“بلينكن” في أفريقيا: سياسة أمريكا الجديدة نحو القارة لا تخفي تراجع أولوياتها
سياقات - أغسطس 2022
تحميل
الإصدار
الحدث
اختتم وزير الخارجية الأمريكية “أنتوني بلينكن” جولته الأفريقية بزيارة العاصمة الرواندية كيغالي يوم الخميس 11 أغسطس/آب 2022، شملت الجولة زيارة كل من جنوب أفريقيا والكونغو الديمقراطية، وحدد “بلينكن” خلال جولته الاستراتيجية الأمريكية نحو أفريقيا، والتي تشتمل على أربع ركائز، هي: التعافي الاقتصادي بعد الجائحة، التحول العادل للطاقة، تعهد واشنطن بتعزيز الديمقراطية مع الشركاء الأفارقة، ودعم انفتاح الأفراد والمجتمعات الأفريقية.
التحليل: استراتيجية أمريكية جديدة نحو أفريقيا لملاحقة الصين وروسيا
- تعد جولة “بلينكن” هي الثانية لأفريقيا في أقل من عام؛ حيث زار وزير الخارجية الأمريكي في نوفمبر/تشرين الثاني 2021 كلا من السنغال وكينيا ونيجيريا، وتأتي هذه الجولة في أعقاب زيارة نظيره الروسي “سيرجي لافروف” دول أفريقية، حيث ألقى باللوم على العقوبات الغربية التي تسببت في أزمة الغذاء العالمية الحادة، وقام بمغازلة القادة الأفارقة عبر وعود باحتمال تقديم مساعدات عسكرية بشروط قليلة.
- امتنعت 17 دولة أفريقية عن التصويت على قرار للأمم المتحدة، في مارس/آذار الماضي، الذي يدين الغزو الروسي لأوكرانيا، كما امتنعت غالبية دول أفريقيـا عن دعم حملة العقوبات الغربية ضد روسيا، وقد ساهم هذا في تسليط الضوء على حدود النفوذ الأمريكي والغربي في القارة، وتواجه إدارة “بايدن” تحديا بارزا في التعامل مع أفريقيـا بعد أربع سنوات لم تظهر فيها إدارة “ترامب” اهتمامًا كبيرًا بالقارة؛ مما سمح لروسيا والصين بمزيد من الحضور؛ حيث تُوسع بكين دورها كممول لمشاريع البنية التحتية الكبرى داخل القارة الشاسعة، فيما تقوم موسكو بتوريد الأسلحة لعدد كبير من الدول الأفريقية.
- كما وسعت الحكومة الصينية من وجودها في أفريقيا في السنوات الأخيرة؛ حيث سجل حجم التبادل التجاري بين الصين والدول الأفريقية مستوى قياسيا يبلغ نحو 254 مليار دولار عام 2021، بينما انخفض حجم التبادل التجاري بين الولايات المتحدة ودول أفريقيا من ذروة بلغت 142 مليار دولار عام 2008 إلى 64 مليار دولار فقط عام 2021، تمثل حالياً 1.1% فقط من حجم التجارة العالمية الأمريكية، بالإضافة إلى ذلك، تمتلك بكين العديد من مشاريع الطاقة والسكك الحديدية والموانئ في جميع أنحاء القارة.
- على الجانب الآخر؛ يعد النفوذ الروسي في أفريقيا أقل بكثير من نظيره الصيني؛ إلا أن موسكو تُصنّف كأكبر مورد للأسلحة لدول أفريقيا جنوب الصحراء، حيث تبيع موسكو أسلحتها دون وضع قيود سياسية وحقوقية كما هو الوضع مع واشنطن، فقد وقعت موسكو عقود تسليح عام 2020 مع عشر دول أفريقية بلغت قيمتها حوالي 1.5 مليار دولار، وفي عام 2021 حصلت على 1.7 مليار دولار إضافية في صفقات جديدة، كما تنتشر مجموعة فاجنر العسكرية الروسية في أكثر من دولة أفريقية (ليبيا والسودان ومالي وجمهورية أفريقيا الوسطى وموزمبيق).
- تشير استراتيجية أمريكا الجديدة في أفريقيا إلى تحول لافت في مواقف واشنطن تجاه القارة، فبينما اعتمدت الاستراتيجيات السابقة على افتراض أن أفريقيا لا يمكن أن تكون فاعلا استراتيجيا في المخطط الواسع للسياسة الخارجية للولايات المتحدة، وظلت التصورات السائدة في الدوائر السياسية الأمريكية أن أفريقيا منطقة منعزلة وهامشية بالنسبة لأولويات واشنطن السياسة والاقتصادية، وانحصرت العلاقات فقط في مكافحة الإرهاب والتعاون العسكري مع الجيوش الأفريقية؛ تبدو الاستراتيجية الحالية مختلفة، حيث تفترض أن أفريقيا تضم قوى جيوسياسية مؤثرة ومهمة في المصالح الخارجية الأمريكية، ويظهر هذا في الترتيبات الجارية لاستضافة واشنطن قمة مشتركة بين “بايدن” وقادة أفارقة في ديسمبر/كانون أول القادم.
- تعتمد الاستراتيجية الأمريكية نحو أفريقيا على سياسة هادئة ومرنة، تتجنب وضع الدول الأفريقية في مواجهة مباشرة مع الصين وروسيا، أو دفعها للانحياز إلى معسكر غربي على غرار نموذج الحرب الباردة، لاسيما مع تقدير الولايات المتحدة عدم جدوى التعامل مع الدول الأفريقية من زاوية توجيه سياستهم الخارجية بشأن العلاقات مع الصين وروسيا، وأن الأفضل في الحالة الأفريقية هو بناء علاقات قوية ترتكز على تحقيق مصالح مشتركة، بالإضافة إلى التوجه لقيام واشنطن وحلفائها بدور أوسع في البنية التحتية والاستثمار في القارة من خلال مبادرة “الشراكة من أجل البنية التحتية العالمية والاستثمار“، والتي منها بالفعل مشروع للطاقة الشمسية في أنغولا، وتقوم بإنشائه شركة أمريكية بتكلفة 2 مليار دولار، ومشروع إقامة منشأة لتصنيع اللقاحات في السنغال.
- وبالإضافة للتنمية والاستثمار وأجندة المناخ، يظهر الجانب الأمني كأحد مجالات الشراكات الأمريكية مع دول جنوب الصحراء، حيث وافق الرئيس الأمريكي “جو بايدن”، في مايو/أيار الماضي، على إعادة نشر أقل من 500 جندي في الصومال، استجابة لتوصية وزير الدفاع “لويد أوستن”، لمواجهة تزايد هجمات حركة الشباب خلال الأشهر الأخيرة، وهو القرار الذي حظي بترحيب من الرئيس المنتخب حديثا، “شيخ محمود” معتبرا الولايات المتحدة شريكا أمنيا “موثوقا” للصومال.
خلاصة
- بينما تجنبت استراتيجية إدارة “بايدن” في أفريقيـا استدعاء المنافسة مع الصين وروسيا في القارة كمحرك رئيسي للانخراط مع الدول الأفريقية، فإن التغيير المنصوص عليه في الاستراتيجية يبقى في اللهجة وليس الجوهر؛ حيث تظل أفريقيا ساحة شاسعة للتنافس بين الولايات المتحدة والقوى الغربية من جهة وبين الصين وروسيا من جهة أخرى، خاصة مع سعي العديد من الدول الأفريقية لتحقيق مكاسبها الخاصة والاستفادة من تباين مصالح القوى الكبرى وصراع النفوذ المحتدم دوليا.
- ستعكس الفترة القادمة مدى جدية واشنطن في التزامها باستراتيجيتها الجديدة نحو دول أفريقيا جنوب الصحراء، والتي ستتوقف على قدرة إدارة “بايدن” على تنفيذ التعهدات في ظل أوضاع داخلية وخارجية معقدة، فمن المرجح أن أولوية القارة الأفريقية ستظل متراجعة نسبيا مقارنة بمناطق أخرى، خاصة أمريكا اللاتينية وأوروبا وجنوب شرق آسيا والشرق الأوسط، وهو ما يمكن ملاحظته من وضع القارة في نهاية جدول أعمال “بايدن” الذي التقى قادة هذه المناطق تباعا خلال الأشهر الثلاثة الماضية، بينما مازال قادة أفريقيا ينتظرون دورهم نهاية العام الجاري.