تجارب عالمية في التكامل: الاتحاد الأوروبي مثالًا
تحميل الإصدار

الملخص

● قام التكامل الأوروبي على فكرة احتواء الصراع القومي داخل أوروبا من خلال بناء كيان فوق وطني عابر للقوميات يدمج مصالح دول أوروبا وتتشارك سيادتها في مؤسساته. واعتمد التكامل استراتيجية تدريجية تعمل خطوة بخطوة، تستهدف البدء بالتكامل في مجالات غير مثيرة للجدل، بحيث تؤدي النجاحات الصغيرة إلى تراكم الثقة، والتقدم لخطوات تكامل أكبر مستقبلا.
● نمت مسيرة التكامل التي بدأتها 6 دول باتفاقية “الجماعة الأوروبية للفحم والصلب”، إلى أن بلغت 27 دولة تشترك في تكامل اقتصادي غير مسبوق، ضمن مؤسسات “الاتحاد الأوروبي” التي تمثل حالة استثنائية من الترتيبات المؤسسية فوق الدول في العصر الحديث.
● حقق الاتحاد الأوروبي نجاحات اقتصادية، وساهم في توفير السلام بين الدول الأعضاء، لكنّ الهويات مازالت تمثل تحديا لمشروع التكامل؛ حيث تظل للدولة القومية الكلمة الفصل في مواصلة مسيرة التكامل أو الانسحاب منها، وفي تحديد مداها، فضلا عن تمسكها باستقلال سياسات الدفاع والسياسة الخارجية.
● المخاوف المتعلقة بفقدان السيادة الوطنية، وغياب الإجماع حول وتيرة التكامل الأوروبي، والحاجة إلى حل وسط دائم بين الدول الأعضاء، تجعل صنع سياسة الاتحاد الأوروبي بشكل عام بطيئة وحذرة، وهو ما يقلص فعاليتها في عالم تتسارع فيه الأحداث، ويجعل الاتحاد الأوروبي شريكًا جذابًا لكنه غير فعال ومنقسّم داخليًا.
● لا يمكن تجاهل شبح تكرار الانسحاب البريطاني من الاتحاد في ظل عدم تبلور نظرية متكاملة عن الشكل المنشود الذي ينبغي أن يصل إليه التكامل الأوروبي مستقبلا، وصعود التيارات اليمينية المتطرفة التي ترى أن الاتحاد الأوروبي لا يعكس الهوية القومية للدول الأعضاء به. ولكن طالما ظل الاتحاد الأوروبي يحقق مصالح الدول الأعضاء الاقتصادية، دون المساس العميق بسيادتها وبمصالحها الخاصة، فسيظل يمثل عامل جذب يكفل له الاستمرارية.
● استفادة الشرق من تجربة التكامل الأوروبي تتطلب تعميم الإيمان بجدوى وثمار التكامل، وتبني مشروعه من قبل قيادات بعيدة النظر تتوفر لها الإرادة السياسية. وتمثل استراتيجية التدرج واختيار مجالات التكامل “الأسهل” مقاربة فاعلة للبدء رغم التباينات الأوسع بين دول المنطقة.

تجارب عالمية في التكامل: الاتحاد الأوروبي مثالًا

مقدمة

نشأ الاتحاد الأوروبي على أنقاض الحربين العالميتين الأولى والثانية، بعد أن تعرضت القارة الأوروبية لدمار واسع، وانقسمت إلى جزء شرقي شيوعي، وآخر غربي ليبرالي، كما فقدت الدول الاستعمارية الأوروبية مستعمراتها مع صعود حركات التحرر في الدول المُستعمرة، فنضبت الموارد، وتصاعد التفكير في كيفية بناء صيغة تفاهم تكفل لأوروبا تجنب خوض حروب مدمرة جديدة.

والآن، يمثل الاتحاد الأوروبي بدوله السبعة والعشرين قوة عظمى بمعايير الاقتصاد؛ إذ يتجاوز ناتجه المحلي الإجمالي 16.7 تريليون يورو، ما يجعله ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة، ويمثل الاتحاد نحو 14% من حجم تجارة السلع العالمية. أما سياسيا، فقد جلب إلى أوروبا –مع حلف الناتو– أطول فترة من السلام شهدتها منذ قرون، وجعل فرص الحرب بين دوله الأعضاء شبه معدومة.

النشأة: كي تكون الحرب “مستحيلة ماديا”

رأى الدبلوماسي الفرنسي جان مونيه (1888-1979) أن الحل يتطلب إحداث تغييرات جوهرية في الطريقة التي يفكر بها الأوربيون لحل المشكلات فيما بينهم، وضرورة العمل على بناء كيان فوق وطني عابر للقوميات يدمج المصالح المشتركة للدول الأوروبية، ويسوي النزاعات البينية بشكل سلمي، مستندا في ذلك إلى تنظيرات عالم الاجتماع البريطاني، ديفيد ميتراني، بأن القومية هي أصل الصراع بين الدول الأوروبية.

كان بناء اتحاد شامل بين الدول الأوروبية أمرا بعيد المنال؛ في ظل صعوبة خلق أجواء سريعة من الثقة بين دول خاضت ضد بعضها حروبا دامية. فاعتبر مونيه أن الخطوات الصغيرة المتواضعة في البداية ستساهم في تراكم الثقة وصولا إلى تحقيق خطوات أكبر مستقبلا. كذلك رفض مونيه الاكتفاء بنموذج للتعاون تحتفظ فيه كل دولة بكامل سيادتها الوطنية وتحرص فقط على تحقيق مصالحها الذاتية.

وفي المقابل، دعا مونيه إلى بناء نموذج تكاملي يتسم بالآتي:

  1. تفويض كل دولة لجزء من سيادتها إلى مؤسسات أوروبية فوق وطنية تتشارك الدول فيها سيادتها بشكل جماعي.
  2. ضرورة تبني استراتيجية تدريجية للتكامل تعمل خطوة بخطوة.
  3. النجاح في تعزيز التكامل في مجالات تقنية غير مثيرة للجدل، مثل الخدمات البريدية وتوحيد الأوزان والمقاييس، سيؤدي إلى مزيد من التكامل لاحقا في جوانب أخرى.

في تلك الآونة، أطلقت واشنطن “خطة مارشال” لإعادة بناء ما دمرته الحرب في أوروبا ومواجهة التهديدات السوفيتية. واستثمر مونيه تلك الأجواء لطرح فكرة مفادها أن نزع فتيل العداء بين فرنسا وألمانيا هو الضمانة للسلام في أوروبا، وهو ما يمكن تحقيقه عبر دمج مصالح اقتصادية فرنسية وألمانية تحت إشراف ورقابة مؤسسات فوق وطنية. واقترح مونيه دمج مناجم الفحم والصلب، الواقعة في المناطق الحدودية بين فرنسا وألمانيا، ضمن إدارة واحدة مع إزالة عوائق التبادل التجاري.

التضامن في الإنتاج الذي تم إنشاؤه على هذا النحو سيجعل من الواضح أن أي حرب بين فرنسا وألمانيا لن تصبح غير واردة فحسب، بل مستحيلة ماديًا.

إعلان شومان، 1951

تبنى وزير خارجية فرنسا، روبرت شومان، مشروع شراكة الفحم والصلب، وبالفعل صدر إعلان شومان في عام 1950 الخاص بتأسيس “الجماعة الأوروبية للفحم والصلب”، وأصبح مونيه أول رئيس لها. تضمن إعلان شومان جوهر مشروع التكامل، حيث نص صراحة على أن “التضامن في الإنتاج الذي تم إنشاؤه على هذا النحو سيجعل من الواضح أن أي حرب بين فرنسا وألمانيا لن تصبح غير واردة فحسب، بل مستحيلة ماديًا.” واجتذب المشروع إيطاليا التي كانت طرفا في الحربين العالميتين، فضلا عن بلجيكا وهولندا ولوكسمبورغ والتي كانت ساحات للاقتتال خلال الحرب العالمية الثانية.

خطوة بخطوة: الخط الزمني لتطور الاتحاد الأوروبي

بحلول 1951 وافقت برلمانات الدول الستة على إنشاء سوق مشتركة للفحم والصلب، مع ترك الباب مفتوحا أمام باقي الدول الأوروبية التي تود الانضمام إلى الكيان الناشئ. ووضِعت السوق المشتركة تحت إدارة مؤسسات فوق وطنية مستقلة عن الحكومات المنشئة لها، وتشكلت تلك المؤسسات من:

  1. المجلس الأوروبي الذي يمثل الدول الستة الأعضاء.
  2.  محكمة عدل تختص بالفصل في المنازعات بين الدول الأعضاء، وبحث قانونية قرارات “الجماعة الأوروبية للفحم والصلب”.
  3. مفوضية تختص بتمثيل مصالح السوق المشتركة وإزالة العقبات أمام حرية حركة صناعة الحديد والصلب.
  4. جمعية استشارية تختارها المجالس التشريعية للدول الأعضاء حسب عدد سكان كل دولة (تطورت لاحقا لتصبح البرلمان الأوروبي).

في عام 1957 صادقت برلمانات الدول الستة على معاهدة روما، التي أنشأت “الجماعة الاقتصادية الأوروبية”، والتي تشمل إقامة سوق واحدة خلال اثني عشر عامًا عبر إزالة جميع القيود المفروضة على التجارة الداخلية، والاتفاق على تعريفة خارجية مشتركة، وتقليص الحواجز أمام حرية تنقل الأشخاص والخدمات ورأس المال؛ وتطوير السياسات الزراعية والنقل المشتركة؛ وإنشاء الصندوق الاجتماعي الأوروبي وبنك الاستثمار الأوروبي. وبالفعل ازدادت الإنتاجية، ووُجهت استثمارات جديدة إلى الصناعة والزراعة، وأصبح أعضاء المجموعة أكثر قدرة على المنافسة عالميا.

بحلول نهاية الستينيات، أصبح لدى “الجماعة الاقتصادية الأوروبية” كل مظاهر الحكومة، فلديها مقر أساسي في بروكسل، وجهاز تنفيذي (المفوضية الأوروبية)، وهيئة تشريعية (البرلمان الأوروبي)، وسلطة قضائية (محكمة العدل)، وقانونها الخاص.

وفي 1974، تشكل “المجلس الأوروبي” من رؤساء الدول والحكومات الأعضاء بالمجموعة الاقتصادية الأوروبية، كي يجتمعوا عدة مرات سنويا لمناقشة المشاكل التي تعجز المؤسسات الأخرى عن معالجتها، ولكي يعطوا دفعة لعملية التكامل. وفي عام 1987، أزال القانون الأوروبي الموحد جميع الحواجز المتبقية أمام حركة الأشخاص والأموال والسلع والخدمات بين الدول الأعضاء.

مع تقدم مسيرة التكامل، جذبت نجاحات “الجماعة الاقتصادية الأوروبية” أعضاءً جددًا، فانضمت بريطانيا والدنمارك وأيرلندا عام 1973، ثم اتسع الاتحاد جنوبا فضم اليونان والبرتغال وإسبانيا في الثمانينيات، وانضمت ألمانيا الشرقية عقب توحيد ألمانيا، ثم النمسا وفنلندا والسويد في التسعينيات، لتبلغ عضوية الجماعة 15 دولة.

في 7 فبراير 1992، وقعت “معاهدة ماستريخت”، التي أنشئ بموجبها “الاتحاد الأوروبي”؛ حيث ألزمت المفوضية الأوروبية بإنشاء عملة موحدة “اليورو” والتي أطلقت عام 1999، وسياسة خارجية وأمنية مشتركة، وإنشاء وكالة استخبارات شرطية أوروبية (يوروبول)، وكفلت حق المواطنين في العيش في أي مكان في الاتحاد، مع التصويت في الانتخابات المحلية والأوروبية. وجرى ضم “الجماعة الاقتصادية الأوروبية” كجزء من كيان الاتحاد الجديد تحت إسم “الجماعة الأوروبية”.

في قمة المجلس الأوروبي في كوبنهاجن عام 1993 صيغت “معايير كوبنهاجن”، والتي تحدد شروطا يجب أن تستوفيها الدول للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، والتي تركز على الديمقراطية وسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان، فضلا عن امتلاك اقتصاد فعال قادر على المنافسة داخل السوق الأوروبية، والقدرة على تبني وتنفيذ التشريعات والسياسات التي يشترطها الاتحاد. وإثر ذلك، ضبطت معاهدتا أمستردام 1997، صلاحيات المؤسسات الأوروبية، فيما مهدت اتفاقية نيس 2003، لأكبر جولة من التوسع في عضوية الاتحاد، بإضافة عشر دول أوروبية. ثم انضمت بلغاريا في 2007، وأخيرا كرواتيا في 2013.

وفي 2009، دخلت معاهدة لشبونة حيز التنفيذ، والتي دفعت نحو مزيد من المركزية والاتساق لسياسات الاتحاد الأوروبي، فأسست مناصب مثل: رئيس المجلس الأوروبي، والممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية الذي يعادل منصب وزير الخارجية، وزادت صلاحيات البرلمان الأوروبي. فيما ألغيت “الجماعة الأوروبية”، وآلت مؤسساتها للاتحاد الأوروبي. ومنحت الدول الأعضاء الحق القانوني لمغادرة الاتحاد.

مأسسة التكامل: هيكل الاتحاد الأوروبي الحالي

1.المفوضية الأوروبية

يقع مقرها في بروكسل، وتضم مفوضا واحدا من كل دولة عضو بالاتحاد. وهي بمثابة مجلس الوزراء في النظام البرلماني، حيث تمثل الفرع التنفيذي والإداري للاتحاد. وهي المسؤولة عن تطوير قوانين وسياسات الاتحاد والإشراف على تنفيذها، ومن حقها إحالة أي دولة أو شركة أو فرد لا يتوافق مع معاهدات أو قانون الاتحاد إلى محكمة العدل، كما تدير ميزانية الاتحاد، وتمثله في التعامل مع دول العالم والمنظمات الدولية. وكان رئيس المفوضية هو الشخص الأهم في الاتحاد قبل إنشاء منصب رئيس المجلس الأوروبي.

2.مجلس الاتحاد الأوروبي

مقره في بروكسل، وهو المنتدى الذي يجتمع فيه وزراء حكومات الدول الأعضاء لاتخاذ قرارات بشأن سياسات الاتحاد في مجالهم. ويقر المجلس – بالاشتراك مع البرلمان الأوروبي- مقترحات القوانين المقدمة من المفوضية. ويعتمد المجلس ميزانية الاتحاد الأوروبي، وينسق السياسات الاقتصادية للدول الأعضاء.  ويضمن نفوذ المجلس لحكومات الدول الأعضاء إبقاء التوازن مع صلاحيات المفوضية.

3.البرلمان الأوروبي

يتوزع بين ستراسبورغ ولوكسمبورغ وبروكسل، ويُنتخب نوابه شعبيا لخمس سنوات قابلة للتجديد، على أساس عدد سكان كل دولة. وتُدفع رواتب أعضائه من قبل حكوماتهم المحلية، وتساوي رواتب أعضاء البرلمانات المحلية. يناقش البرلمان الأوروبي مقترحات القوانين التي تقدمها المفوضية، ويمكنه أن يطلب منها اقتراح قانون أو سياسة جديدة، ويتشارك البرلمان مع المجلس الأوروبي في صلاحية الموافقة على المقترحات التشريعية وميزانية الاتحاد. لكن يقيد صلاحيات البرلمان الأوروبي عدم رغبة الدول الأعضاء في التنازل عن سلطة التشريع، أو التخلي عن قبضتها على صنع القرار في مجلس الاتحاد الأوروبي.

4.المجلس الأوروبي

يتألف من قادة الدول الأعضاء، إذ يجتمعون أربع مرات على الأقل سنويا للبت في القضايا ذات الأبعاد السياسية، والتي يضع تفاصيلها كل من المفوضية ومجلس الاتحاد الأوروبي.

5.محكمة العدل الأوروبية

يقع مقرها في لوكسمبورغ، وهي الذراع القضائية للاتحاد المسؤولة عن تفسير المعاهدات وحل النزاعات بين الأعضاء ومؤسسات الاتحاد والأفراد المتأثرين بقانون الاتحاد الأوروبي. وتبني قراراتها بناء على المعاهدات التي توقعها الدول الأعضاء. وتساعد المحكمة في بناء قوانين مشتركة تُطبق في جميع الدول الأعضاء. يعين قضاة المحكمة الثمانية والعشرون لمدة ست سنوات قابلة للتجديد بالاتفاق بين الدول الأعضاء، وتعمل بجوار محكمة العدل “المحكمة العامة” التي تختص بالقضايا الأقل تعقيدًا، ومحكمة “الخدمة المدنية” التي تفصل في النزاعات بين مؤسسات الاتحاد وموظفيها.

أبرز التحديات أمام الاتحاد الأوروبي

يقود المجلس الأوروبي عملية صنع القرار داخل الاتحاد فيما يتعلق بالسياسات العليا، ما يساعد في أن تظل عملية صنع القرار داخل الاتحاد في يد الدول. كذلك فإن مؤسسات الاتحاد الأوروبي التي تعتبر مؤسسات فوق وطنية لا تملك أدوات إنفاذ لقراراتها، إنما تخول تنفيذها لحكومات الدول الأعضاء.

يُنظر إلى الاتحاد، وفق تعبيرات المفوضية الأوروبية، باعتباره شريكًا جذابًا لكنه غير فعال ومنقسّم داخليًا. إذ تحتفظ الدول الأعضاء بالإشراف على سياساتها المالية الخاصة بالضرائب والإنفاق الحكومي والتعليم والرعاية الصحية، كما تعقد معاهدات منفردة مع دول أخرى، وتحتفظ بجيوشها. وتحمل السياسة الخارجية الأوروبية اختلافات في المصالح بين الدول الأعضاء وتفاوتا كبيرا في مستوى تأثير كل دولة في صياغة مواقف الاتحاد. فمثلا، شهد الموقف الأوروبي خلال الغزو الأميركي للعراق عام 2003 انقساما عميقا تجلى في معارضة ألمانيا وفرنسا مقابل دعم بريطانيا وإسبانيا وإيطاليا وبولندا وهولندا والدنمارك.

لم تنجح الدول الأوروبية في تنسيق سياساتها الدفاعية بشكل مستقل بمعزل عن حلف الناتو، رغم إعلان الدول الأعضاء عام 1999 موافقتها على بناء قدرة عسكرية للاتحاد الأوروبي من خلال سياسة الأمن والدفاع المشتركة (CSDP)، فحتى الآن لا يوجد جيش أوروبي، واعتمدت أوروبا في تسوية النزاعات التي جرت في البوسنة وكرواتيا وكوسوفو على الدور الأميركي.

أقرت معاهدة لشبونة 2009 التصويت داخل مجلس الاتحاد الأوروبي وفق نظام الأغلبية المؤهل[1] (QMV) بدلا من الإجماع، واستهدف ذلك حث الدول الأعضاء على وضع مصالح الاتحاد الأوروبي فوق المصالح الوطنية. لكنّ احتفاظ كل دولة بحق النقض حال شعورها بتهديد مصالحها الوطنية عرقل إجراء أي تصويت في حال التلويح باستخدام حق النقض، وساهم ذلك في الحد من صلاحيات المفوضية الأوروبية. بينما بقي اتخاذ قرارات الاتحاد بالإجماع شرطا على الأخص في مجالات السياسة الخارجية، والدفاع، والقضايا التي تمس السيادة الوطنية.

تظهر مؤشرات للتردد الشعبي إزاء دعم مشروع التكامل. إذ رفض الشعب النرويجي مرتين الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ورفض الفرنسيون والهولنديون المعاهدة الدستورية الأوروبية عام 2005، الأمر الذي أحبط اعتماد دستور للاتحاد الأوروبي، واختار البريطانيون عام 2016 مغادرة الاتحاد الأوروبي. كما رفضت بعض دول الاتحاد استبدال اليورو بعملتها الوطنية مثل الدنمارك والسويد، في حين رفضت دول أخرى اتفاقية شينجن الخاصة بحرية التنقل عبر حدود الدول الأعضاء مثل بريطانيا وأيرلندا.

وقد كشفت الأزمة المالية عام 2008 النقاب عن نزاعات السيادة بين الدول الأعضاء. فالدول الغنية اشترطت على الدول المثقلة بالديون مثل اليونان شروطا تمثل تدخلا في السياسة الاقتصادية والاجتماعية، من قبيل خفض الإنفاق الحكومي وتحديد الميزانيات، وهو ما ساهم في تنامي الأصوات المطالبة باستعادة السيادة التي سلبها الاتحاد. كما أثارت موجات اللاجئين والهجرة الخطابات القومية والشعبوية المطالبة باستعادة السيادة الوطنية.

وبالمثل، سلطت جائحة كوفيد-19 الضوء على نقاط الضعف والقوة في نموذج التكامل الأوروبي. إذ بات واضحا أن “الدولة” ستظل لها سيادتها وأولوياتها، خاصة في حالة الطوارئ والأزمات التي تهدد أمنها القومي. وبينما بدت المواقف القومية غير قابلة للهزيمة، إلا أن الكتلة أظهرت جذوراً عميقة للاعتماد المتبادل داخل البنية الأوروبية، يتجلى من خلالها التكامل الأوروبي كواقع لا يقبل الجدل. وربما لم يكشف الوباء عن ضعف غير معروف في تكامل الاتحاد الأوروبي، لكنه كشف عن إمكانات ليس من السهل امتلاكها أو الاستفادة منها بشكل فردي من قبل معظم أعضاء الاتحاد.

مستقبل التكامل الأوروبي

حقق الاتحاد الأوروبي نجاحات اقتصادية، وساهم في توفير السلام بين الدول الأعضاء، لكنّ الهويات مازالت تمثل تحديا حقيقا للاعتبارات الاقتصادية التي قام عليها مشروع التكامل الأوروبي؛ وتظل للدولة القومية الكلمة الفصل في مواصلة مسيرة التكامل أو الانسحاب منها، وفي تحديد مداها.

كما أن اختلاف المصالح لكل دولة، وتباين حجم التأثير والانخراط في السياسة الدولية، يظل عائقا أمام تبني سياسة أوروبية خارجية موحدة (مثلا التباين بين المواقف فيما يخص حرب غزة)، مما يحد من مسيرة التكامل، ويؤطرها في مساحات لا تمس قضايا السياسة العليا.

إن شبح تكرار الانسحاب البريطاني من الاتحاد لا يمكن تجاهله؛ في ظل عدم تبلور نظرية متكاملة عن الشكل المنشود الذي ينبغي أن يصل إليه التكامل الأوروبي مستقبلا، وصعود التيارات اليمنية المتطرفة التي ترى أن الاتحاد الأوروبي لا يعكس الهوية القومية للدول الأعضاء به، خاصة في ظل نتائج الجماعات اليمينية المتطرفة المناهضة للمؤسسة في انتخابات البرلمان الأوروبي مؤخرا، خاصة حزب التجمع الوطني الفرنسي وحزب البديل من أجل ألمانيا، والتي تثير المخاوف من أنها قد تكتسب القدر الكافي من القوة بما يمكنها من تقويض الاتحاد الأوروبي من الداخل.

ومع هذا؛ فإن المجموعات اليمنية المتطرفة تفهم فوائد السوق الأوروبية المتكاملة، خاصة بعد خروج بريطانيا الذي كان مؤلما للغاية للمملكة المتحدة على الصعيد الاقتصادي. ولذلك؛ من المرجح أكثر أن الحركات الشعبوية في أوروبا لن تسعَ لإنهاء الاتحاد، وإنما سيعملون على تقليص سلطة المفوضية بشكل جذري، ليصبح رئيسها، على حد تعبير رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان، مجرد “موظف” للدول الأعضاء.

إن المخاوف المتعلقة بفقدان السيادة الوطنية، وغياب الإجماع حول وتيرة التكامل الأوروبي، والحاجة إلى حل وسط دائم بين الدول الأعضاء، تجعل صنع سياسة الاتحاد الأوروبي بشكل عام بطيئة وحذرة، وهو ما يقلص فعاليتها في عالم تتسارع فيه الأحداث. ولكن طالما ظل الاتحاد الأوروبي يحقق مصالح الدول الأعضاء الاقتصادية، دون المساس العميق بسيادتها وبمصالحها الخاصة، فسيظل يمثل عامل جذب يكفل الاستمرارية لتحقيق المصالح المشتركة للدول الأعضاء.

كيف يستفيد الشرق من تجربة التكامل الأوروبي؟

لا يوجد شيء قابل للحياة والمقاومة مثل “فكرة” أحسنت صياغتها. لذلك؛ فإن طرح أفكار تشدد على ضرورة وقف النزيف الداخلي والانقسامات والحروب البينية بين مكونات الأمة، يمثل خطوة ضرورية لتعميم الإيمان بمشروع التكامل.

يحتاج التكامل لإرادة سياسية حرة، وقيادات بعيدة النظر تبحث عن مصالح دولها وشعوبها.

يمثل العامل الدولي محفزا أو معيقا لمسيرة التكامل. لذلك؛ من المهم صياغة مشروع التكامل بما يحد من تعرضه لاستهداف القوى الدولية.

اعتماد مبدأ التكامل التدريجي دون حرق المراحل أو فرضها عنوة قبل توافر البيئة المهيئة لاستقبالها. ويتحقق هذا عبر البدء بالقضايا محل الاتفاق ولو كانت بسيطة، والتركيز على ما يكفل المصالح المشتركة وإن كانت محدودة، والتدرج في علاج القضايا الخلافية، مع وجود هامش واسع لكل دولة فيما يتعلق بتحقيق مصالحها.

من ملامح التدرج، إمكانية أن يبدأ التكامل بعدد محدود من الدول لتحقيق حالة نجاح تجتذب دولا أخرى للحاق بمشروع التكامل.

من ملامح التدرج أيضا، تحليل جوانب التكامل إلى عناصر أبسط. فمثلا، قد يكون التكامل الاقتصادي متعذرا في بدايته إن وضع على الطاولة كوحدة مغلقة، لكنّه قد يكون سهلا إن بحثنا داخله عن مجال اقتصادي بعينه (سلعة محددة مثلا، أو قطاع بعينه).


[1] – يتطلب اعتماد القرارات وفق نظام التصويت بالأغلبية المؤهلة موافقة 55% من الدول الأعضاء (على الأقل 15 دولة من أصل 27) والتي تمثل 65% على الأقل من إجمالي سكان الاتحاد الأوروبي.