انسحاب فرنسا من تشاد وساحل العاج والسنغال يربك خطط إعادة التموضع
مآلات - يناير 2025

ملخص

تعمل فرنسا على إعادة تنظيم قواتها في أفريقيا، ضمن استراتيجية شاملة وضعتها باريس لإعادة التموضع في القارة والتكيف مع تنامي روح العداء الشعبي للوجود الفرنسي وصعود الحكومات العسكرية ذات النزعة القومية. وتستهدف تلك الاستراتيجية بناء علاقات اقتصادية وثقافية واجتماعية، والحفاظ على العلاقات الأمنية عبر إطار جديد يبتعد عن النهج التقليدي القائم على التواجد العسكري في قواعد دائمة، ويركز على تعزيز التعاون مع الجيوش المحلية وبناء قدراتها، من خلال زيادة نطاق التدريب والدعم اللوجستي وتوفير المعدات والأسلحة العسكرية.
يمثل إعلان تشاد وكوت ديفوار والسنغال إنهاء اتفاقيات أمنية طويلة الأمد مع فرنسا علامة جديدة على استمرار التراجع الفرنسي في دول منطقة الساحل وغرب أفريقيا. وبدلا من قبول تلك بخفض القوات الفرنسية وإعادة تعريف دورها، فقد وجدت الفرصة سانحة لطلب سحبها وإنهاء الاتفاقيات الدفاعية، استجابة لصعود المشاعر القومية المعادية لفرنسا في المنطقة.
يمثل قرار الدول الثلاث فرصة لكل من روسيا والصين وتركيا للتمدد في منطقة الساحل، لكن سيكون ذلك مرتبطا بالقيود المفروضة على الدول الثلاث. إذ لا تضغط الحرب في أوكرانيا على موارد روسيا العسكرية. أما الصين فتعطي الأولوية في القارة للتعاون الاقتصادي والتجاري. وبينما تعزز تركيا نفوذها الجيوسياسي في المنطقة، إلا أن تركيزها في سوريا قد يحوّل اهتمامها عن الدخول إلى ساحات جديدة. في حين لا يرجح أن يكون لإيران دورا بارزا في ظل تنامي التهديدات من “إسرائيل” وأمريكا وخسارتها الجيوسياسية العميقة في سوريا.
قد تستغل الإمارات التراجع الفرنسي في تشاد لتقدم نفسها كداعم عسكري وأمني، في ظل وجود اتفاقية تعاون عسكري ثنائية، كما أن الدعم الاقتصادي الإماراتي مؤخرا منح أبوظبي نفوذا سياسيا محليا في تشاد. وتنظر الإمارات إلى تشاد كموقع هام يربط جغرافيا ساحات عملها في شمال وشرق أفريقيا، خاصة في ليبيا وفي السودان. 
في مواجهة تلك التحولات، لا تتجه واشنطن أو باريس إلى التخلي عن المنطقة. إذ تؤسس واشنطن نقاط تواجد عسكري بديلة غرب أفريقيا، فيما لا يزال من المبكر طي صفحة النفوذ المؤسسي الفرنسي في هياكل الأمن والاقتصاد في مستعمراتها السابقة. وتراهن باريس على امتصاص موجة العداء وإعادة بناء الشراكة على أسس جديدة بدلا من الاستسلام لنهايتها. 
إن استمرار التركيز الصيني على الشراكات الاقتصادية، والعقوبات الغربية والأمريكية على روسيا وإيران، والتهديد بمعاقبة دول أفريقيا، كل ذلك يترك للغرب مساحة واسعة لمواصلة نفوذه في القارة عموما، وفي منطقة الساحل وغرب أفريقيا بصورة خاصة.

مقدمة 

أعلنت تشاد إنهاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا، رسميًا في 28 نوفمبر/تشرين ثاني 2024، وذلك بعد وقت قصير من زيارة أجراها وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو، ناقش خلالها اقتراحًا فرنسيًا لتقليص وجودها العسكري في تشاد من حوالي 1000 إلى نحو 300 جندي. ووصف وزير الخارجية التشادي عبد الرحمن كلام الله إنهاء الاتفاقية بـ”نقطة تحول تاريخية” للبلاد، التي حصلت على استقلالها قبل ستة عقود، وربط القرار بالتأكيد على سيادة تشاد وإعادة تعريفها لشراكاتها الاستراتيجية وفق أولوياتها الوطنية.

لم يكن ذلك آخر القرارات السلبية تجاه النفوذ الفرنسي في أفريقيا؛ فقد أعلن الرئيس الإيفواري “الحسن واتارا” في خطابه بمناسبة نهاية عام 2024، سحب القوات الفرنسية (600 جندي)، مؤكداً على تحديث الجيش الإيفواري كسبب رئيسٍ لهذا القرار. وسيتم تسليم الكتيبة 43 مشاة البحرية، المتمركزة حاليًا في ميناء بويت في مدينة أبيدجان، إلى القوات المسلحة الإيفوارية.

وفي السنغال، أنهى الرئيس الجديد “باسيرو ديوماي فايي”، في نوفمبر/تشرين ثاني 2024، اتفاقية دفاع كانت قائمة منذ استقلال البلاد عام 1960، ليبدأ انسحاب نحو 350 جندي فرنسي من البلاد. وفي نهاية الشهر التالي، أعلن إغلاق القواعد العسكرية الفرنسية مؤكدا أن استمرار وجود القوات الأجنبية يتناقض مع وضع السنغال كدولة مستقلة ذات سيادة.

تأتي هذه التطورات ضمن اتجاه أوسع نطاقاً لتراجع نفوذ فرنسا في منطقة الساحل وغرب ووسط أفريقيا؛ إذ قلصت أو أنهت العديد من الدول علاقاتها العسكرية مع فرنسا، خاصة في أفريقيا الوسطى ومالي وبوركينا فاسو والنيجر، إذ طُردت القوات الفرنسية وسط مشاعر معادية للاستعمار، غذّتها واستفادت منها بنسب متفاوتة روسيا التي تعمل بشكل حثيث على تعزيز نفوذها في القارة وملء الفراغ الغربي وتقديم نفسها كشريك أمني لدول أفريقيا. وقد ظهر ذلك في اتفاقيات أمنية مع فيلق أفريقيا “مجموعة فاغنر” سابقا، والتي لعبت دورا ساهم في تعقيد موقف فرنسا.

فرنسا تعيد تنظيم قواتها في أفريقيا وتتبنى نهج الشركات شبه العسكرية

فرنسا تعيد تنظيم قواتها في أفريقيا وتتبنى نهج الشركات شبه العسكرية

يعمل الجيش الفرنسي على إعادة تنظيم قواته في أفريقيا، وذلك ضمن استراتيجية شاملة وضعتها باريس لإعادة التموضع في القارة والتكيف مع تنامي روح العداء الشعبي للوجود الفرنسي وصعود الحكومات العسكرية ذات النزعة الوطنية. وتتمثل الملامح الرئيسية لاستراتيجية فرنسا في أفريقيا، على بناء علاقات أكثر توازناً مع الدول الأفريقية تشمل المشاريع الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، كما تشمل الحفاظ على العلاقات الأمنية القوية عبر إطار أمني جديد، يقوم على:

  1. تقليص عدد القوات الفرنسية في القارة. 
  2. تحويل القواعد العسكرية إلى أكاديميات تدريبية، أو إدارتها بشكل مشترك مع شركائها الأفارقة. 
  3. تعزيز التعاون مع الجيوش المحلية وبناء قدراتها، من خلال التركيز على زيادة نطاق التدريب والدعم اللوجيستي وتوفير المعدات والأسلحة العسكرية.

ووفقًا لتقارير سابقة وتقديرات استخبارية، في يونيو/حزيران 2024، فقد استهدفت فرنسا تخفيض عدد جنودها في قواعدها في القارة الأفريقية، باستثناء جيبوتي. إذ كان يتوقع خفض عدد الجنود إلى نحو 100 جندي من 350 جندي في كلا من الجابون والسنغال، وإلى 600 جندي من ألف جندي نشط في ساحل العاج، ونحو 300 جندي في تشاد من 1000 جندي. 

في ضوء ذلك؛ تأسست قيادة أفريقية جديدة (CPA) في أغسطس/آب، بقيادة الجنرال “باسكال ياني”، كي تتولى مهمة بناء شراكات أمنية وعسكرية جديدة تتجاوز مجالات النفوذ التقليدية الفرنسية، وذلك وفقًا لمذكرة داخلية في سبتمبر/أيلول 2024. وتعتبر هذه القوة بمثابة بنية عسكرية جديدة تتبنى نهجا عملياتيا جديدا، يتلخص في:

  1. بناء تعاون أمني مع الدول الأفريقية يبتعد عن النهج الفرنسي العسكري المركزي التقليدي.
  2. رفع قدراتها في التكيف مع التغييرات السريعة في المشهد الأمني الأفريقي من خلال تلك الشركات التي تعطي مساحات أوسع من الحركة والعمل. 

ويهدف هذا النهج الجديد إلى توسع فرنسا في مناطق خارج مستعمراتها التقليدية. إذ بدأت القيادة الأفريقية الجديدة العمل على خطط لتوسيع التعاون الأمني والعسكري في غينيا وموريتانيا وبنين والكاميرون والكونغو، كما تدرس القيادة التعاون مع تنزانيا شرق القارة، ومع ناميبيا وبوتسوانا جنوب القارة، بل إنها وضعت أيضا الدول الناطقة بالإنجليزية مثل غينيا ضمن تلك الاستراتيجية لتكون الدولة الثانية بعد تنزانيا. 

ويأتي هذا التراجع الفرنسي كنتيجة لتصاعد الضغط على نفوذ باريس في العديد من الدول الأفريقية، وخاصة في المستعمرات السابقة، والتغيرات السياسية والانقلابات العسكرية في دول منطقة الساحل وغرب أفريقيا، وفي مقدمتها مالي وبوركينا فاسو والنيجر والتي انسحبت من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) وتسعى لتطوير اتحاد كونفدرالي بعيدا عن النفوذ الغربي بل يتبنى رؤية سلبية تجاه فرنسا بصورة خاصة.

بل واستهدف أيضا تقويض الحضور الأمريكي كما في قرار النيجر بإلغاء الاتفاقيات معها في مارس/آذار 2024. ويتوج هذا التراجع الفرنسي فشلا عسكريا وسياسيا، يؤكد على عدم فعالية عملياتها العسكرية في هزيمة الجماعات الجهادية والانفصالية في المنطقة، خاصة العملية “برخان” التي أطلقتها عام 2013، وفشلت في تحقيق الاستقرار بالمنطقة، بل وتسببت في نزوح نحو 2.5 مليون. 

ديناميات إقليمية جديدة في منطقة الساحل وغرب أفريقيا

يشير إعلان كل من تشاد وساحل العاج والسنغال إنهاء الاتفاقيات مع فرنسا إلى أن الدول الأفريقية بدلا من القبول بخفض القوات الفرنسية وإعادة تعريف دورها وجدت الفرصة سانحة لطلب سحبها وإنهاء الاتفاقيات الدفاعية، استجابة لصعود المشاعر القومية المعادية لفرنسا في المنطقة، وتتبنى عدة دول بمنطقة الساحل الأفريقي توجها لتقليص النفوذ الغربي وتعزيز العلاقات مع روسيا وأطراف إقليمية أخرى مثل تركيا، وربما إيران. وإن كانت طهران تواجه في الأجل القريب قيودا واسعة ستحد على الأرجح من تركيزها على أفريقيا. 

تعتبر ساحل العاج أقل الدول التي تعرضت لهجمات مسلحة منذ عام 2020 بالمقارنة مع باقي جيرانها، مما يجعلها حاليا أقل احتياجا للاستعانة بقوات أجنبية. لكنّ هذا لا ينطبق على دول أخرى خاصة تشاد. إذ إن من المحتمل أن الطلب الفرنسي بتقليص عدد القوات قد سبب قدرا من عدم الثقة لتزامنه مع اضطرابات محلية وتهديدات خارجية قادمة من السودان، خاصة بعد قرار المجر تأجيل نشر قوة محدودة في تشاد.

فعلى المستوى العملياتي وقعت عدة معارك كبيرة مع الجماعات المسلحة وتنظيم بوكو حرام مؤخرا، فقد قتل 40 جنديا تشاديا بالتزامن مع إطلاق الرئيس محمد إدريس ديبي في 28 أكتوبر 2024 في عملية “هاسكانيت”، وهي تعتبر أحد أكبر العمليات منذ سنوات. كما قتل 15 جنديا وأصيب 32 آخرين في 10 نوفمبر 2024 خلال اشتباكات شديدة مع بوكو حرام في منطقة بحيرة تشاد.

ولذلك؛ فإن من المحتمل أن تنخرط تشاد في تحالف (النيجر، مالي، بوركينافاسو) لتكون العضو الرابع ضمن الاتحاد الكونفدرالي الذي سبق أن أعلن عنه في يوليو/تموز 2024، وقد تلعب تشاد دورا فاعلا في القوة المشتركة “لمكافحة الإرهاب” التي شكلتها دول التحالف. فيما لا يتوقع أن تنخرط السنغال أو ساحل العاج في ذلك التحالف لاعتبارات سياسية وعسكرية، إذ لا تواجه تهديدات أمنية كالتي تواجهها الدول المنخرطة في التحالف. كما أن النظام السياسي فيهما يختلف من حيث البنية وآليات التصعيد والنظام الحكم.

التأثيرات الجيوسياسية الواسعة 

قد تتسبب أزمة الثقة بين تشاد وفرنسا في دفع تشاد باتجاه شركاء أكثر موثوقية في مواجهة التحديات الأمنية والعسكرية. ويمثل القرار التشادي والسنغال والإيفواري فرصة لكل من روسيا والصين وتركيا في التمدد بمنطقة الساحل الأفريقي على حساب فرنسا. لكن ذلك سيكون مرتبطا بالقيود الراهنة المفروضة على كل دولة من الدول الثلاث. 

لا تزال الحرب في أوكرانيا تضغط على موارد روسيا العسكرية بما يقيد من وتيرة التوسع في التعاون العسكري والأمني حول العالم، وهو ما ظهر في خسارة نفوذها في سوريا. أما الصين فما زالت تعطي الأولوية في القارة للتعاون الاقتصادي والتجاري. أما الدور التركي، فعلى الرغم من أن أنقرة تعمل بصورة حثيثة على توسع تواجدها الأمني في المنطقة لتعزيز نفوذها العسكري والجيوسياسي، إلا أن تركيز موارد أنقرة الفترة القادمة في سوريا، قد يحوّل اهتمامها عن الدخول إلى ساحات جديدة. في حين لا يرجح أن يكون لإيران دورا بارزا في ظل تنامي التهديدات والضغوط من “إسرائيل” وأمريكا وخسارتها الجيوسياسية العميقة في سوريا.

قد تستغل الإمارات ذلك التراجع لتقدم نفسها كداعم عسكري وأمني بديل عن فرنسا خاصة بعدما قدمته لقوات الدعم السريع في السودان من خلال خطوط إمداد لوجيستي في شرق تشاد. وسبق أن وقعت تشاد والإمارات اتفاقية تعاون عسكري في يونيو/حزيران 2023، مما انعكس على زيادة الدعم العسكري من الإمارات والذي اشتمل على تدريب الجنود وتوفير المعدات العسكرية. كما أن الدعم الاقتصادي الإماراتي لتشاد منح أبوظبي نفوذا سياسيا محليا، إذ تلقت تشاد قرضا بقيمة 1.5 مليار دولار من الإمارات في يونيو/حزيران 2021. وفي أكتوبر/تشرين أول الماضي، صادق برلمان تشاد على اتفاقية قرض مع دولة الإمارات بمبلغ 700 مليون دولار. وتنظر الإمارات إلى تشاد كموقع هام يربط جغرافيا ساحات عملها في شمال وشرق أفريقيا، خاصة في ليبيا وفي السودان. 

وعموما تعطي تلك المؤشرات دلالة على استمرار التحول منطقة الساحل الأفريقي من المعسكر الغربي إلى شراكات أكثر تعددية مع قوى دولية وإقليمية. لكن من المبكر تماما الجزم بنقطة استقرار تلك التحولات، في ظل أن الولايات المتحدة وفرنسا لا تتجهان للتخلي عن نفوذهما في القارة. إذ تتجه واشنطن لتأسيس نقاط تواجد عسكري بديلة في غرب أفريقيا بعد الانسحاب من النيجر، فيما لا يزال من المبكر طي صفحة النفوذ المؤسسي الفرنسي في هياكل الأمن والاقتصاد في مستعمراتها السابقة. وتراهن باريس على امتصاص موجة العداء الراهنة وإعادة بناء الشراكة على أسس جديدة بدلا من الاستسلام لنهايتها. 

من جهة أخرى؛ فإن استمرار التركيز الصيني على الشراكات الاقتصادية، والعقوبات الغربية والأمريكية على روسيا وإيران، والتهديد بمعاقبة دول أفريقيا من خلال قانون مكافحة الأنشطة الروسية الخبيثة في أفريقيا، والذي دعا إلى محاسبة روسيا والحكومات الأفريقية ومسؤوليها المتواطئين في مساعدة مثل هذا التأثير والأنشطة الخبيثة، كل ذلك يترك للغرب مساحة واسعة لمواصلة نفوذه في القارة عموما، وفي منطقة الساحل وغرب أفريقيا بصورة خاصة.