الحدث
● دعا منسق السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي “جوزيب بوريل”، يوم الإثنين، 21 فبراير/شباط، الاتحاد لاتخاذ قرارات لوقف تفاقم “الأزمة الحرجة” في البوسنة، في أعقاب تصويت برلمان جمهورية “صربسكا” على إنشاء نظام قضائي مستقل عن النظام القانوني لدولة البوسنة والهرسك.
● تعاني البوسنة من أوضاع سياسية معقدة منذ نهاية الحرب، والتوقيع على اتفاق “دايتون” في منتصف التسعينيات، والذي ينص على أن الدولة تتشكل من كيانيين لكل منهما درجة عالية من الاستقلال، وهما اتحاد البوسنة والهرسك والذي يتألف غالبيته من مسلمي البوسنة، وجمهورية صربسكا والتي تتألف غالبيتها من الصرب الأرثوذكس، حيث يؤسس الاتفاق لسلطة مركزية تتشكل من مجلس رئاسي ثلاثي، يمثل مسلمي البوسنة والصرب والكروات، وبالرغم من نجاح اتفاق دايتون في وقف الحرب، فإنه لم يمهد الطريق لبناء دولة متماسكة، بسبب اعتماده لنظام سياسي يقوم على المحاصصة، تسبب في استمرار هيمنة الأحزاب القومية، التي دأبت على إشعال الانقسامات العرقية.
التحليل: البوسنة في حسابات الجغرافيا السياسية
- يتصاعد القلق مع الدعوات المتكررة التي يطلقها الزعيم القومي لصرب البوسنة “ميلوراد دوديك”، للتأكيد على استقلالية جمهورية صربسكا ورغبتها في الانفصال الكامل عن البوسنة والهرسك، حيث أعلن “دوديك” في منتصف العام الماضي عن مجموعة من الإجراءات التشريعية -(ما زالت غير ملزمة)- تهدف إلى انسحاب صرب البوسنة من مؤسسات الدولة، مثل القضاء وإدارة الضرائب والأجهزة الأمنية، والأخطر من ذلك هي تهديدات “دوديك” بإعادة تشكيل جيش جمهورية صربسكا، وهي تهديدات لا تؤكد فقط نواياه الجادة نحو الانفصال، ولكنها قد تمهد الطريق لعودة النزاع المسلح في منطقة تموج بالانقسامات العرقية والدينية.
- بالإضافة إلى مساعي “دوديك” منذ عقد لإضعاف مؤسسات الدولة، وإكساب جمهورية صربسكا مزيدا من الاستقلالية، ثمة أهداف أخرى يسعى إلى تحقيقها، أهمها تقليص الرقابة الدولية على البوسنة والهرسك من خلال تحييد فاعلية مكتب الممثل السامي، وهو الهيئة الدولية التي تشرف على تنفيذ اتفاق دايتون، والتي تمتلك صلاحية فرض القوانين، وعزل أصحاب المناصب السياسية، حيث يستهدف “دوديك” فرض سيطرته الكاملة على مؤسسات جمهورية صربسكا؛ ومن ثم الاتجاه نحو الانفصال عن البوسنة والهرسك، في نفس الوقت، تشكل الانتخابات الرئاسية في أكتوبر 2022 أحد الدوافع الرئيسية لخطوات دوديك، حيث يسعى الزعيم القومي للصرب إلى الحشد والتعبئة لصالح حزبه الذي مُني بخسائر كبيرة في الانتخابات المحلية في 2020.
تستند مخاوف تحول دعوات الانفصال من أزمة سياسية إلى نزاع مسلح، إلى عدة عوامل:
أولاً: انخفاض عدد القوات الدولية في البوسنة، إذ إن بعثة الاتحاد الأوروبي الحالية مكونة من 700 جندي فقط، وهي غير كافية لردع أي صراعات محتملة.
ثانياً: يتكون الجيش البوسني من ألوية متعددة الأعراق؛ ولكن تتشكل تلك الألوية من كتائب متجانسة عرقيا تشمل مسلمي البوسنة والصرب والكروات، وهو ما يسهل انفصالها عن الجيش في حال وجود أي نزاع عرقي.
ثالثاً: منذ عام 2018، اتجهت وحدات الشرطة في كل من اتحاد البوسنة والهرسك وجمهورية صربسكا إلى التسليح العسكري، مما قد يؤدي إلى اشتراك وحدات الشرطة في النزاعات المسلحة.
- لا تقف روسيا بعيدا عن المشهد السياسي، إذ تُقدّم موسكو دعمها الدبلوماسي والمالي لدعوات “دوديك” الانفصالية، ويأتي هذا الدعم في إطار الحرص الروسي على تعزيز الانقسام، وخلق حالة من عدم الاستقرار، للإبقاء على البوسنة والهرسك كبؤرة جيوسياسية قابلة للاشتعال في عمق أوروبا، ويمكن النظر أيضا إلى دور روسيا في البوسنة والهرسك في سياق أهدافها الجيوستراتيجية الأوسع، فيما يتعلق بقطع الطريق على انضمام دول شرق أوروبا للاتحاد الأوروبي وحلف الناتو.
- ظلت الاستراتيجية الأمريكية والأوروبية تجاه البوسنة والهرسك منذ نهاية الحرب قائمة على دعم وحدة البلاد، وهو هدف حيوي يرتبط بمخاوف الغرب من تحول غرب البلقان إلى منطقة اضطرابات وأزمات يمكنها أن تتمدد بسهولة إلى جنوب شرق أوروبا؛ ومن ثم تُحدث تغييرات عميقة داخل أوروبا وعلى المستوى الدولي، ومع تصاعد الأزمة الأوكرانية، فإن الغرب سيكون أكثر حرصا من أي وقت مضى على مواجهة الدعوات الانفصالية في شرق أوروبا ومنعها من عقد تحالفات مع روسيا، وهو ما يظهر في تلويح أمريكيّ بفرض عقوبات ضد “دوديك”.
إقرأ أيضاً:
قمة الناتو 2030 تطلق مواجهة مفتوحة بين الغرب والتحالف المضاد له
أزمة أوكرانيا.. مغامرة بوتين تضع أمن الطاقة الأوروبي على المحك
كيف سيبدأ الهجوم الروسي على أوكرانيا؟
- يمثل الحفاظ على الاستقرار في منطقة البلقان أحد ضرورات الأمن القومي التركي، لذلك؛ اتخذت أنقرة خطوات في السنوات الأخيرة لتقوية علاقاتها السياسية والأمنية والاقتصادية مع دول البلقان، وبينما يتنامى نفوذها الثقافي الناعم في البوسنة استنادا إلى إحياء روابطها التاريخية العرقية والدينية في المنطقة، فإنها ما زالت بعيدة اقتصاديا مقارنة بقوى غربية مثل ألمانيا، حيث تحتل الاستثمارات التركية في البوسنة المرتبة الـ13، كما جاءت الصادرات التركية إلىعام 2020 في المرتبة السادسة بحوالي 5.3٪ من إجمالي واردات البلاد، فيما استقبلت تركيا 3٪ من صادرات البوسنة لتحتل بذلك المرتبة السابعة، وبالعموم؛ إن تركيا هي رابع أكبر شريك تجاري مع البوسنة عام 2020، بنسبة 4.4٪، خلف الاتحاد الأوروبي (65.2٪)، وصربيا (11.1٪)، والصين (5٪). مع هذا، فإن ثمة فرصة لتركيا كي تمارس الآن دورا أكثر تأثيرا نظرا للانشغال الأوروبي والروسي، ومؤخرا؛ قال الرئيس “أردوغان”: إن أنقرة تسعى لاستضافة محادثات بين ممثلي الطوائف الثلاثة للبوسنة: الصرب والكروات والبوشناق، لتجنب تفكك البلاد.
- وإذا كان من المفهوم ترحيب البوشناق المسلمين بالدور التركي، إلا أن ترحيب الرئيس الصربي “ألكسندر فوسيتش” خلال مباحثاته مع “أردوغان” كان مفاجئا؛ حيث إن بلاده هي الراعي الأساسي لصرب البوسنة، وهذا يدفع للتساؤل حول مدى التزام بلغراد بدعم خطط انفصال جمهورية صربسكا، فربما تتخوف صربيا من أن تقويض التوازن الهش في البوسنة سيجدد عدم استقرار هائل في المنطقة بما يضر صربيا نفسها، كما لا تريد بلغراد أن تتحمل المسؤولية المالية عن استقلال جمهورية صربسكا التي ستحتاج إلى الاندماج مع صربيا، الأمر الذي سيمثل عبئًا لا يستطيع اقتصاد صربيا الهش تحمله، خاصة وأن هذا الإجراء يهدد بتداعيات سلبية على العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية في ظل التهديد بعقوبات أمريكية وأوروبية.