الحدث
وصل وزير الخارجية الروسي إلى تركيا مساء الأربعاء في أول محطة خارجية له منذ بدء العملية العسكرية في أوكرانيا 24 فبراير/شباط الماضي، جاء هذا بعد أن أعلن وزير الخارجية التركي “مولود تشاووش أوغلو”، عن اجتماع ثلاثي يضم وزراء خارجية تركيا وأوكرانيا وروسيا، في 10 مارس/ آذار على هامش منتدى أنطاليا الدبلوماسي، بهدف مناقشة وقف إطلاق النار، ومعالجة المشكلات الإنسانية، وفي نفس السياق، قال الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان”، في اجتماع للكتلة النيابية للحزب الحاكم في أنقرة: إن بلاده ستواصل مساعيها الدبلوماسية الرامية إلى حل الأزمة الأوكرانية، وعلى الرغم من تشديده على عدم ترك الشعب الأوكراني وحيدا، انتقد “أردوغان” ممارسات الدول الغربية حيال روسيا وشعبها وفنّها وثقافتها وطلابها، مشبها إياها “بمطاردة الساحرات”.
التحليل: كيف نفهم اجتماع أنطاليا في سياق رؤية تركيا للحرب في أوكرانيا؟
- أيدت تركيا بشدة وحدة أراضي أوكرانيا ونددت بالغزو العسكري الروسي في البلاد، وصوتت لصالح قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي يطالب بإنهاء العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا في 2 مارس/آذار، لكنها، وبخلاف الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي، أعلنت عدم وجود نية لفرض عقوبات ضد روسيا، أي أن موقف أنقرة هو دعم كييف بصورة واضحة، ولكن دون قطع العلاقات مع موسكو أو الصدام معها. وحتى مسألة تطبيقها لاتفاقية مونترو فإنها سعت لأن يكون التزاما بصريح نصوص الاتفاق وبشكل متوازن بين أطراف الصراع.
- في الواقع لا توجد توقعات مرتفعة حيال نتيجة لقاء أنطاليا، وليس من المؤكد بعد أن مسار أنطاليا سيكون هو المسار الأساسي للتفاوض بين الجانبين الروسي والأوكراني. لكنّ تركيا أرادت بترتيب هذا اللقاء التأكيد على تمسكها بموقفٍ لا يتماهى تماما مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، على الرغم من أنها تقف بوضوح في المعسكر المضاد للغزو الروسي، ليس فقط على المستوى السياسي، ولكن بصورة ميدانية من خلال الدعم العسكري واللوجيستي الذي وفرته لأوكرانيا، يبدو هذا الموقف امتدادا لسياسة تركيا المعقدة بين روسيا والغرب خلال السنوات الماضية، والذي تطور بصورة أساسية نتيجة تقدير تركيا أن أوروبا والولايات المتحدة لن يوفروا لها الدعم اللازم في سوريا، ولا يقدرون اعتباراتها الأمنية، وهو ما جعل التفاهم مع روسيا ضرورة استراتيجية في سوريا، رغم التنافس الجيوسياسي الواسع بين أنقرة وموسكو الممتد من البلقان إلى آسيا الوسطى.
- تضع تركيا في اعتبارها مصالح يتطلب المحافظة عليها تجنب الصدام المباشر مع روسيا، أهمها المخاوف بشأن الاعتماد على الطاقة والضغوط الاقتصادية المتوقعة؛ حيث لا تزود روسيا تركيا بنحو ثلث احتياجاتها من الغاز الطبيعي فحسب، بل تزودها أيضًا بأكثر من خمسة ملايين سائح سنويًا، كما استثمرت موسكو في مشاريع طاقة تركية ضخمة، خاصة محطة أكويو النووية في مرسين وخط أنابيب ترك ستريم، الذي ينقل الغاز الطبيعي إلى تركيا وأوروبا. إضافة لاتفاقيات شراء منظومة صواريخ “إس 400” الروسية ب 2.5 مليار دولار.
- كذلك؛ فإن الحسابات الاستراتيجية في سوريا تتطلب عدم المخاطرة بانهيار التفاهمات الهشة مع روسيا، حيث تظل أولوية أنقرة الاستراتيجية هي منع حزب العمال الكردستاني، والجماعات المرتبطة به مثل وحدات حماية الشعب الكردية، من أي توسع في شمال شرق سوريا، وهو أمر يمكن أن تؤثر عليه روسيا في حالة حدوث نزاع خطير مع تركيا، بالإضافة إلى ذلك، فإن تركيا وروسيا تربطهما ترتيبات مشتركة في أذربيجان وليبيا قبل مؤتمر أنطاليا، لا تتصرف تركيا كمجرد انعكاس لمواقف الولايات المتحدة وقوى أوروبا، ومن ثم لن تخاطر بهذه المصالح الجيوسياسية الحيوية، خاصة وأنها لا تثق كفاية في حلفائها الغربيين الذين قد يعقدون تفاهمات مع روسيا منفردين، ومتجاهلين لمصالحها.
إقرأ أيضاً:
من الاقتصاد والثقافة إلى الأمن والتسليح.. نضوج النفوذ التركي في أفريقيا
تركيا من القوة الناعمة إلى الصارمة.. كيف غيّرت من نهج سياستها الخارجية؟
تركيا وطالبان: حسابات جيوسياسية أوسع من مطار كابول
- لكنّ تجنب الغضب الروسي يبدو بالغ الصعوبة في ظل استمرار الدعم العسكري التركي لأوكرانيا. فخلال الأسابيع القليلة الماضية، عملت المخابرات التركية، MIT، بهدوء مع أجهزة الأمن الأوكرانية للإشراف على توريد الخوذ ومعدات الحماية الأخرى، والحقيقة أن تركيا كانت حاضرة ميدانيا منذ بدء التصعيد بين الجيش الأوكراني والانفصاليين في الشرق الأوكراني (جمهورية دونيتسك الشعبية المعلنة من طرف واحد) حيث استخدم الجيش الأوكراني طائرات بدون طيار التركية لقصف الانفصاليين في أكتوبر/تشرين أول الماضي، وهو ما أثارة حفيظة روسيا، وكان وزير الدفاع الأوكراني أوليكسي ريزنيكوف قد أعلن في وقت سابق عن طلب المزيد من طائرات بيرقدار تي بي 2 (Bayraktar TB2) بدون طيار من شركة بايكار ماكينا Baykar Makina التركية، لتضاف إلى 20 طائرة تم تسليمها بالفعل، والأهم من ذلك، فإن الشركة تعمل بالفعل على إنشاء مركز تنسيق لصيانة وإصلاح وتحديث الطائرات بدون طيار، وكذلك تدريب الأفراد العسكريين بالقرب من فاسيلكيف، في ضواحي كييف، كما طلبت كييف من تركيا أربعة زوارق سريعة من نوع Milgem، وهي جزء من برنامج ترعاه البحرية التركية وشركتي أسيلسان Aselsan وهافيلسان Havelsan، وسيتم تصنيعها في أحواض بناء السفن الأوكرانية.
- وإذا كان تجنب الصدام مع روسيا سببه الحفاظ على مصالح حيوية لتركيا؛ فإن دعم أوكرانيا لا يقل أهمية من وجهة نظر جيوسياسية. فمنذ ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، أدركت تركيا أن ميزان القوى في البحر الأسود بات مهددا، ومن ثم رفضت تركيا دائما هذه الخطوة ونددت بها، وزادت في إثرها من شراكتها العسكرية مع أوكرانيا لتعزيز دفاعاتها في مواجهة مساعي الهيمنة الروسية عليها. ومن المعلوم أن الدول التي تطل على البحر الأسود تشمل، بالإضافة إلى روسيا، ثلاث أعضاء في الناتو: تركيا ورومانيا وبلغاريا؛ ودولتان من خارج الناتو: أوكرانيا وجورجيا. في 2008 انتزعت روسيا أبخازيا من جورجيا، وفي 2014 انتزعت القرم من أوكرانيا. وإذا سيطرت روسيا على أوكرانيا سيكون توازن القوى في البحر الأسود قد انهار تماما من وجهة نظر تركيا لمصلحة روسيا.
- يزيد من تعقيد الموقف التركي في أنطاليا أنه في حال طالت الحرب، وهو احتمال لا يبدو مستبعدا على الإطلاق، فإن أنقرة ستجد نفسها في وضع أكثر صعوبة للاستمرار في تجنب الصدام مع روسيا، وقد أغلقت كافة دول أوروبا، بما فيها سويسرا المحايدة، مجالها الجوي في وجه الطيران الروسي، وهو مؤشر على أن هامش المناورة المتاح لتركيا سيضيق مع الوقت، وستكون مطالبة من قبل حلفائها في الناتو في إثبات مكانتها كقوة وازنة في البحر الأسود في مواجهة روسيا، وسيتطلب هذا قرار تركيا صعبا، لكنّه أيضا سيتطلب التزاما واضحا من الولايات المتحدة والناتو تجاه تركيا ومصالحها المهددة، أي أن واحدا من تداعيات الحرب غير المخطط لها هي احتمالية أن الهوة المتزايدة بين تركيا والغرب خلال السنوات الماضية قد يعاد ترميمها على أساس الجغرافيا السياسية القديمة للحرب الباردة.