الخبر
في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2024 دخل حيز التنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار بين حزب الله اللبناني وجيش الاحتلال الإسرائيلي بعد شهور من عمليات عسكرية متبادلة بسبب إسناد حزب الله لجبهة غزة بعد عملية طوفان الأقصى. واستند الاتفاق إلى تجديد التزام الحكومة اللبنانية والاحتلال الإسرائيلي بالتطبيق الكامل للقرار الأممي 1701 الذي أنهى الحرب عام 2006. وبناء على ذلك؛ سينسحب جيش الاحتلال من جنوب لبنان في أجل لا يتعدى 60 يوما، مقابل انتشار نحو 5 آلاف من قوات الجيش اللبناني جنوب نهر الليطاني بما يشمل 33 موقعا على الحدود مع الأراضي المحتلة. في حين، ينسحب حزب الله إلى شمال نهر الليطاني، الذي يبعد نحو 30 كيلومترا شمالي الحدود. ونص الاتفاق على حق لبنان و”إسرائيل” في الدفاع عن النفس. وسوف تشرف على مراقبة تنفيذ الاتفاق آلية ثلاثية قائمة مسبقا بين قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (اليونيفيل) والجيش اللبناني وجيش الاحتلال الإسرائيلي، مع توسيعها لتشمل الولايات المتحدة وفرنسا، وسترأس واشنطن هذه المجموعة.
التحليل: اتفاق هش لكنّ رغبة الأطراف في وقف إطلاق النار جعلته ممكنا
رغم هشاشة الاتفاق ووجود العديد من الثغرات الكفيلة بانهيار الهدنة، فإن رغبة الجانبين في وقف الحرب ستظل هي الضامن الحقيقي لعدم تجدد القتال وليس أي نصوص مكتوبة. ولذلك؛ من المرجح أن يحافظ الطرفان على الهدنة القائمة والتي ستتحول مع الوقت لتهدئة مفتوحة، إلا إذا اندلعت مواجهة إيرانية إسرائيلية مباشرة، حينها سيكون من المحتمل أكثر أن يعيد حزب الله استهداف “إسرائيل”.
يشير الاتفاق إلى تراجع واضح من قبل الجانبين عن أهداف سبق التأكيد عليها والتمسك بها. لكنّ حزب الله يبدو أكثر تراجعا خاصة أن الاتفاق يعني نجاح نتنياهو في هدف أساسي هو فصل الحرب في لبنان عن الحرب في غزة، وهو ما سبق أن رفضه الحزب في أكثر من مناسبة، وقدم ثمنا باهظا دفاعا عن هذا الموقف، خاصة اغتيال أمينه العام السيد حسن نصر الله.
كما أن انسحاب الحزب من جنوب الليطاني يعني تحييد جزء رئيسي من منظومة صواريخه التقليدية التي لا يتجاوز مداها عدة كيلومترات والتي كانت تمثل تهديدا لمستوطنات شمال الاحتلال. وفي تفاصيل الاتفاق نفسه، تراجع الحزب عن رفضه رئاسة الولايات المتحدة للجنة مراقبة تنفيذ الاتفاق، ما يمنح الانتهاكات الإسرائيلية المحتملة غطاءً، كما يضع مزيدا من الضغوط على الجيش اللبناني لتنفيذ التزامات إخلاء جنوب الليطاني من التواجد المسلح لحزب الله.
ما يهمنا في النظر لهذا التراجع هو وضعه في سياق مغزاه الجيوسياسي الأوسع، والمتمثل في شعور إيران بالتهديد الذي يتعرض له نفوذها الإقليمي الذي بنته طوال العقد الماضي، فضلا عن التهديد للداخل الإيراني نفسه إذا تعرض لهجوم واسع من قبل الولايات المتحدة و”إسرائيل”.
ومن ثم فإن طهران تعمل بجدية لاحتواء التصعيد الراهن. أي إن تراجع حزب الله لا تكمن أهميته فقط في معادلة الحرب اللبنانية الإسرائيلية، ولكنّه يشير في الصورة الأوسع للضعف النسبي الذي لحق المحور الإيراني نتيجة الدعم والحماية الأمريكية لإسرائيل وعملياتها العسكرية في عموم المنطقة. ولا شك أن فوز ترامب يعزز من اتجاه إيران للتهدئة، والسعي من أجل التوصل لتفاهمات مع الولايات المتحدة بهدف احتواء التصعيد.
التراجع الإسرائيلي الأساسي هو التخلي عن هدف تدمير قدرات حزب الله والحد من قدرته على استهداف العمق الإسرائيلي، وتبني نهج بديل يقوم على محاصرة حزب الله واحتوائه. أي إن نتنياهو اضطر للقبول بنهج تجاه حزب الله سبق أن رفض مثله إزاء التعامل مع حماس في غزة، وهو تعهد خطوات منسقة وطويلة الأجل لمحاصرة الحزب والإبقاء على تهديده في الحد الأدنى وصولاً إلى إضعافه بصورة استراتيجية مع الوقت.
يشمل ذلك قطع خطوط إمداده المالية والعسكرية، وتضييق الخناق عليه محلياً سياسياً وأمنياً، وزيادة قدرات الأجهزة الأمنية والعسكرية اللبنانية لإحكام الخناق على المطارات والموانئ والحدود، فضلا عن مراقبة تحركات الحزب وأنشطته وبنيته العسكرية.
لن يكون من المستبعد أن تواصل “إسرائيل” استهداف بنية الحزب بضربات نوعية، حتى لو عد هذا انتهاكا للاتفاق، إذ تتيح بعض الصياغات الغامضة للجانبين تبرير انتهاك الاتفاق دون أن يؤدي ذلك بالضرورة لانهياره، إذ تضمن الاتفاق نصوصا تحفظ حق لبنان و”إسرائيل” في الدفاع عن النفس.
وما يعزز من احتمال تواصل الضربات النوعية، أن الهجمات الإسرائيلية على الحزب ألحقت ضررا فادحا بقيادته، وأربكت منظومته الداخلية، لكنّ هذه تظل خسائر مؤقتة سيتمكن الحزب من التعافي منها. أما قدراته العسكرية، فالراجح أن الدعاية الإسرائيلية تتسم بالمبالغة إزاء حجم الضرر الذي نجحت في إلحاقه بحزب الله، ومن المؤكد أن الحزب ما زال يمتلك منظومة صاروخية أكثر تقدما مما استخدمت بصورة عامة خلال الحرب، ومن ثم فإن قدرته على استهداف العمق الإسرائيلي ما زالت قائمة، رغم انسحابه لشمال الليطاني. بالإضافة لذلك، فإن الوعود بأن الحرب ستنهي نفوذ حزب الله السياسي في المعادلة اللبنانية بات واضحا أنها مجرد أماني لم تتجسد في الواقع بأي قدر معتبر.
لذلك؛ لا يمثل وقف إطلاق النار نهاية استهداف حزب الله؛ فبالإضافة لجهود ملاحقة بنيته العسكرية والمالية في الداخل، ستركز الولايات المتحدة و”إسرائيل” على إضعاف إيران في سوريا لقطع طريق الإمداد الإيراني، لأنه بدون قطع هذا الطريق اللوجيستي سيكون تعافي حزب الله، بل وتطوير قدراته، مسألة وقت.
ومن المرجح أن تواصل إدارة ترامب نفس هذه الخطط. ولا شك أن هذا هدف إضعاف إيران في سوريا يتقاطع مع رغبة عربية كبيرة (مصر والسعودية والإمارات والأردن)، فضلا عن مصلحة تركيا في ذلك. لذلك؛ ينبغي عدم استبعاد تجاوب بشار الأسد لاغتنام الظرف من أجل إعادة تموضع إقليمي وتأهيل سياسي واقتصادي سخي، خاصة وأن لديه مصلحة في الحد من الهيمنة الإيرانية على نظام حكمه، دون أن يعني هذا قدرته على فك الارتباط بصورة كاملة عن إيران.