الحدث
● بدأت “الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي” -وهي قوات انفصالية تطالب بالحكم الذاتي لإقليم “تيغراي” (Tegray) في شمال إثيوبيا – بتسليم الأسلحة الثقيلة إلى الجيش الإثيوبي في 11 يناير/كانون الثاني الجاري، وشملت عملية التسليم دبابات ومدرعات ومدافع هاون ثقيلة ومدافع مضادة للدبابات وشاحنات أورال وسيارات محملة بالصواريخ. وفي نفس السياق، واصلت قوات إريتريا الانسحاب من إقليم تيغراي، حيث غادر عدد كبير من القوات بلدتي شيري وعدوة، يوم السبت 21 يناير/كانون أول، كما أكد سكان محليون مغادرتهم مدينة أكسوم المقدسة، وهي تطورات أشاد بها وزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكن” في اتصال مع رئيس وزراء إثيوبيا “آبي أحمر”.
● تأتي الخطوة بعد أن توصل الطرفان إلى اتفاق سلام في 2 نوفمبر/تشرين الثاني 2022، في بريتوريا عاصمة جنوب إفريقيا برعاية الاتحاد الأفريقي، يشمل الوقف الدائم للأعمال العدائية، ونزع سلاح الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، مع تسريح وإعادة دمج لقوات الجبهة في الجيش الإثيوبي، وكذلك انسحاب القوات الأجنبية، وحماية المدنيين وإيصال المساعدات الإنسانية.
التحليل
- تعود جذور الصراع في إقليم تيغراي إلى فترة حكم الإمبراطور الإثيوبي “هيلا سيلاسي” (1930-1974) حيث حاول الأخير أن يضع منطقة التيغراي -كانت تتمتع في ذلك الوقت بالحكم الذاتي إلى حد كبير- تحت سيطرة الحكومة المركزية من خلال تقسيم المنطقة الشمالية إلى ولايات صغيرة، مما أدى إلى اشتعال حركات التمرد أكثر من مرة داخل الإقليم، بينما واصل الحكام الإثيوبيون المتعاقبون بعد الإطاحة بـ”سيلاسي” محاولات إخضاع إقليم تيغراي للسيطرة المركزية، الأمر الذي أدى إلى انخراط إقليم تيغراي في حرب أهلية طويلة الأمد في سبعينيات وثمانينيات القرن المنصرم.
- تحولت سياسة الحكومة المركزية بعد وصول “ميليس زيناوي” للحكم في عام 1991، وهو أحد القادة المؤسسين للجبهة الشعبية لتحرير تيغراي؛ حيث وضع نموذج حكم فيدرالي يرتكز على الأساس العرقي، ومنح إقليم تيغراي مزيدا من الاستقلالية ونفوذا واسعا في أجهزة الحكم، ومع ذلك فاقمت انتهاكات الحكومات المتوالية والتمايز العرقي الذي مارسته من حدة العداء بين الأعراق المتعددة داخل إثيوبيا والذي بلغت ذروته مع وصول “أبي أحمد” (ينتمي إلى عرقية الأورومو) إلى رأس السلطة في عام 2018.
- اشتعل القتال مجدداً بين الحكومة المركزية وجبهة تحرير تيغراي في نوفمبر/تشرين الثاني 2020، عندما رفضت الأولى الاعتراف بحكومة محلية منتخبة حديثاً في إقليم تيغراي، وبعد نحو 18 شهر من الحرب أعلن الطرفين عن هدنة إنسانية في مارس/آذار 2022، والتي لم تستمر سوى عدة أشهر قبل أن تتجدد الاشتباكات مرة أخرى في أواخر أغسطس/آب 2022.
- منح اتفاق السلام “أبي أحمد” فرصة لتعزيز موقعه بصورة أعمق بعد ما اعتبر انتصاره العسكري والدبلوماسي، وسيساعد ذلك على استكمال أجندة الإصلاحات السياسية التي بدأها في وقت مبكر من فترة ولايته، والتي كانت تستهدف إنهاء الانقسامات السياسية والعرقية ولكنها تعطلت بسبب الحرب، بل إن الترحيب الدولي باتفاق السلام، الذي ترك أمورا عدة غامضة، يبدو أنه يستند بالأساس إلى الرهان على أن “آبي أحمد” ما زال مؤمنا بتحقيق السلام في بلاده.
- كذلك، سيساهم اتفاق السلام في تعزيز الثقة بين الجهات المانحة والشركاء الغربيين من جهة وبين الحكومة الإثيوبية من جهة أخرى، الأمر الذي سينعكس على زيادة فرص الدعم للاقتصاد الإثيوبي. وسيؤدي تقليل المخاطر الأمنية الناتج عن اتفاق السلام إلى جذب المزيد من الاستثمار الأجنبي إلى إثيوبيا، التي يعاني اقتصادها الكلي من مخاطر التعرض للانهيار على المدى القصير بسبب تكاليف الحرب الباهظة والارتفاع العالمي في أسعار الوقود والغذاء، وكذلك عبء الديون المتزايدة.
- ينظر البعض عن حق، إلى اتفاق السلام بين الطرفين على أنه يعد بمثابة تنازل من جبهة تحرير تيغـراي؛ حيث لا يشير إلى المطالب المتعلقة بالحكم الذاتي للإقليم، وهي نتيجة متوقعة في ظل التفوق العسكري الذي أظهرته قوات الحكومة الفيدرالية في ظل تلقيها دعما متنوعا من عدة أطراف بينها تركيا والإمارات، فضلا عن تدخل قوات إريتريا المباشر.
- وفي الوقت عينه يمنح الاتفاق جبهة تحرير تيغـراي فرصة الممارسة السياسية لتحقيق ما فشلت في الوصول إليه عسكرياً؛ إذ يسمح الدستور الحالي للجبهة بممارسة قدرا من الاستقلالية في إدارة إقليم تيغراي، ويبقى الخطر الرئيسي الذي يمكن أن يواجه الجبهة مرتبطا بانحسار قاعدتها الشعبية داخل الإقليم الذي يعاني من أوضاع معيشية بالغة السوء، لذلك؛ ستحرص الجبهة على الاستفادة من اتفاق السلام في عودة الخدمات الحيوية مثل الكهرباء والاتصالات والخدمات المصرفية، والأهم من ذلك؛ البدء في مشروعات إعادة الإعمار، والتي تشير التقديرات إلى أن تكلفتها في أجزاء كبيرة من شمال إثيوبيا قد تصل إلى 20 مليار دولار.
- يشكل تعدد الجهات الفاعلة في إقليم تيغراي -سواء المحلية أو الخارجية- والتي لديها مصالح متضاربة تحديا رئيسيا أمام تنفيذ اتفاق السلام واستمراريته:
- تأتي القوات الإريترية في مقدمة أصحاب المصالح؛ حيث كانت شريكة للقوات الإثيوبية في العملية العسكرية ضد مقاتلي تيغراي، ولكنها في الوقت نفسه ليست طرفاً في اتفاق السلام، وبالرغم أن القوات الإريترية انسحبت من بلدات رئيسية بعد توقيع اتفاق السلام، لكنها لا تزال تنخرط بشكل متقطع في القتال ضد مقاتلي تيغراي في مناطق أخرى من الإقليم، ويعزو ذلك السلوك إلى التخوفات الإريترية التي ترى وجود جبهة تحرير تيغـراي على طول الحدود الجنوبية لإريتريا يشكل تهديداً وجودياً للبلاد.
- تتواجد ميليشيا قبائل الأمهرة الإثيوبية في منطقة غرب تيغـراي الغنية بالمحاصيل الزراعية، والتي استولت عليها منذ بداية النزاع بعد أن تحالفت مع القوات الإثيوبية الفيدرالية، ويعود النزاع بين قبائل التيغـراي والأمهرة حول منطقة غرب تيغـراي إلى تسعينيات القرن الماضي، وتنظر جبهة تيغـراي إلى ميليشيا قبائل الأمهرة على أنها قوات أجنبية، وتصر على أن انسحابها يعد أحد المطالب الحاسمة للجبهة مقابل نزع كامل سلاحها.
- بصورة غير مباشرة ثمة أطراف خارجية مستفيدة مثل تركيا والإمارات اللتين دعمتا “آبي أحمد” بالسلاح، وجنوب إفريقيا التي لعبت دورا سياسيا في اتفاق السلام، بينما تواجه مصر المزيد من تآكل خياراتها في إثيوبيـا بعد أن كشفت تقارير عن دعمها لمقاتلي “تيغـراي” في أحد مراحل القتال، كما أن السودان سيكون عليه التبرؤ من الاتهامات بدعم “تيغـراي” لضمان تجنب التوتر الحدودي مع “آبي أحمد” الذي خرج من المعركة أكثر قوة.
خلاصة
- يعد تسليم الجبهة الشعبية لتحرير تيغـراي جزءً من أسلحتها الثقيلة خطوة بارزة في مسار استعادة السلام في إثيوبيا، ومن المرجح أن يرتبط التقدم في نزع سلاح الجبهة بوتيرة انسحاب القوات الأجنبية من إقليم تيغراي، أي أن تباطؤ القوات الإريترية وميليشيا قبائل الأمهرة في الانسحاب من تيغـراي يمكن أن يتسبب في استئناف الأعمال العدائية وانهيار اتفاق السلام، ويظل الرهان على مدى التزام “آبي أحمد” بمسار تحقيق السلام عاملا جوهريا لضمان تجاوز العقبات وتجنب الاحتكام للقوة العسكرية الشاملة.
- بالرغم من أن التدابير التي تم اتخاذها من القوات الإثيوبية ومقاتلي تيغـراي منذ توقيع اتفاق السلام تشير إلى منحى إيجابي لاستمرار الاتفاق على المدى القصير، إلا أن انعدام الثقة الناتج من التاريخ الطويل للنزاع بين الجانبين، وتعدد الجهات الفاعلة الداخلية والخارجية في إقليم تيغـراي، يمكن أن يؤدي إلى تجدد الصراع على المدى الطويل، خاصة وأن التنازلات التي قبلت بها جبهة تحرير تيغـراي لا شك أنها ليست محل إجماع داخل الجبهة، وأن هناك من قياداتها من يرغب في استئناف القتال.
- يظل الوضع الاقتصادي لإثيوبيا نقطة حاسمة فيما يتعلق بتعزيز عملية السلام في البلاد، حيث إن استمرار تفاقم أزمة الاقتصاد الكلي لا ينعكس فقط على عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي في إثيوبيا؛ ولكنه أيضا يعرض الخطوات التي تم اتخاذها نحو تعزيز السلام إلى مخاطر الانتكاس لأنها يُنتظر أن تنعكس على الأوضاع الإنسانية المتدهورة والبنية التحتية المدمرة، ومن ثم فإن تحرر إثيوبيا من القيود التي تحد من ممارسة دورها التقليدي كقوة مهيمنة في القرن الإفريقي مازال أمامه الكثير من الوقت والتحديات.