المدى القصير، فإن الحكومة لن تعتمد تنفيذ إصلاحات هيكلية يحتاجها الاقتصاد وستواصل الاعتماد على احتياطاتها الأجنبية لدعم الإنفاق الاجتماعي الذي يمثل أولوية سياسية.
- أقرت الحكومة الجزائرية موازنة عام 2023 بقيمة 98 مليار دولار، وهي أضخم موازنة في تاريخ الدولة، مدفوعة بتزايد الإنفاق الدفاعي والحرص على مواصلة الإنفاق الاجتماعي، لكنّ مستويات الإنفاق المرتفعة هذه غير مستدامة، مما يعرض الجزائر لاضطرابات محتملة ذات دوافع اقتصادية وسياسية في آفاق تمتد من عام إلى ثلاث سنوات، بمجرد أن تسعى إلى ضبط أوضاع المالية العامة، وفي المقابل؛ توفر مستويات الاقتراض الحكومي المنخفضة مزيدًا من الوقت قبل أن تجد البلاد نفسها في ضائقة مالية.
- من المؤشرات الاقتصادية المهمة أيضاً؛ مستوى التضخم الذي قفز إلى متوسط يقدر بـ 6.7٪ في عام 2021، ومن المرجح أن يرتفع متوسط التضخم إلى 12.4٪ في عام 2022، بسبب ارتفاع أسعار القمح وارتفاع متوسط أسعار الغذاء العالمية، مع ارتفاع معدلات التضخم، قد يبدأ بنك الجزائر في تشديد السياسة النقدية اعتبارًا من نهاية عام 2022، لاحتواء انخفاض قيمة العملة وكبح التضخم.
العلاقات الخارجية
- عززت الحرب الروسية الأوكرانية العلاقات بين الجزائر وأجزاء من الاتحاد الأوروبي؛ حيث يسعى الاتحاد لتقليل اعتماده على واردات الطاقة الروسية وتنويع مصادره للحصول على الطاقة، لذلك؛ تعتزم الشركات الأوروبية زيادة استثماراتها في قطاع النفط والغاز الجزائري.
- ومع ذلك؛ فإن الخلاف مع إسبانيا حول قرار الأخيرة بدعم الطموحات المغربية الإقليمية بشأن الصحراء الغربية تشكل مخاطر سلبية على هذه العلاقة، ومن غير المرجح أن يتم حلها في المدى القصير. في المقابل، عززت الجزائر شراكتها مع إيطاليا، التي وقعت اتفاقا لتعزيز إمدادات الغاز مرة أخرى في أبريل/نيسان. وبالمثل؛ سعت ألمانيا وفرنسا مؤخرًا إلى تحسين العلاقات مع الجزائر لأن أمن الطاقة لا يزال يمثل قضية رئيسية للبلدين.
- قطعت الجزائر العلاقات الدبلوماسية مع المغرب في أغسطس/آب 2021 وقررت عدم تجديد عقد تصدير الغاز إلى إسبانيا عبر خط الأنابيب المغاربي الأوروبي، الذي يُستبعد إعادة تشغيله على المدى القصير، وعلى الرغم من التحول الأخير في الموقف الإسباني بشأن الصحراء الغربية في مارس/آذار الماضي، إلا أن الدول الأوروبية ستكون أكثر حذرا في دعم خطة المغرب للحكم الذاتي لتجنب استعداء الجزائر.
- وسط ذلك ستعمل الجزائر على موازنة علاقاتها مع دول الاتحاد الأوروبي بحيث لا تكون على حساب العلاقة مع روسيا التي تنظر الجزائر لها باعتبارهاً حليفاً سياسياً وعسكرياً ومورداً رئيساً للسلاح. وبرزت دعوات أمريكية، أخيراً لفرض عقوبات على الجزائر بسبب العلاقات مع روسيا، لاسيما على صعيد الصفقات الدفاعية، لكن ليس من المتوقع أن يثني هذا الجزائر عن تعزيز العلاقات مع روسيا.
- ومن المتوقع أيضاً أن يتسع نطاق علاقات الجزائر مع الصين، حيث تستفيد الجزائر من الاستثمارات الصينية الكبيرة في مشاريع البنية التحتية المدنية، وفي قطاع الطاقة والتعدين، والتي تدعم حاجة الصين إلى الطاقة والمواد الخام، ومن المرجح أيضًا أن تحصل الجزائر على بعض التمويل الأجنبي من الصين.
- ستظل العلاقات مع المغرب متوترة للغاية؛ بسبب الصراع حول الصحراء الغربية، والذي اتخذ أبعادا أكثر تعقيدا منذ تطبيع العلاقات المغربية مع “إسرائيل” وتنامي التعاون الأمني والعسكري بين الجانبين، مع ذلك؛ فإن الصراع العسكري المباشر بين الطرفين غير مرجح على المدى المتوسط.
- تتسم توجهات السلطات الجزائرية بمنحى أكثر حزما في سياستها الخارجية، لتعزيز نفوذها الإقليمي في مواجهة ما تراه تهديدات ومساعي فرض واقع بخصوص قضية الصحراء، وهو ما ظهر سياسات الرئيس “تبون” الذي يعمل جاهداً على تعزيز العلاقات الدبلوماسية الدولية وممارسة أدوارا إقليمية أكثر مبادرة، واستعادة دور الجزائر الإقليمي، خاصة السياسة الخارجية التاريخية القائمة على دعم “صراعات ضد الكيانات الاستعمارية”، ويتجسد ذلك في دعم الجزائر القوي لاستقلال الصحراء الغربية والموقف تجاه فلسطين.
- زار “تبون” مصر وقطر وتركيا وإيطاليا في عام 2022، بينما استضاف زيارات رسمية للرئيس الفرنسي “ماكرون”، ووزراء خارجية كل من روسيا والولايات المتحدة إلى جانب رؤساء حكومات آخرين من فنزويلا وإيطاليا وتونس، كما تدعم السلطات الجزائرية التدابير الدولية الجارية لتعزيز المصالحة في ليبيا ومالي، وتعميق التعاون الإقليمي مع دول الساحل بشأن القضايا الأمنية.
- تعزز السياسة الخارجية الجزائرية الحازمة موقف الحكومة محليًا، وهو ما يؤدي أيضًا إلى تحسن نظرة الجزائريين إلى رئيسهم، ويساعد في تقليل مخاطر الاحتجاجات على المدى القصير، كما أن ممارسة البلاد أدوار إقليمية مبادرة، خاصة جهود المصالحة الفلسطينية، تعزز من الرواية الوطنية حول استعادة البلاد دورها التاريخي في المجال العربي.
- التقى الرئيس “تبون” خلال مايو/أيار الماضي بنظيره التركي “رجب طيب أردوغان” في أنقرة لتعزيز التعاون، ومن المرجح أن تكتسب العلاقات التركية الجزائرية مكانة بارزة في المستقبل، بالنظر إلى المخاوف الأمنية المتقاربة في شمال إفريقيا، مما يعزز فرص التعاون الاقتصادي والعسكري، كما ستدعم تركيا استراتيجية الجزائر لتعزيز اقتصادها من خلال جلب الاستثمار الأجنبي المباشر، ومن المتوقع أيضا أن يعمل الطرفان على تبني مواقف أكثر استباقية ومشتركة بشأن تدهور الأوضاع الأمنية والسياسية في ليبيا.
- تسبب إعلان الجزائر في فبراير/شباط 2022 عن نيتها إنشاء كتلة أفريقية جديدة مع إثيوبيا ونيجيريا وجنوب إفريقيا في إفشال اجتماع كان مخطط عقده في الكويت بين “تبون” والرئيس المصري “عبد الفتاح السيسي”، ورغم ميل مصر التقليدي تجاه دعم موقف المغرب فيما يتعلق بنزاع الصحراء الغربية، وعدم الارتياح الجزائري للسياسات المصرية في ليبيا وتونس، إلا أن الجزائر تعمل على حشد دبلوماسية براغماتية لمنع العلاقات الهشة مع مصر من الانهيار، وهو ما أثمر تحسنا جزئيا في العلاقات، وتجنب مصر تعطيل المبادرة الجزائرية للمصالحة الفلسطينية.
- تبدو الجزائر معنية في الحفاظ على نفوذها في تونس، والذي تصاعد بشكل كبير منذ سقوط نظام “زين العابدين بن علي”، لاسيما من خلال التعاون الأمني، وسبق أن حافظت الجزائر على علاقة قوية مع حزب النهضة التونسي بالنظر للتنسيق المشترك في عدة قضايا من بينها الملف الليبي.
- يواكب تنامي العلاقات الجزائرية القطرية، غموضا في مسار العلاقات السعودية الجزائرية ربما على خلفية العلاقات الجزائرية مع إيران، حيث ألغى ولي العهد السعودي “محمد بن سلمان” زيارته إلى الجزائر في نهاية يوليو/تموز الماضي، واعتذر عن حضور القمة العربية، كما تراجع رئيس الوزراء الجزائري “أمين بن عبد الرحمن” عن زيارته إلى الرياض في مناسبة أخرى، لكن تظل الرياض معنية بالحفاظ على علاقة جيدة مع الجزائر لتنظيم أسعار النفط.
الحالة الأمنية
- خصصت الحكومة الجزائرية، لعام 2023، أكبر موازنة يحصل عليها الجيش الجزائري منذ الاستقلال بلغت 22 مليار دولار (تمثل نحو 20% من الموازنة العامة للدولة)، وهي أكثر من ضعف موازنة عام 2022 البالغة 9.3 مليار دولار، وبهذا تضاعفت موازنة الجيش 11 مرة مقارنة مع موازنة عام 2008 التي كانت 2.5 مليار دولار، لتتصدر الجزائر أكبر ميزانيات الدفاع في أفريقيا، والثالثة عربيًا بعد كل من السعودية والإمارات.
- تواكب هذه الميزانية مساعي الجيش الجزائري للحصول على معدات ومنظومات متطورة من التسليح، في ظل سباق تسلح واسع مع المغرب، الذي رفع ميزانية دفاعه لأكثر من ثلاثة أضعاف لتبلغ 17 مليار دولار في موازنة 2023، واعتماد الرباط على “إسرائيل” خاصة في مجال الحرب الإلكترونية والطائرات المسيرة، والذي تنظر إليه الجزائر كتهديد غير مسبوق لأمنها القومي.
- من غير المرجح أن يتعرض استقرار الحكومة لخطر ملموس طالما أنها تحتفظ بدعم الجيش، إذ تتجه مخاوف السلطات الجزائرية في الوقت الحالي تجاه التهديدات الإقليمية، مثل تدهور العلاقات مع المغرب، خاصة بعد تطبيع المغرب للعلاقات مع “إسرائيل”، وعدم الاستقرار الأمني في منطقة الساحل، وتدهور الوضع الأمني في ليبيا.
- ولطالما عملت الدبلوماسية الجزائرية بالتعاون مع المنظومة الأمنية على بذل الجهود لخفض التوتر في ليبيا وموريتانيا والمغرب، والنيجر، ونيجيريا، والسنغال، وتونس، واصلت الجزائر التوسط في النزاعات، لاسيما بين إثيوبيا وإريتريا، وبين المقاتلين في منطقة البحيرات الكبرى في شرق إفريقيا، وبين حكومة مالي والقوات المحلية في المناطق الشمالية المقفرة لتلك الدولة.
- في أكتوبر تشرين أول، ترأس قائد الجيش “شنقريحة” اجتماعًا للجنة الأركان العملياتية المشتركة، والذي عُقد في الجزائر العاصمة بمشاركة قادة أركان جيوش موريتانيا ومالي والنيجر، للتوقيع على مشاريع قوانين خاصة بعمل لجنة الأركان تقدمت بها الجزائر، تستهدف تطوير آليات عمل اللجنة وزيادة التنسيق الأمني والعسكري لمكافحة الإرهاب في الساحل الأفريقي. يعكس الاهتمام الجزائري بإعادة تفعيل هذه اللجنة، والتي تأسست عام 2010 ثم ألحق بها لجنة استخبارية مشتركة، سعي الجزائر لقيادة التكتلات التي ترسم السياسات الأمنية الإقليمية، والتأكيد على أنها الطرف المؤهل لذلك، وتعزيز حضورها في ظل تراجع الحضور الفرنسي، والتنافس مع المغرب على النفوذ خاصةً بعد أن تطور علاقاته الأمنية مع موريتانيا مؤخرًا.
- تركز الجزائر بشكل كبير على تأمين مناطقها الحدودية التي يزيد طولها عن 6000 كيلومتر، خوفاً من اختراقات حدودية يقوم بها المسلحون من ليبيا ومالي والنيجر، وهو ما يظهر في عمليات نشر القوات على الحدود الشرقية والجنوبية مع ليبيا ومالي وتونس، وبالنظر إلى المسافات الشاسعة والحدود الطويلة، فإن الجهود المبذولة لا تنجح بصورة كاملة في منع جميع عمليات التسلل، حيث يكتشف الجيش الجزائري بين الحين والآخر مخابئ للأسلحة والذخيرة.
- فيما تفتقر الجماعات المسلحة إلى القدرة والاستعداد لشن هجمات كبيرة في مراكز المدن، وبدلاً من ذلك تركز على الهجمات في الأطراف التي تستهدف قوات الأمن، وعمليات الاختطاف المعزولة مقابل فدية، كما لم يعد تنظيم القاعدة يمثل تهديداً كبيراً للسلطات الجزائرية في السنوات الأخيرة؛ بالنظر لتشديد الإجراءات الأمنية وتحول أولوياته جنوبًا إلى منطقة الساحل، وهو ما يتجلى في عدم تمكن التنظيم من تنفيذ هجمات مؤثرة في البلاد منذ عام 2016.
- التعديل الأخير للدستور الجزائري في أكتوبر/تشرين أول 2020، يسمح للجيش الجزائري بنشر قوات في الخارج، لكن المرجح أن يقتصر هذا على عمليات حفظ السلام. ومن غير المرجح أيضا أن ترد الجزائر بعمل عسكري مباشر على الجهود المغربية المضادة في منطقة الصحراء؛ وبدلاً من ذلك، قد تتبنى خيار زيادة الدعم العسكري الموجه لجبهة البوليساريو، مثل توفير أنظمة متطورة مضادة للطائرات ومضادة للدروع والتدريب، وكذلك تشجيع “الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية” على إعلان منطقة حظر طيران فوق الأراضي التي تسيطر عليها.
- تعمل السلطات الجزائرية على إعادة هيكلة لأجهزة المخابرات بهدف إنشاء كيان على غرار دائرة الاستعلام والأمن السابقة، ينسق بين مختلف أذرع المخابرات، ستكون هذه الهيئة مسؤولة أمام مكتب الرئيس، بينما ستبقى المخابرات العسكرية حكرا على قيادة الجيش. في غضون ذلك؛ فإن الجنرالات القدامى يقومون بتدريب جيل جديد من الكوادر الشابة لتولي زمام الأمور، ويبرز دور اللواء “جبار مهنا”، المدير السابق للأمن والمخابرات الجزائرية، الذي يقدم المشورة اليومية لقائد الجيش “شنقريحة” والرئيس “تبون”.
- خلال الفترة من يوليو/تموز – سبتمبر/أيلول، أجرى الرئيس “تبون” وقيادة الجيش تغييرات في أجهزة الاستخبارات الثلاث، حيث جاءت عودة “مهنا” الرسمية والمفاجئة إلى العمل على رأس “المديرية العامة للتوثيق والأمن الخارجي” (الاستخبارات الخارجية)، كما عُين اللواء “جمال كحال المدعو مجدوب” كمدير عام للأمن الداخلي (الاستخبارات الداخلية)، وهو أيضا قادم من بعيد أن نحي عن العمل وأحيل للمحاكمة عام 2015، فيما عُين العميد “عبد العزيز نويوات شويطر” مديرا مركزيا لأمن الجيش (الاستخبارات العسكرية).
- تعكس هذه التغيرات توجها لإعادة الاعتبار لكبار الضباط المخضرمين الذين طردهم رئيس الأركان السابق “أحمد قايد صالح”، والاستفادة من خبراتهم الطويلة، وهي أيضا جزء من مساعي “شنقريحة” لإصلاح منظومة الاستخبارات بعد سنوات من الخلافات الصعبة بين “قايد صالح” و”بوتفليقة”، والتي تشمل العمل على وضع وكالات الاستخبارات المحلية والخارجية الرئيسية تحت سلطة المؤسسة العسكري. وليس من الواضح ما إذا كانت هذه التغيرات تعكس تناغما بين الرئيس وقائد الجيش، أم إنها تمهد لصراع نفوذ جديد.
المشهد الاجتماعي
- كشف تقرير حديث للبنك الدولي عن تسجيل 4 ملايين جزائري كباحثين عن عمل في مارس/آذار 2022، أي ما يعادل معدل بطالة 14.4٪، ومن المتوقع أن تبلغ نسبة البطالة 15٪ في عام 2022، بانخفاض طفيف عن عام 2021، فقد كانت نسبة البطالة المرتفعة محركًا رئيساً للاضطرابات الاجتماعية في السنوات الأخيرة، ومع ذلك؛ أثبت نظام بدل البطالة الذي بدأ في فبراير/شباط فعاليته في توجيه عائدات أعلى من موارد الطاقة نحو تهدئة الاحتقان الشعبي في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة؛ حيث تقدم الدولة راتبًا شهريًا لمليون جزائري عاطل عن العمل تتراوح أعمارهم بين 19 و40 عامًا والذين تم تسجيلهم في الوكالة الوطنية للتشغيل.
- يواكب نظام بدل البطالة مجموعة أخرى من تدابير الدعم الاجتماعي التي تم تنفيذها خلال سنوات حكم “تبون” الثلاثة، والتي تشمل خطة بقيمة ثلاثة مليارات دولار لتحسين معيشة سكان الريف (مناطق الظل)، والتي تضم بحسب الإحصاءات الرسمية ثمانية ملايين نسمة، وتوصيل الطرق والمياه والكهرباء والغاز، بالإضافة إلى خطة إدماج 700 ألف عامل وموظف كانوا يشتغلون في القطاع الحكومي بعقود مؤقتة، كان آخرها قرار الإدماج الفوري لـ60 ألف معلم يعملون بعقود مؤقتة.
- ستخفف هذه الإجراءات التي من المتوقع استمرارها العام 2023 من مستوى مخاطر عدم الاستقرار الاجتماعي على المدى القصير، كونها تساعد في تخفيف المظالم الاجتماعية والاقتصادية وتقليل مخاطر الاضطرابات الاجتماعية، لكنها ستظل قاصرة عن تعزيز التوظيف على المدى الطويل ما لم تحقق الحكومة تحولا ملموسا نحو اقتصاد أكثر تنوعا يستند لقاعدة تصنيع واسعة ونمو للقطاع الخاص.
- من غير المحتمل اندلاع عنف سياسي؛ حيث يتجنب المجتمع المدني والقوى السياسية وأجهزة الأمن احتمالية تجدد دوامة العنف كما حدث في التسعينيات، وإثارة تصعيد مزعزع للاستقرار داخل البلاد، ومن الواضح أيضاً أن قيادة الجيش بقيت مترددة في التدخل المباشر لقمع الاضطرابات الداخلية، وبدلاً من ذلك ركزت على واجبها الرئيسي المتمثل في أمن الحدود.