رأي وخلاصة السياق
يعكس تحذير طالبان الحاد من أي بقاء عسكري تركي أن أنقرة بحاجة لإعادة صياغة علاقتها مع أفغانستان وفق منطق ثنائي، ينهي طبيعة التواجد التركي في البلاد المرتبط بالقوات الدولية وسنوات الاحتلال الطويلة. لكنه لا يعني بالضرورة أن الحركة تتجه لقطيعة مع تركيا أو أنها تنظر للدور التركي كتهديد داخلي.
ومع الانسحاب الواسع لقوات الولايات المتحدة وحلفائها، فإن الأطراف الخارجية باتت متقبلة لمبدأ أن يحدد مستقبل أفغانستان قوى البلاد الداخلية، وهو ما يعطي لحركة طالبان نفوذا كبيرا يتطلب التفاهم معه. لذلك، من المرجح أن تسعى تركيا للتوصل إلى صيغة أكثر قبولا لدى طالبان، توازن بين تمسك الحركة بإنهاء الحالة المرتبطة بالتواجد الأجنبي في البلاد، وفي نفس الوقت حاجتها لبناء شراكات خارجية تجنب أفغانستان عزلة دولية.
الحدث
- رفضت حركة طالبان، الثلاثاء 13 يوليو تموز، إبقاء تركيا قواتها في أفغانستان بعد انسحاب القوات الدولية بقيادة الولايات المتحدة من البلد، وذلك بعد أيام على إعلان تركيا أن قواتها ستتولى ضمان أمن مطار كابول بعد انسحاب القوات الأجنبية المقرر في نهاية آب/أغسطس[1]. وأكدت حركة طالبان أن القرار التركي “سيء” و”ليس في صالح الشعبين”. وحذرت الحركة في بيان بلغة واضحة من أن بقاء القوات التركية أو غيرها يعد استمرار للاحتلال ومن ثم سيتم التعامل معه وفق فتوى علماء أفغانستان عام 2001 والتي “يستمر على أساسها الجهاد الجاري منذ عشرين عاما”. واعتبرت الحركة أن القرار التركي يعد “نقضا للعهد” حيث سبق أن طمأن المسؤولون الأتراك قادة الحركة في لقاءات ثنائية، بعدم اتخاذ مثل هذا القرار من تلقاء أنفسهم دون رضا طالبان.
- جاء بيان طالبان بعد اتصالات متواصلة بين الحكومة التركية من جهة، وشركائها في الناتو خاصة الولايات المتحدة من جهة أخرى بهدف التوصل لاتفاق يبقي الدور التركي في تشغيل مطار كابول، وهو الأمر الذي كان على رأس الموضوعات التي ناقشها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في لقائه الثنائي مع الرئيس الأمريكي جو بادين، على هامش قامة ناتو في منتصف يونيو حزيران الماضي. وبينما نشطت الدبلوماسية التركية خلال الأشهر الماضية في الملف الأفغاني، وعقد المسؤولون الأتراك اجتماعات واتصالات مع نظرائهم في الولايات المتحدة وأفغانستان وباكستان وقطر، فضلا عن الاتصالات مع حركة طالبان، إلا أن ذلك لم يكلل بعقد المؤتمر الذي سعت أنقرة لعقده في أبريل/نيسان الماضي في إسطنبول حول أفغانستان، كما استمر موقف طالبان المعلن غير مرحب بأي بقاء عسكري تركي في البلاد.
مطار كابول كضرورة جيوسياسية ورمز للسيادة
- يقع “مطار حامد كرزاي الدولي”، في كابول، على علو شاهق في جبال هندو كوش. ونظرا لأن أفغانستان دولة غير ساحلية وطرقها توصف بـ”الخطيرة”، فإن المطار يُنظر إليه كنقطة وصول لا بديل عنها للموظفين الدوليين وكذلك لملايين الأفغان. لذلك، أكدت وزارة الخارجية الأميركية أن الولايات المتحدة ترى ضرورة لوجود مطار “عامل وآمن” للحفاظ على وجود دبلوماسي دولي في العاصمة الأفغانية. خلال السنوات الماضية لعبت تركيا دورا رئيسيا في تشغيل وتأمين المطار.
- يقدر المسؤولون في واشنطن أنه لا يمكن لأي دولة أو شركة أخرى، باستثناء تركيا، أن تنفذ خدمة تشغيل وتأمين المطار بسرعة أو بسهولة، وأن رحيل تركيا سيجبر السفارات والمنظمات الدولية على الإغلاق، مما يهدد مصير مليارات الدولارات التي تلقتها أفغانستان كمساعدات تحافظ على استمرار عمل الحكومة الأفغانية والجيش. وأعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على هامش اجتماعاته مع قادة حلف شمال الأطلسي أن بلاده تسعى إلى مشاركة باكستان والمجر في المهمة الجديدة بأفغانستان بعد مغادرة قوات الحلف والولايات المتحدة. وألمح وزير الدفاع التركي خلوصي أكار إلى أن بقاء قوات بلاده في أفغانستان لن يكون من دون شروط، لخصها في الدعم السياسي والمالي واللوجستي، كضرورة للبقاء في مطار حامد كرزاي الدولي. لكن وزير الخارجية التركية الأسبق حكمت تشيتين – الذي عمل أيضا ممثلا سابقا للناتو في أفغانستان – قدر أن بقاء القوات التركية في أفغانستان مرهون بموافقة حركة طالبان، والتوصل إلى صيغة للتواجد التركي، بعيدا عن الصيغة الراهنة المرتبطة بالناتو والهوية الدولية، تقوم على أساس اتفاق ثنائي تركي أفغاني.
- ولا شك أن الحدة التي تبديها طالبان تجاه مساعي البقاء التركي ترجع بصورة أساسية إلى أن الوجود التركي الراهن هو جزء من القوات الأجنبية التي تعتبرها طالبان قوات احتلال يجب الجهاد حتى إخراجها. وانتقدت طالبان خطة تركيا حول المطار لكنها أعربت أيضا عن أملها في علاقات وثيقة مع أنقرة بعد انسحاب القوات. أي أنه ليس موقفا مبدئيا ضد العلاقة مع تركيا لكنه ضد استمرار أي حالة مرتبطة بالاحتلال. ولا يعني أن طالبان تنظر للوجود التركي في أفغانستان كتهديد. خاصة وأن القوات التركية الحالية لا تتجاوز 600 فرد، تقوم أساسا بمهام تدريبية في العاصمة كابول فقط. بينما تميز الدور التركي عموما في أفغانستان بقيمة أكثر مدنية وتنموية؛ فبالإضافة لتشغيل مطار كابول، تعمل 90٪ من 76 شركة تركية عاملة في أفغانستان في قطاعي البناء والمقاولات. طورت هذه الشركات 701 مشروعًا بين عامي 2003 و2018، بقيمة إجمالية تقارب 6.6 مليار دولار. نتيجة لذلك، لدى الشعب الأفغاني تصور إيجابي بشكل عام عن تركيا. ووفقا لمراقبين، نسجت أنقرة علاقات جيدة مع العديد من القوى السياسية في البلاد، خصوصاً في مناطق الأقلية الأوزبكية والتركمانية، الناطقة باللغة التركية، فضلاً عن مدّ جسور تواصل مع المجتمع عبر الدور الإنساني والثقافي.
- كذلك، تتمتع حركة طالبان باتصالات جيدة مع تركيا. وتفيد مصادر “أسباب” لتقديم أنقرة برامج تدريبية لكوادر في الحركة حول التفاوض السياسي على سبيل المثال. وعلى الرغم من صدور البيان الحاد للحركة، فمن المخطط أن يصل وفد من طالبان الأيام القليلة القادمة إلى تركيا لاستمرار النقاش حول هذه المسألة. ويبدو أن البيان جاء كرد فعل على التصريحات المستمرة من الجانبين الأمريكي والتركي التي توحي ببقاء عسكري لتركيا في مطار كابول وهو أمر مرفوض من قبل طالبان. لذلك، تفيد مصادر “أسباب” أن أنقرة ستعلن بوضوح أن مهمتها العسكرية ضمن حلف الناتو قد انتهت، وأنه لن يكون لتركيا قوات عسكرية في أفغانستان. بينما ما يعرضه الجانب التركي، هو استمرار “تشغيل” مطار كابول من خلال الإدارة المدنية التركية التي تقوم بذلك حاليا، وليس السيطرة على المطار.
- ويجادل الطرف التركي، بمساعدة جهود وساطة قطرية، بأن ذلك يقدم مساعدة للجانب الأفغاني، لأن توقف تركيا عن تقديم خدمة تشغيل المطار يعني عمليا إغلاقه دوليا لأن شركات الطيران الخارجية ستوقف رحلاتها لأسباب تتعلق بالمخاطر أو ضمان سلامة الرحلات وضوابط التأمين… الخ. وهذا سيعني تلقائيا خروج كافة البعثات الدبلوماسية من البلاد قبل توقف الطيران الدولي وهو ما سيضع أفغانستان في عزلة دبلوماسية عن العالم. بالإضافة إلى أن هذا الدور التركي لا يرتبط بهوية الجهة التي تسيطر على كابول حاليا أو مستقبلا، باعتبار أن هذا شأن أفغاني لن تتدخل تركيا فيه.
أفغانستان في حقبة جديدة عنوانها طالبان
- تحتل أفغانستان مساحة جيوسياسية مهمة تربط الشرق الأوسط وآسيا الوسطى وشبه القارة الهندية، جعلتها موضع تنافس بين قوى مختلفة تتنافس من أجل الوصول إلى أراضيها. لكن التطورات الراهنة تفيد بتراجع اهتمام واشنطن وموسكو على حد سواء بالتواجد في أفغانستان، وهو ما يعني الاستعداد لمرحلة جديدة ستكون فيها طالبان الطرف الأكثر نفوذا في البلاد. لذلك تدير كافة الأطراف بما فيها تركيا وإيران وروسيا علاقاتها مع طالبان باعتبارها علاقة تؤسس لمستقبل دور هذه الأطراف في أفغانستان. وتعكس الاجتماعات الرسمية المتتالية للحركة في موسكو وطهران وتركيا جزءً من قواعد اللعبة الجديدة لطالبان، حيث أصبحت أكثر انفتاحا على التفاوض كجزء من تكريس الاعتراف الدولي بها.
- رغم انسحابها السريع، فشلت الولايات المتحدة في تأمين أي تواجد قريب في المنطقة، بما في ذلك باكستان. وحذرت موسكو واشنطن من نقل قواتها إلى أي من دول آسيا الوسطى. وذكّر وزير الخارجية الروسي بضرورة موافقة منظمة معاهدة الأمن الجماعي في حال رغبة أي دولة في إنشاء كيان عسكري لها بآسيا الوسطى[1]. وحتى الآن يبدو أن الدعم الأميركي سيقتصر على طائرات بدون طيار المتمركزة في قاعدة الظفرة الجوية قرب العاصمة الإماراتية أبوظبي، والتي ستطير فوق أفغانستان لتبادل المعلومات الاستخباراتية مع القوات الأفغانية المدعومة من الولايات المتحدة، حسبما ذكر مسؤولون دفاعيون في واشنطن.
- وبينما توجه انتباهها إلى منطقة المحيطين الهندي والهادئ، تتطلع واشنطن بشكل متزايد إلى اللاعبين الإقليميين لتقاسم عبء تأمين النقاط الساخنة مثل أفغانستان. وبما أن الولايات المتحدة تعتبر الصين وروسيا، القريبين من أفغانستان، أكبر تهديدات لها، فإن ترك بعض عدم الاستقرار وراءهما قد يكون له بعض الفوائد. لذلك، فإن واشطن بات عمليا تتهيأ لأفغانستان جديدة تدير صراعاتها الداخلية بنفسها. فبعد أيام فقط من انسحاب واشنطن من قاعدة باجرام الجوية، التي كانت مركز عمليات الحرب لمدة 20 عامًا، قال الرئيس “بايدن” من البيت الأبيض يوم الخميس 8 يوليو/تموز: “لم نذهب إلى أفغانستان لبناء دولة”، مشددا على أن حق ومسؤولية الشعب الأفغاني وحده أن يقرر كيف يدير بلاده. وأضاف مشيرا للتاريخ البريطاني والسوفيتي: “لا توجد أمة وحدت أفغانستان على الإطلاق، ولا أمة. لقد ذهبت الإمبراطوريات إلى هناك ولم تفعل ذلك”، وهو يقر ضمنا أن الولايات المتحدة لن تفعل هذا أيضا.
- أما روسيا، فلم تعد ترى أفغانستان كدولة عازلة كما كان الاتحاد السوفيتي ينظر لها. تركز موسكو الآن على الحفاظ على آسيا الوسطى كحاجز بين حدودها والتهديدات التي تراها ناشئة في أفغانستان. على عكس الاتحاد السوفيتي، فقد رسمت روسيا اليوم خطاً واضحا على الحدود التركمانية والطاجيكية والأوزبكية، لا ترغب بعده في التدخل عسكريا. وبالتالي، فإن اهتمامها الأساسي في أفغانستان هو كيف يمكن أن يؤثر عدم الاستقرار هناك على بلدان آسيا الوسطى. ومن ثم، أبدت موسكو استعدادا لإزالة طالبان من قائمة المنظمات الإرهابية، في دلالة على أنها، مثل الولايات المتحدة وآخرين، قد قبلوا حقيقة أن مستقبل أفغانستان ستحدده التفاعلات الداخلية أكثر من أي طرف خارجي.
- في جانب تركيا، تبدو هناك أهدافا أكثر وضوحا وراء السعي لإيجاد موطئ قدم في أفغانستان:
أولاً، تسعى تركيا للاضطلاع بهذا الدور ضمن تفاهمات الرئيسين أردوغان وبايدن، والتي تنعكس على مجمل مساعي إنهاء توتر العلاقات الثنائية.
ثانيا، يمثل التواجد في أفغانستان جزءا من أهم أهداف الرئيس التركي أردوغان المتمثل في تحويل تركيا إلى المركز السياسي للعالم الإسلامي، خاصةً لأنها على أعتاب آسيا الوسطى، موطن الكثير من الشعوب المسلمة الناطقة بالتركية.
ثالثا، يعد توسيع النفوذ التركي في أفغانستان وآسيا الوسطى إحدى طرق المواجهة الجيوسياسية مع روسيا، خصم أنقرة التاريخي.
رابعا، تستهدف تركيا المزيد من الفوائد الاقتصادية. فقد روجت لممر اللازورد (Lapis Lazuli corridor)، وهو مشروع يربط أفغانستان بتركيا عبر تركمانستان وأذربيجان وجورجيا، متجاوزًا إيران وروسيا والصين. كما أن السوق الأفغانية، وخاصة قطاع البناء فيها، واعد أيضًا للأعمال التركية.
بالإضافة إلى مصادر “أسباب” الخاصة، استفاد هذا السياق من المصادر التالية:
Donati, J. & Youssef, N. A. (2021, June 11). Turkey Holds Keys to U.S. Afghan Pullout, a Potential Problem for Biden. Wall Street Journal. https://www.wsj.com/articles/turkey-holds-keys-to-u-s-afghan-pullout-a-potential-problem-for-biden-11623416475?reflink=desktopwebshare_permalink
Geopolitical Futures. (2021, April 30). Dismantling the NATO-Led Mission in Afghanistan. https://geopoliticalfutures.com/dismantling-the-nato-led-mission-in-afghanistan/
Sanger, D. E. & Kavi, A. (2021, July 8). Biden makes his case on U.S. withdrawal from Afghanistan as the Taliban gain ground. The New York Times. https://www.nytimes.com/2021/07/08/us/politics/biden-afghanistan-speech-taliban.html?searchResultPosition=4
Zolotova, E. (2021, July 12). A New Reality Emerges in Afghanistan. Geopolitical Futures.https://geopoliticalfutures.com/a-new-reality-emerges-in-afghanistan/
[1] بلغت ذروة التواجد الأجنبي في أفغانستان 130 ألف جندي من نحو 50 دولة أثناء سنوات الحرب. لكن القوات الحالية، التي انسحب بالفعل أكثر من نصفها منذ مطلع أبريل/نيسان الماضي، تمثل “مهمة دعم القرار” (Resolution Support Mission) التي أطلقها الناتو عام 2015 بهدف تدريب وتقدمي المشورة لقوات الحكومة الأفغانية وأجهزتها، تمهيدا لفك ارتباط الناتو مع أفغانستان. وتشمل، قبل بدء الانسحاب، نحو 10 آلاف جندي غالبيتهم من الولايات المتحدة، ألمانيا، إيطاليا، جورجيا، بريطانيا، رومانيا، وتركيا.
[٢] منظمة معاهدة الأمن الجماعي هي حلف عسكري أنشئ في 1992، ويتخذ من موسكو مقرا له. ويضم 6 دول هي روسيا، أرمينيا، كازاخستان، طاجيكستان، قرغيزستان، وأوزبكستان.