تنطلق هذه الورقة من فرضية أساسية مفادها أن إعادة انتخاب ترامب لن يفضي إلى تغيرات معتبرة في أجندة السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط أو الأجندة الدولية على حد سواء. ومن ثم، فإن الاهتمام يتوجه أكثر لاحتمال فوز بايدن كونه سيؤدي إلى اتجاهات مختلفة في سياسة واشنطن تجاه المنطقة والعالم، أبرزها ترميم التحالف مع أوروبا والناتو، والاتجاه للتهدئة مع إيران، مقابل تشدد أكثر تجاه روسيا وتركيا والسعودية.
ترامب.. يواصل نهج “أمريكا أولا”
- يمكن القول إن إعادة انتخاب الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” لن تفضي إلى تغيرات أساسية في السياسة الخارجية الأمريكية الراهنة. وما سيحدث هو تعزيز لأجندة إدارة ترامب في كافة الملفات، دون ترجيح أن تشهد هذه الأجندة تراجعا عن أي من الاتجاهات الرئيسية الراهنة.
- من المرجح إذاً أن يدفع هذا الفوز بالولايات المتحدة إلى مزيد من السير على نهج جيوسياسي يعزز المسار الحالي للسياسة الخارجية الأحادية والقسرية، وستؤدي إستراتيجيات “أمريكا أولاً” والتنافس مع القوى العظمى إلى تقويض المؤسسات الدولية، وستجد الشركات نفسها من بكين إلى بروكسل عالقة بشكل متزايد بين الضرورات الجيوسياسية والأنظمة التنظيمية المتنافسة. أما التهديدات العالمية مثل تغير المناخ فلن يتم التعامل معها إلى درجة تذكر.
- من المرجح أن يتواصل تدهور العلاقات مع الصين أكثر، فترامب يختتم ولايته الأولى محاطا بفريق من المستشارين الصقور الذين يفضلون المواجهة على التسوية مع الصين. والآن يقوم ترامب بالفعل بحملة ضد الصين تماما مثل عام 2016، مع استبدال أجندة الخلاف ليحل كوفيد 19 محل الخسارة من وظائف التصنيع في كتالوج المظالم الأمريكية. وهو ما يعني أن الخط الأمريكي الأكثر تشددا سيستمر إذا فاز ترامب متمثلا في قرع طبول المزيد من العقوبات، وضوابط التصدير، والقيود التجارية القسرية.
- ومثل سلوكه مع الصين سيستمر نهج ترامب الأكثر حزماً مع إيران، وسيواصل ترامب الضغط على حلفاء الولايات المتحدة لبذل المزيد من أجل الدفاع عن أنفسهم أو الدفع لواشنطن بدلاً من تلقي الحماية مجانا من دون مقابل. ومع ذلك، فإن التغييرات الأكثر جذرية في نظام السياسة الخارجية للولايات المتحدة ستقابل بمقاومة شديدة من المؤسسة الأمنية (وزارة الخارجية والبنتاغون ومجتمع المخابرات وأعضاء الكونغرس المعنيين)، مما سيؤدي إلى تأخير أو تخفيف السياسات التي يمكن أن تحفز الفوضى الدولية وإثارة صراع خارجي كبير.
- وحتى لو خسر ترامب وسعى الديمقراطيون لإحياء العلاقات مع الشركاء خاصة في أوروبا، فمن المرجح أن يكون لنهج ترامب المنفلت تأثير طويل المدى أو حتى دائم؛ إذ إن الحلفاء سيعملون على تقليل اعتمادهم على الولايات المتحدة.
بايدن.. صوت الديمقراطيين التقليدي
- خلال الفترة التي قضاها في مجلس الشيوخ، بما في ذلك رئاسته للجنة العلاقات الخارجية، عكست معظم مواقف “جو بايدن” الإجماع السائد في الحزب الديمقراطي. فقد دافع عن الانخراط مع الصين في كل من الجغرافيا السياسية والاقتصاد، وصوّت لصالح العلاقات التجارية العادية الدائمة معها، وكذلك دخول البلاد إلى منظمة التجارة العالمية، ودعَم حرب العراق عام 2003 (بعد معارضة حرب الخليج عام 1991)، وصوت لصالح اعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة لإسرائيل في عام 1995، وانتقد الاتجاه الروسي المعادي للديمقراطية في الوقت الذي دعم فيه استمرار التواصل مع الرئيس فلاديمير بوتين.
- الأصوات الرئيسية التي تقدم المشورة لبايدن في الوقت الحالي هي شخصيات مخضرمة من الإدارات الديمقراطية السابقة وأبرزهم: “توني بلينكين” النائب السابق لمستشار الأمن القومي للرئيس السابق باراك أوباما، و”إيلي راتنر” نائب مستشار الأمن القومي السابق لبايدن عندما كان نائب الرئيسن و”جيك سوليفان” مستشار الأمن القومي السابق لبايدن، و”بيل بيرنز” وهو دبلوماسي محترف شغل منصب نائب وزير الخارجية، و”كورت كامبل” مساعد وزير الخارجية السابق لشؤون شرق آسيا والمحيط الهادئ.
- على الرغم من أن الجناح التقدمي الناشئ يتحدى اليوم الإجماع الديمقراطي القديم، فإنه يركز بشكل أكبر على القضايا المحلية، ومن ثم تقل احتمالية أن يمارس هذا الجناح تأثيرا كبيرا على السياسة الخارجية. لذلك، ستصبح عملية صنع السياسة الخارجية قابلة للتنبؤ أكثر إذا فاز بايدن، وستستعيد مجموعات الضغط الصناعية والتجارية بعضا من القوة التي أضعفتها إدارة ترامب.
- وفيما يتعلق بالسياسة التجارية، قد يرغب بايدن في العودة إلى توجه أوباما نحو زيادة تحرير التجارة، لكنه سيواجه مقاومة شديدة من الديمقراطيين. فقد كان فشل إدارة أوباما في رعاية الشراكة عبر المحيط الهادئ من خلال الكونغرس إشارة مبكرة إلى أن الاضطراب الاقتصادي يعزز الشعبوية في التجارة، وهو أمر لم ينحسر بعد. لذا، قد يتخلى بايدن عن تفضيل ترامب لسياسة المعاملة بالمثل وفرض التعريفات العقابية، لكنه لن يكون بالضرورة قادرا على إقناع الديمقراطيين التقدميين بأن تحرير التجارة هو الترياق الصحيح.
- سيظل نهج بايدن تنافسيا، لكنه مع ذلك سيسعى عموما إلى تجديد التحالفات الأمريكية التقليدية وإعادة الانضمام والعمل من خلال المؤسسات الدولية المتعددة الأطراف، وإعادة التعامل مع الشركاء الدبلوماسيين والأمنيين والاقتصاديين التقليديين، لا سيما في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية. ومن المرجح أن تؤدي إدارة بايدن إلى التخفيف من حدة المضايقات الرئيسية في العلاقات الخارجية للولايات المتحدة بشأن الهجرة، وتغير المناخ، وإيران، والتجارة. وستفضل الإدارة الديمقراطية تهدئة التوترات الخارجية للتركيز على القضايا المحلية، خاصة التعافي الاقتصادي من آثار كوفيد 19، والتركيز على جدول أعمال “بناء الدولة في الداخل”-التي كانت محور التركيز الرئيسي لسياساتهم- مثل تغير المناخ والرعاية الصحية والتعليم والبنية التحتية.
حزمٌ مع الصين وروسيا واستعادة أوروبا
- نهج ترامب تسبب بشكوك دولية عميقة إزاء مصداقية الولايات المتحدة واستمرارية التزاماتها، خاصة بين حلفائها الإستراتيجيين. لذا فإن بايدن سيتجه إلى نهج متعدد الأطراف في أوروبا الغربية يعطي الأولوية لتحسين العلاقات التجارية مع كل من المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، وكذلك إعادة تأكيد التعاون الأمني من خلال الناتو. كما سيزيد بايدن الضغط على روسيا خاصة من خلال العقوبات.
- لكن بايدن لن يستطع -وفي نواحٍ معينة لن يحاول- إعادة الجنّيّ إلى الزجاجة، لذا سيحافظ على موقف متشدد نسبيا من الصين، حتى مع الأخذ في الاعتبار أن التغيير في الإدارة قد يخلق فرصة لترميم العلاقات. ومن المحتمل أن تسعى الصين لاستثمار هذه الفرصة لاحتواء التصعيد المستقبلي.
- يُتوقع أن يعود بايدن إلى إستراتيجيات عهد أوباما القائمة على مكافحة دور الصين المتزايد عبر بناء الثقة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ وتعزيز الشراكة الإستراتيجية مع دول المنطقة، كل ذلك دون التخلي عن النهج العدواني تجاه الصين.
- من المحتمل أن تكون صياغة سياسة متماسكة تجاه الصين أكبر تحدٍ في سياسة بايدن الخارجية. فهناك مصلحة في التعاون مع بكين في مجالات مثل تغير المناخ وإيران والحفاظ على النظام الدولي المتعدد الأطراف، لكن عدد نقاط الاحتكاك في العلاقات الثنائية آخذ في الازدياد، وستكون التجارة هي القضية الأولى. ربما يضطر بايدن في البداية إلى مواصلة المواجهة كما كانت في عهد ترامب إلى حد ما، خاصة إعادة تشكيل سلاسل التوريد، وصد انتهاكات الصين لحقوق الإنسان، ومنع استخدام التكنولوجيا الأمريكية لغايات قمعية.
- بخصوص الصين، الاختلاف بين إدارتي ترامب وبايدن سيكون اختلافا في الشكل أكثر منه في المضمون. فالديمقراطيون ينظرون إلى الحرب التجارية التخريبية التي تشنها إدارة ترامب على أنها تؤدي إلى نتائج عكسية وغير فعالة على حد سواء. كما تسبب ترامب بنفور الحلفاء التقليديين -خاصة أوروبا وأستراليا واليابان وكوريا الجنوبية- بتهديدات الرسوم الجمركية، وطلبات التعويض، إضافة إلى أخطاء دبلوماسية عديدة.
- وعوضا عن نهج ترامب، يقترح الديمقراطيون التنافس مع الصين من خلال إصلاح التحالفات والشراكات كجزء من إعادة تنشيط أوسع للمشاركة المؤسسية والمتعددة الأطراف. وستسعى الإدارة الديمقراطية إلى مزيد من التنسيق والتعاون في قضايا مثل العقوبات وضوابط التجارة والدبلوماسية الإقليمية. وهو ما عبرت عنه حملة بايدن حين قالت إنها تتطلع إلى تجنيد شركاء تجاريين رئيسيين للولايات المتحدة ليس فقط في منطقة آسيا والمحيط الهادئ -مثل الهند وأستراليا واليابان- ولكن أيضا على مستوى العالم -وخاصة في أوروبا- لصياغة مجموعة مشتركة من السياسات المتعلقة بالتجارة والملكية الفكرية وأمن المعلومات. ويفضل الديمقراطيون الجزرة على العصا لتشجيع الشركات على نقل التصنيع إلى الولايات المتحدة. وتدور أجندة بايدن فيما يتعلق بـ”التعافي الأخضر” حول ابتكار تقنيات جديدة في الداخل أكثر من حرمان صادرات التكنولوجيا في الخارج.
الشرق الأوسط.. جفاء مع الحلفاء دون قطيعة
إستراتيجية بايدن الشاملة إزاء فك الارتباط العسكري عن الشرق الأوسط لن تتغير بشكل ملحوظ عن إستراتيجية ترامب الهادفة لتقليص الوجود العسكري في المنطقة. فبايدن يؤكد -مثل الديمقراطيين- أنه لا يزال يتعين استخدام القوة العسكرية الأمريكية ضد تنظيم الدولة “داعش” وتنظيم القاعدة. لكنّه سيواصل في الوقت نفسه الاتجاه الذي بدأ في عهد أوباما، حيث “المحور الإستراتيجي” للموارد الدبلوماسية والعسكرية الأمريكية سيوجَّه بعيدا عن أوروبا والشرق الأوسط؛ نحو الصين وشرق آسيا.
لن تتغير أولويات القوة الصلبة للولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، خاصة الحفاظ على إمدادات الطاقة وتقليل تقلبات الأسعار والعمل المشترك مع إسرائيل، بغض النظر عما إذا كانت الإدارة الديمقراطية أو الجمهورية هي المسؤولة. وإذا فاز بايدن، فإن التحول في اللهجة هو أبرز ملامح التغيير الرئيسي عن عهد ترامب.
سيكون التركيز الرئيسي لإدارة بايدن على إعادة اتساق إدارته مع اتصالات وزارة الخارجية، على عكس إدارة ترامب. ففي يونيو/حزيران 2017 على سبيل المثال، تناقض دعم ترامب الواضح على تويتر للحصار الذي تقوده السعودية والإمارات لقطر مع موقف وزارة خارجيته. وفي الآونة الأخيرة، تناقض دعم ترامب الواضح لأمير الحرب الليبي “خليفة حفتر” في أوائل 2019 مع الموقف العلني لوزارتي الدفاع والخارجية. وفي العموم يُرجح أن يفوض بايدن الخلافات الدبلوماسية إلى وزير خارجيته والسلك الدبلوماسي في وزارة الخارجية.
رغبة بايدن المعلنة في العمل بشكل أوثق مع الشركاء الدوليين والحلفاء والمؤسسات سيعزز من القدرة على التنبؤ بمواقف واشنطن في المنطقة بشكل أكبر، وبالتالي، فإن أحداثًا مثل اغتيال “قاسم سليماني” -وهو عمل أحادي تم اتخاذه دون استشارة الحكومة العراقية أو حلفاء عسكريين آخرين للولايات المتحدة- ستصبح أقل احتمالًا.
لن يكون زعماء المنطقة الرئيسيون فرحين بانتصار بايدن لأسباب مختلفة؛ فالسعوديون سيعانون في ظل التزام حملة بايدن بإنهاء الدعم الأمريكي للتدخل في اليمن، فضلا عن موقف بايدن تجاه إيران، كما أن حادثة خاشقجي ستلقي بظلال كئيبة على علاقة ولي عهد المملكة محمد بن سلمان مع إدارة ترامب. أما تركيا فستفتقد سلوك ترامب الأكثر تفضيلا للدبلوماسية مع أنقرة، والذي جعلهم مثلا يدخلون سوريا في 2019 دون معارضة فعالة. وفي مصر فإن الرئيس عبد الفتاح السيسي لا يتوقع أن تغض إدارة بايدن الطرف عنه كما كان يفعل ترامب.
لكن قد لا تكون المخاوف من فوز الحزب الديمقراطي في محلها. فبالتأكيد لن يكون بايدن ودودا بشكل علني مع القادة المستبدين بالطريقة التي سلكها ترامب، لكنّ الضغط على الحكومات في المنطقة بشأن قضايا حقوق الإنسان لن يكون أولوية كما يشير سجله الحافل عندما كان نائبا للرئيس. وبينما سيكون موقف بايدن الليّن بشأن إيران مصدر قلق للأنظمة الملكية الخليجية، فإن هذا لا يعني أنه سيتخلى عن الشركاء المحليين إذا انتهجت إيران سلوكا تصعيديا مثل إغلاق مضيق هرمز.
لكننا أيضا سنرى موقفا متشددا بشأن مجالات مثل التدخل السعودي في اليمن، وسياسة تركيا الإقليمية. وعلى الرغم من أنه ليس مؤكدا أن يبذل بايدن الكثير من الجهد في محاولة إحياء خطة العمل المشتركة الشاملة مع إيران (JCPOA) التي انسحبت منها إدارة ترامب في مايو/أيار 2018، فإنه من المرجح تماما أن تعود بصورة عامة سياسة عهد أوباما تجاه إيران، وهو ما سيقابل باستياء كبير وعدم رضا مع السعودية وإسرائيل.
تشير تصريحات بايدن إزاء إيران إلى أن إدارته ستقلص من إستراتيجية ترامب العدوانية المناهضة لإيران، مما يزيد من احتمالية خفض العقوبات، واستئناف المساعدات الإنسانية. يمكن لبايدن أن يوقف بسهولة العقوبات الصارمة التي فرضها ترامب، بما في ذلك أحدث العقوبات التي تم تمريرها في 21 سبتمبر/أيلول، وذلك في محاولة لاستئناف المفاوضات مع طهران. وقد يدفع هذا إلى تصعيد إسرائيل هجماتها على إيران في كل من المسارح الحالية والجديدة في جميع أنحاء الشرق الأوسط من أجل عرقلة عودة الولايات المتحدة المحتملة إلى الدبلوماسية مع العدو الإقليمي لإسرائيل، وستكون إدارة بايدن في الغالب أقل تحملا للضربات الإسرائيلية على مستوى المنطقة والتي يمكن أن تعرّض مثل هذه المفاوضات للخطر، لا سيما في البلدان الحساسة مثل العراق حيث تتنافس الولايات المتحدة بشكل مباشر على النفوذ مع إيران.
فيما يتعلق بإسرائيل وفلسطين، فإنه من المستبعد أن ينقلب بايدن على قرارات ترامب بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس من تل أبيب والاعتراف بمرتفعات الجولان المحتلة أراض إسرائيلية، لكنه من المرجح أن ينقلب على “صفقة القرن” بصورتها التي قدمها ترامب ومن خطة الضم التي عُلّقت مؤقتا.
مصادر اعتمد عليها:
Frontier View, US 2020 Electoral Outlook, September 2020.
Economist Intelligence Unit, Country Report: United States of America, 7 July 2020.
Economist Intelligence Unit, Country Forecast: United States of America, May 2020.
Fitch Solutions, United State: Country Risk Report Q3 2020, 27 March 2020.
Hamish Kinnear, What would a Biden victory mean for the Middle East?, Verisk Maplecroft, 24 September 2020.
Jonathan Wood, COVID-19 will shape a close-fought US election – and its implications for global business, Control Risks Group.
Jonathan Wood, The future of US-China business relations under Trump vs Biden, Control Risks Group.
Todd Mariano, Biden win in November would bring major US foreign policy shift, Eurasia Group, 2 July 2020.
Stratfor, For Israel a New U.S. President Could Mean a Renewed Anti-Iran Push, 29 September 2020.