يقع مقر وكالة الاستخبارات المركزية في لانغلي بولاية فرجينيا ويبعُد 20 دقيقة عن البيت الأبيض شرقاً، وعلى بعد 70 دقيقة في الجنوب الغربي يقع مركز بيانات سويفت الذي يُسجل المعاملات الدولية العابرة للحدود، وتُمثّل القوة المالية الأمريكية سلاحاً جيوسياسياً رئيسياً منذ 1944ويُعَدُّ الدولار الأمريكي العنصر الأساسي.
يجري تسعير السلع الحيوية مثل الهيدروكربونات والمعادن النفيسة بالدولار، كما تستطيع واشنطن تجميد أعدائها باستخدام العقوبات الأحادية عن طريق التحكم في تدفقات المال العالمية والإشراف على معاملات دولية سنوية بقيمة كوادريليون دولار.
وهنا تكمن المشكلة تحديداً إذ تنظر العديد من الدول إلى هيمنة الدولار اليوم باعتبارها إحدى بقايا السيادة الأمريكية وتسعى بالتبعية إلى تطوير بنى تحتية مالية بديلة، وتتمحور غالبية تلك البنى التحتية حول الصين التي تُعدُّ الاقتصاد الوحيد القوي بما يكفي لموازنة نفوذ الولايات المتحدة، بينما تتوسع جهود إلغاء الدولرة بسرعة عبر الترتيبات الثنائية والمؤسسية متعددة الأطراف.
منصة أسباب وبالشراكة مع Caspian Report، تشرح لكم في هذا الفيديو كيف تخطط الصين لإزاحة الدولار عن عرشه؟
يمنح المال سلطة قيادة الآخرين وباعتباره منظومةً اجتماعية، فقد ارتبط المال بالمعادن النفيسة تاريخياً، لكن العملات المعدنية كانت عرضةً للخدش والتآكل والغش، لهذا لم تكن قوتها الاجتماعية تنبع من معدنها، بل من سوق الدولة التي تصكها.
كيف تمثّل القوة المالية الأمريكية سلاحا جيوسياسيا؟
تركّزت القوة النقدية داخل الولايات المتحدة منذ عام 1944، فبعد تمزيق أوروبا الغربية وسقوط الشرقية وراء الستار الحديدي:
- استغلت واشنطن سلطة الدائنين لاختراق التكتلات التجارية الاستعمارية لبريطانيا وفرنسا.
- استندت قروض إعادة الإعمار بعد الحرب على استيراد الأغذية والمصنوعات الأمريكية مع منح واشنطن سلطة الفيتو داخل مؤسسات الإقراض ومنها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
- حافظ على استقرار الأوضاع نظام أسعار الصرف الثابتة القابلة للتبديل بالذهب.
وربما تمتعت واشنطن بفائض تجاري كبير في البداية، لكن نفقات الناتو والتعزيزات العسكرية في كوريا وفيتنام صبغتا ميزان مدفوعاتها الدولية باللون الأحمر، وبحلول عام 1964، صار عجز المدفوعات الأمريكية مرتبطاً بنفقاتها العسكرية الخارجية حصراً، لكن واشنطن عجزت عن التراجع بعد أن تكونت أطراف لها مصالحها الخاصة وفي ظل الإصرار على أن تلك النفقات ضرورية للأمن القومي.
بينما أخفقت قابلية التحويل بالتزامن مع استبدال حلفاء أمريكا للذهب بالدولار، وسرعان ما تجاوز حجم الدولارات المتداولة الحد القانوني الذي كان يساوي أربعة أضعاف مخزون واشنطن من الذهب.
خفض قيمة الدولار الأمريكي في 1971
وبعد استنفاد كل السبل المتاحة للحفاظ على استقرار قابلية التحويل خرجت إدارة نيكسون في أغسطس/آب 1971 لتُعلن التخلي عن معيار الذهب وخفض قيمة الدولار بنسبة 10%، وحققت واشنطن ضربة معلم جيوسياسية كبيرة عندما فعلت ذلك.
- لم تعد البنوك المركزية الأجنبية تستطيع مراقبة الولايات المتحدة عن طريق استبدال الذهب بالدولار.
- صارت عاجزةً عن إنكار شرعية الدولار، لأن خطوة كتلك ستجعل حيازاتها الدولارية الضخمة عديمة القيمة، وقد كانت أسهم شركات أمريكا شديدة المخاطرة بينما كانت عقاراتها غير سائلةٍ بما يكفي.
- أصبح خيار البنوك المركزية الأجنبية الوحيد هو إعادة تدوير دولاراتها بشراء سندات الخزانة الأمريكية ذات الفوائد.
وكان عدم فعل ذلك سيؤدي إلى زيادة المعروض من الدولار أيضاً مما سيمنح الشركات الأمريكية أسعاراً منخفضة تنافسية في مواجهة الصناعة الأوروبية، ولهذا لم يكن أمام حلفاء واشنطن مفر من قبول هيمنة الدولار، فتحول الدولار بذلك إلى مشكلة عالمية.
واتجهت واشنطن إلى الإنفاق العسكري الخارجي بلا قيود بعد فك ارتباطها بالذهب، حيث كانت الدولارات المرسلة للخارج تُحوّل إلى العملة المحلية حتى تتدفق إلى البنوك المركزية الأجنبية قبل أن تعود إلى الولايات المتحدة في صورة مشتريات لسندات الخزانة.
ولم يكن هناك حد أقصى لذلك التدفق الدائري الجديد نظرياً، ويُمكن القول إن التمديد الدائم للديون الأمريكية كان أشبه بالمساعدات العسكرية فعلياً، حيث نجح الخبراء الاستراتيجيون الأمريكيون في تطويق روسيا والصين بـ800 قاعدة عسكرية لأنهم كانوا يدركون أن الأموال التي أنفقوها ستعود إلى أرض الوطن في النهاية.
بينما أدى الخوف من الانهيار النقدي العالمي إلى منع الدول الأخرى من تحدي الولايات المتحدة، أي إن وضعية الدائن التي تمتعت بها الولايات المتحدة عززت النفوذ الأمريكي. كما أن قدرتها على طباعة الدولار أعفتها من قواعد التقشف التي تفرضها على الدول الأخرى المدينة بالدولار عبر صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
وجاء الاتفاق المبرم مع السعودية عام 1974 ليُعزز ذلك النفوذ أكثر. إذ وافقت الرياض بموجبه على بيع النفط بالدولار وإعادة استثمار الأرباح في سندات الخزانة الأمريكية إلى جانب الهيمنة الزراعية الأمريكية لتجد أن العقوبات الدولارية الأحادية يمكنها حرمان القوى المعادية من واردات الغذاء والطاقة.
نظام اقتصادي عالمي جديد
ومن المنطقي أن يرى الخصوم الجيوسياسيون هذه المنظومة غير عادلة، فضغطوا في المقابل لإقامة نظام اقتصادي عالمي جديد رغم افتقارهم إلى القوة الصلبة اللازمة لتحقيقه. لكن المفارقة تكمن في أن الشركات الأمريكية هي التي فتحت الباب أمام إلغاء الدولرة عندما نقلت عمليات إنتاجها إلى الصين بحثاً عن أجور أقل.
وقد خلطت واشنطن بين المال وبين الثروة الوطنية عندما شهدت ارتفاع معدلات الأرباح، لكن ثروة الأمم الحقيقية تتمثل في قدرتها الإنتاجية. ومع استغناء أمريكا الشمالية عن الصناعة سنجد أن اعتماد واشنطن المتزايد على الاستيراد والتطور الصناعي الصيني قد تحوّلا إلى نقطة احتكاك جيوسياسي. وأصبحت بكين تخشى تمويل جهود تطويقها بنفسها عبر شراء سندات الخزانة، لكن تعرضها لمنظومة الدولار أبقى عليها في وضعية توازن غير مريح.
ويرجع ذلك لأسبابٍ منها أنها تستحوذ على تريليون دولار من الديون الأمريكية،بينما يرجع الفضل إلى شركاء الصين في دفع محفزات إلغاء الدولرة.
- ارتفعت العقوبات الأمريكية بنسبة 900% منذ عام 2000 بعد تصعيدها إثر ضم روسيا للقرم وتوسيعها لتشمل شركات التقنية الصينية مثل هواوي.
- ابتلعت غالبية الاقتصادات الكبرى تلك التدابير في البداية.
- تجميد الأصول السيادية الإيرانية والفنزويلية والأفغانية مثّل بداية العاصفة التي هبّت عام 2022، عندما صادرت واشنطن 300 مليار دولار من الأصول الروسية واقترحت مراجعة القانون الأمريكي لتوزيع تلك الأموال على جهود إعادة إعمار أوكرانيا.
وكان هذا القرار هو السبب الرئيسي لإنهاء هيمنة الدولار. ويحق لواشنطن أن تكره الهجوم الروسي على أوكرانيا، لكن الحقيقة المرة تقول إن الدول لن تتعامل مصرفياً مع دولةٍ تصادر الأصول الأجنبية.
أنظمةً بديلة لسويفت في العالم
وبينما يتنبأ العديدون بصراع صيني-أمريكي عما قريب فسنجد أن جهود إلغاء الدولرة المتأخرة من بكين تستهدف اجتناب العقوبات روسية الطابع، أي إن الصفقات الثنائية ومتعددة الأطراف تُتيح للصين إدارة انفصالها عن الدولار حالياً مع مد شريان حياة اقتصادي إلى دول مثل روسيا وإيران.
ويمنح هذا الأمر العديد من الدول الأصغر الضوء الأخضر لتحذو حذوها وهي حقيقة تقر بها وزارة الخزانة الأمريكية نفسها. وتنخفض احتياطيات الدولار في البنوك المركزية نسبياً، بينما تبني روسيا والصين والهند والاتحاد الأوروبي أنظمةً بديلة لسويفت.
- نظام تحويل الرسائل المالية
- نظام المدفوعات بين البنوك عبر الحدود واينستكس
- نظام الرسائل المالية المنظم
اتفاقات عالمية بالعملة الصينية
- أبرمت بكين مثلاً صفقة تبادل عملات مع الأرجنتين بقيمة 130 مليار يوان أي ما يعادل 19 مليار دولار، مما سيجمد احتياطيات الدولار الخاصة بالأرجنتين لسداد قروضها لصندوق النقد الدولي.
- توسطت الصين لإبرام اتفاق بين إيران والسعودية، مما يمنحها ثقلاً دبلوماسياً يوازي قوتها الشرائية كأكبر مستورد عالمي للنفط والبتروكيماويات.
- تدرس الرياض بيع نفطها بالعملة الصينية اليوم.
- بدأت قطر في تسوية مشتريات غازها الطبيعي باليوان فعلياً
وقد تنتشر تلك الترتيبات بين مجموعات مثل أوبك ومنظمة شنغهاي للتعاون بمرور الوقت، إذ تمثل الأولى نحو 44% من إنتاج النفط العالمي. فيما تُشكّل الثانية خُمس إجمالي الناتج المحلي العالمي، لكن بريكس تُعَدُّ المنظمة الأبرز في هذا الصدد. حيث تضم نحو خمسي سكان العالم، وربع الناتج المحلي الإجمالي، و16% من التجارة العالمية، فضلاً عن أن بريكس أعلنت التزامها العلني بجهود إلغاء الدولرة.
محور الصين والبرازيل
ويحظى محور الصين والبرازيل بأهمية خاصة، إذ إن مكانة البرازيل كدولة منتجة للسلع جعلت حجم تجارتها مع الصين يتجاوز الـ150 مليار دولار في 2022.
- في مارس/آذار 2023، اتفق البلدان على إجراء المعاملات التجارية بعملتيهما المحليتين
- يخططان لتوظيف بنك التنمية الجديد من أجل تقديم ثلث قروضه بالعملات المحلية، مما سيسهل عمليات سداد الديون أكثر، ولا شك أنه أكثر برامج إلغاء الدولرة طموحاً حتى الآن
وهناك 19 دولة تتطلع للانضمام إلى بريكس بالفعل منها الأرجنتين ومصر وإندونيسيا. أما التطورات الأخرى مثل عملات البنك المركزي الرقمية، فقد تخلق شبكات مدفوعات موازية بعيدة عن تأثير الدولار، لكن الذهب سيكون الملاذ المناسب لسد الفجوة النقدية على الأرجح.
إذ بدأت بكين تنأى بنفسها عن شراء سندات الخزانة حالياً مع الاتجاه إلى بناء مخزونها من الذهب. وقد تراكمت أكثر من 1800 طن حتى أبريل/نيسان 2023 ولا شك أن التركيز على الذهب يُلمح إلى شيء أكثر عمومية.
إذ تنظم الصين الائتمان باعتباره منفعةً عامة وتستخدمه بشكلٍ انتقائي لخدمة الأغراض التنموية، والسياسية، والاستراتيجية، لكن إغراق العالم باليوان سيجعل السياسة الصينية رهينةً للأولويات المتنافسة وهو الأمر الذي لن تقبله بكين. أي إن انتشار اليوان سيأكل من حصة الدولار، لكنه لن يحل محله كعملةٍ عالمية، ولا شك أن أوامر بيع وشراء العملات تعكس موازين القوى.
وقد دخلنا عصر الأقطاب المتعددة بالفعل، ما يعني أن نظام العملات متعدد الأقطاب ليس ببعيد ولن يختفي الدولار الأمريكي ببساطة، لكن امتيازاته المفرطة بدأت تتضاءل ما سيحد من فرص استخدامه كسلاحٍ اقتصادي، وسيُحوّل أعباء النفقات العسكرية الأمريكية إلى كاهل قاعدتها الضريبية.
إقرأ أيضاً:
✚ تخلي الصين والبرازيل عن الدولار في تعاملاتهما البينية… ماذا يعني؟
✚ المعادن الحرجة في أفريقيا وصراع أمريكا والصين لاحتكارها
✚ هل اقترب الصراع بين أمريكا والصين؟
✚ مسارات التنافس الدولي بين الولايات المتحدة والصين وروسيا