كيف صعدت قوة بريطانيا بعد انحسار الإمبراطورية السابقة؟

تُعد بريطانيا كالقلعة لكنها ليست مُحصَّنةً بالأحجار الطينية، بل بالأمواج البحرية، إذ تُحيطها الخنادق المائية الطبيعية التي ساعدتها على الصمود أمام العديد من الغزاة. وبمجرد توحيد الجزر، منحت جغرافيتها موقعاً لا مثيل له تقريباً.

حيث أنها بعيدة عن القارة الأوروبية بما يكفي لحمايتها لكنها قريبة بما يكفي للمشاركة في التجارة والسياسة، كما يتميز مناخها بالاعتدال أيضاً، فهو ليس شديد الحرارة أو البرودة، وليس شديد الرطوبة أو الجفاف، هذه الظروف المناخية ساهمت في وجود عشرات الأراضي الخصبة، خاصةً داخل إنكلترا التي تُعد القوة الرئيسية في الجزر.

وقد ضربت قلعة بريطانيا العالم واحتلته، وفي أوج قوتها، تمتّعت الإمبراطورية البريطانية بانتشار لا مثيل له على ربع مساحة اليابسة في العالم كما كانت تحكُم نحو خُمس سكان الكوكب لكن تلك الإمبراطورية الشاسعة أصبحت من التاريخ الآن.

بينما تبحث بريطانيا المعاصرة عن نفسها على الساحة الجيوسياسية اليوم وربما تمتلك سادس أكبر اقتصاد في العالم ولديها قوة عسكرية تستحق الثناء بشدة لكن بريطانيا تعاني مع هويتها في حقبة ما بعد الاستعمار.

منصة أسباب وبالشراكة مع Caspian Report، تشرح لكم في هذا الفيديو قصة صعود القوة البريطانية وانحسارها

تُعَدُّ الجزر البريطانية موطناً للإنكليز والأسكتلنديين والويلزيين والأيرلنديين، وتقع قبالة الساحل الشمالي الغربي لأوروبا مباشرةً وتضم مجموعة الجزر معتدلة المناخ دولتين مستقلتين رئيسيتين هما المملكة المتحدة وجمهورية أيرلندا.

بينما تُطوِّق المياه الجزر من جميع الاتجاهات لتصنع حاجزاً طبيعياً لا يُقهر على كافة الجبهات، وتحوّلت مياه بحر الشمال الغادرة من طريق سريع للغزاة الإسكندنافيين إلى أهم مركز للطاقة في أوروبا، حيث يتمتع بحر الشمال باحتياطيات ضخمة من النفط والغاز.

وما تزال المياه قبالة سواحل المملكة المتحدة تحتوي على احتياطيات نفط وغاز تعادل 15 مليار برميل من النفط وهذه كمية تكفي لإمداد المملكة المتحدة بالوقود لـ30 عاماً، فيما يُشكل المحيط الأطلسي الجبهة الغربية لبريطانيا ويمتد آلاف الكيلومترات وصولاً إلى الأمريكتين. 

وعلى النقيض، يشغل بحر المانش في الجنوب مساحة صغيرة تفصل بريطانيا عن بر أوروبا الرئيسي، لكن وبفضل عجائب الهندسة الحديثة، صار هناك طريق بري يربطهما اليوم:

نفق المانش 

  • يربط نفق السكك الحديدية تحت الماء بين مينائي دوفر وكاليه عبر مسارين للقطارات
  • يحمل خط النقل الصاخب البضائع والبشر في الاتجاهين بين بريطانيا والقارة الأوروبية باستمرار

وتمتاز بريطانيا بحقيقة أنها عبارة عن أربع دول منفصلة اتحدت تحت لواء دولة ذات سيادةٍ واحدة.

  1. تتمتع إنكلترا بأراضٍ منخفضة خصبة، وتلال ممتدة، ومراكز حضرية تُشكل نصيب الأسد من أراضي بريطانيا وسكانها البالغ عددهم 67 مليوناً.
  2. في الشمال، تُشكِّل المناظر الطبيعية الإسكتلندية تناقضاً صارخاً بمرتفعاتها الوعرة وأراضيها المنخفضة المأهولة بالسكان.
  3. تقدم ويلز مناظرها الطبيعية الجبلية الخلابة هي الأخرى .
  4. تقع أيرلندا الشمالية على الجهة المقابلة من البحر الأيرلندي، وهي إحدى دول المملكة المتحدة لكنها تختلف عن جمهورية أيرلندا التي سعت إلى الاستقلال حيث لا تزال أيرلندا الشمالية جزءاً لا يتجزأ من المملكة المتحدة.

بداية صعود مملكة إنكلترا

في أواخر التسعينيات، منحت لندن كلاً من إدنبره وكارديف وبلفاست درجات مختلفة من السلطة السياسية بالتفويض، ما سمح لتلك العواصم بحكم نفسها وتلبية الاحتياجات الفريدة لشعوبها، وقد حوّلت هذه التركيبة المملكة المتحدة إلى القوة التي أصبحت عليها اليوم، لكنها لم تكن كذلك دائماً.

إذ كانت بريطانيا المقسمة تعاني من أجل بسط قوتها بعيداً عن شواطئها، ثم جاء صعود مملكة إنكلترا ليحول بريطانيا إلى دولةٍ رئيسية في أوروبا، وخلال حقبة العصور الوسطى، تميّزت السياسة الخارجية لإنكلترا بالسعي المتواصل لعرش فرنسا طيلة 500 عام.

وقد انتهى ذلك الصراع بالهزيمة وخسارة كافة أراضيها داخل القارة، تبيّن خلال تلك الفترة أن الويلزيين والأسكتلنديين والأيرلنديين المختلفين ثقافياً يشكلون شوكة كبيرة في خاصرة إنكلترا حيث كانوا يهاجمون الحدود الإنكليزية باستمرار.

واتضح مع الوقت أنه يجب على إنكلترا إدارة الأمور بطريقة مختلفة، إذا كانت ترغب في منافسة خصومها الأوروبيين، ويجب عليها الاتحاد مع جيرانها في الجزيرة ولم يتحقق ذلك الاتحاد بسهولةٍ أو بالمجان بل تحقق عبر مزيجٍ من الغزو والتعاون.

  1. جرى إخضاع ويلز وأيرلندا بالقوة
  2. اندمجت اسكتلندا مع إنكلترا عبر توحيد التاجين

وإجمالاً، أدّت هذه التقاربات إلى توحيد أكبر ممالك بريطانيا تحت سيادة واحدة. وبعد أن انتهى التهديد البري، بدأت بريطانيا العظمى المتحدة رحلة صعودها.

  • استخدمت قواتها البحرية في الاستعمار والتجارة لتصبح القوة العظمى العالمية بلا منازع في القرن الـ19
  • استغلت نقاط قوتها الجغرافية بفعاليةٍ كبيرة
  • ركزت على بناء أساسٍ اقتصادي متين وإمبراطورية استعمارية تجارية ضخمة

وكان اقتصادها المرن الذي ظهر أثناء الثورة الصناعية هو حجر الأساس الأول في هيكل قوتها، حيث أدت التقنيات المبتكرة والأفكار الرائدة إلى انطلاقة تحوّلٍ كبير نحو الإنتاج المُميكن، المدعوم برواسب الحديد والفحم المحلية داخل بريطانيا.

وفي هذا السياق، كانت مساحة بريطانيا المتواضعة بمثابة أصلٍ لا يُقدر بثمن، إذ سهّلت أراضيها المتلاصقة والمدمجة سير الخدمات اللوجستية بدرجةٍ كبيرة، علاوةً على أن شبكة الأنهار والقنوات الواسعة خفضت تكلفة نقل المواد الخام بشدة كما سهّلت عملية تصدير البضائع المُصنّعة.

الثورة الصناعية 

وبدا الأمر وكأن الجغرافيا صمَّمت بريطانيا من أجل الثورة الصناعية خصيصاً، لكن الإمبراطورية البريطانية اختلفت عن الإمبراطوريات الاستعمارية الأخرى في كونها تكتلاً تجارياً عملاقاً قبل كل شيء.

  • كانت المستعمرات البريطانية تُغذي المصانع المحلية بالمواد الخام كالقطن الهندي والمطاط الماليزي والسكر الكاريبي 
  • يجري تصنيع تلك المواد في بريطانيا وتصديرها إلى أسواق الإمبراطورية مترامية الأطراف
  • كانت التجارة مع أسواق الإمبراطورية وأوروبا وأمريكا مربحةً بشدة
  • تفوقت بريطانيا على منافسيها لتصبح القوة العظمى الاقتصادية والصناعية الأولى

وبالنسبة لبريطانيا، كانت المحيطات هي اللوحة التي ترسم ملامح إمبراطوريتها حيث اعتمدت على بحريتها لتأمين الإمبراطورية وطرق التجارة الحيوية، وحوّلت بريطانيا بحريتها إلى قوةٍ لا يُستهان بها في القرنين الـ18 والـ19، ثم تطوّرت البحرية البريطانية لاحقاً لتصبح الأداة الرئيسية لبسط قوة بريطانيا حول العالم لتُرسي بذلك دعائم إمبراطورية امتدت من أمريكا الشمالية إلى أستراليا.

كيف ولدت بريطانيا المعاصرة؟ 

أثّر سعي بريطانيا للهيمنة البحرية والتجارية في تشكيل سياستها الخارجية الأوروبية، وبصورةٍ عميقة ولمنع أي دولة من تهديد هيمنتها؛ أدارت بريطانيا موازين القوى في أوروبا بدقة واستخدمت لندن قوتها المالية ونفوذها الدبلوماسي وتدخلاتها العسكرية الاستراتيجية لتنجح بذلك في السيطرة على القوى الناشئة وتُمهِّد لحقبة السلام البريطاني.

وشهدت تلك الحقبة ضمان القوة البريطانية لحالة سلام نسبي بين قوى أوروبا الكبرى، وقد حافظ نهج توازن القوى هذا على هيمنة بريطانيا، لكنه أرسى عن غير قصد ركائز الحرب العالمية الأولى، وهو الصراع الذي دفع الإمبراطورية إلى حدودها القصوى.

لقد وُلِدَت الهوية الجيوسياسية المعاصرة لبريطانيا من رحم انهيار إمبراطوريتها.

  • تحدّت برلين مكانة بريطانيا مع صعود ألمانيا القوي وجرى القضاء على التهديد الألماني في حربين عالميتين، لكن الثمن كان باهظاً
  • حلّت الولايات المتحدة محل بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية لتُصبح القوة البحرية العالمية
  • أنهت بريطانيا استعمارها بوتيرة بطيئة وثابتة أثناء الحرب الباردة

وفي نهاية عمر الإمبراطورية، أدرك صناع السياسة البريطانية حاجتهم إلى استراتيجية براغماتية جديدة تحمي مستقبل الأمة، وتضمنت تلك الاستراتيجية نهجاً مرناً يضع بريطانيا في منتصف الطريق بين أمريكا وأوروبا. حيث اعتمدت على فرضية أن بريطانيا ستستغل مرونتها حال تعثر الاتحاد الأوروبي، وتلجأ إلى حليفها الأمريكي من أجل الدعم، وعلى العكس، تستطيع بريطانيا التقرب من القارة أكثر حال ضعفت أمريكا وازدادت أوروبا قوة. أما في حال تراجع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة معاً، فستكون لدى بريطانيا المرونة الكافية لسلك مسارها المستقل.

استراتيجية بريطانيا مع أمريكا والاتحاد الأوروبي

ولتعزيز تحالفها مع أمريكا؛ تستخدم لندن استراتيجية الشرطي المُساعد التي تجعلها مُلازمةً لواشنطن في خطواتها.

  • يستهدف هذا التكتيك تسخير القوة الأمريكية لدفع المصالح الاستراتيجية البريطانية
  • تسعى لندن إلى كسب حظوة واشنطن عبر الدعم النشط لمبادرات الولايات المتحدة أكثر من بقية الحلفاء
  • تجلّى هذا في العراق وأفغانستان تحديداً، وقد أتى هذا النهج بثماره في العديد من المناسبات.

وبالمثل، أدت عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي إلى تعزيز علاقاتها مع أوروبا وذلك عبر القوة الاقتصادية والدور الدبلوماسي والسوق المشتركة.

  • كانت لندن من كبار المساهمين في ميزانية الاتحاد الأوروبي، ولهذا كان لها تأثير كبير في أهدافه السياسية
  • بسبب نتيجة بريكست والتغيرات الجيوسياسية العالمية، اضطرت بريطانيا لمراجعة استراتيجيتها كقوة متوسطة.

وما تزال الاستراتيجية الجديدة ترتكز على التدابير الأمنية التقليدية، مثل الردع النووي والقوة البحرية لكنها تقر كذلك بالحاجة إلى تبسيط الالتزامات والابتعاد عن المهام العسكرية الأحادية الكبيرة، وتتضمن الاستراتيجية الجديدة عنصراً آخر يتمثل في التزام بريطانيا الثابت بالأمن الأوروبي، إذ تسعى للتأكيد على موقعها كحليف الناتو الرئيسي داخل أوروبا.

ويتجلى هذا الأمر بوضوح في سياق الهجوم الروسي على أوكرانيا إذ يلعب الدعم البريطاني دور الشريان التاجي الذي يواصل ضخ التدريب والمساعدات إلى كييف، تحتل بريطانيا المرتبة الثالثة من حيث إجمالي المساعدات لأوكرانيا وهو موقف ثابت يحظى بدعمٍ واسع من مختلف التوجهات السياسية.

وقد خفّفت بريطانيا تأثير بريكست الذي أبعدها عن أوروبا عبر التحرك في أوكرانيا وقدمت نفسها كطرفٍ حاسم في المشهد الأمني الأوروبي. كما يُوفِّق هذا المصالح البريطانية مع الأمريكية عن طريق تقاسم أعباء حرب أوكرانيا، التي يراها بعض مسؤولي واشنطن مُرهِقة.

سياسة بريطانيا تجاه آسيا

وفي الوقت ذاته، تسعى الجغرافيا السياسية البريطانية المعاصرة لبناء علاقات تجارية والمشاركة في مهمات بحرية محسوبة وذلك بهدف بسط نفوذها في أنحاء آسيا والمحيط الهادئ، وبالنسبة للصين، تسير لندن بحذر للتوفيق بين مخاوف حقوق الإنسان وبين الحفاظ على العلاقات التجارية المربحة.

 كما لا تزال بريطانيـا في المرتبة الثانية عالمياً من حيث القوة الناعمة ومن الضروري أن تستغل قوتها الناعمة بنجاح لإقامة شراكات جديدة في أرجاء آسيا والمحيط الهادئ، ويبدو أن هذه الاستراتيجية تحقق بعض التقدم، لكنها لا تزال في مهدها، وسيكشف الوقت ما إذا كان اتجاه بريطانيا نحو آسيا والمحيط الهادئ سيحقق أي مكاسب بعيدة المدى.

تأثر الاقتصاد البريطاني ما بعد بريكست

 قلب استفتاء بريكست الموازين حين أدت نتيجة 52% مقابل 48% إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وحمل هذا القرار تداعيات اقتصادية وجيوسياسية بالغة الأثر.

  1. تعثر اقتصاد ما بعد بريكست وتراجعت الاستثمارات
  2. أدت الموازنة الصغيرة لعام 2022 إلى إثارة أزمة مالية
  3. جاءت الآثار المركبة لكوفيد-19 وحرب أوكرانيا لتضرب اقتصاد البلد بعاصفة مثالية
  4. توقع صندوق النقد الدولي أن تكون بريطانيـا أسوأ اقتصادات دول السبع أداءً في عام 2023

ومن المتوقع أن تتفادى بريطانيا الركود هذا العام، لكن تفادي الركود لا يعني تحقيق الرخاء بالضرورة، ويشعر الجمهور البريطاني بذلك وهو يواجه التضخم المرتفع والخفض شبه السنوي لميزانيات الخدمات العامة.

تأثر اقتصاد بريطانيا ما بعد بريكست

التداعيات الجيوسياسية لبريكست

أما أكبر التداعيات الجيوسياسية لبريكست إجمالاً فهي الانقسامات السياسية التي زرعت بذورها داخل بريطانيا، إذ لطالما كانت وحدة الجزر البريطانية هي حجر الزاوية في القوة الجيوسياسية لذلك البلد، لكن القوى الانفصالية تهدد دعائم هذا الميثاق.

  • أسفر تقسيم أيرلندا عام 1922 عن بقاء أيرلندا الشمالية ذات الأغلبية البروتستانتية كجزءٍ من بريطانيـا، وكان هذا التقسيم تاريخياً مصدر صراعات تُوِّجت بحقبة “المشاكل” وهي فترة عنف بين القوميين الكاثوليك والاتحاديين البروتستانتيين دامت لعقود ثم دشّنت اتفاقية “الجمعة العظيمة” عملية السلام في عام 1998.لكن التحولات السكانية أظهرت تفوق الكاثوليك على البروتستانت عددياً للمرة الأولى في 2021 ما أعاد إحياء المطالبات القوية بتوحيد أيرلندا. وجاء انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ليزيد الطين بلة.
  • في أيرلندا الشمالية، يرفض الحزب الديمقراطي الاتحادي تشكيل سلطة تنفيذية مع الأحزاب القومية ما يضع آفاق التشريعات الجديدة على طريق مسدود.
  • إن أكبر الأحزاب من حيث عدد المقاعد، شين فين، يقود حملةً شرسة لإجراء استفتاء حول الاستقلال بما يتعارض مع رغبة الاتحاديين.

وإذا أرادت لندن الحفاظ على تناغم بريطانيا، فيجب أن تلعب دور صانعة السلام وتُوفِّق بين الطرفين، وتنعكس هذه الرؤية على وعي السكان بشكلٍ عام حيث أن الندوب النفسية لفترة “المشاكل” لا تزال حيةً في أذهان الكثيرين.

أما من ناحية الشمال، فربما تمثل الانفصالية الأسكتلندية أكبر تهديد بتفكيك المملكة المتحدة، إذ أسفر استفتاء استقلال اسكتلندا عام 2014 عن موافقة الناخبين على استمرار الاتحاد مع بريطانيا بنسبة 55% مقابل 45%.

لكن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، الذي عارضه 62% من الأسكتلنديين، قلب الموازين، ويستمر الحزب القومي الأسكتلندي في إشعال الأوضاع فهم يجادلون بأن مكاسبهم الانتخابية واستطلاعات الرأي المؤيدة تُبرر دعواتهم لاستفتاء استقلال ثان.

ويمثل هذا تحدياً لإحجام المملكة المتحدة عن إجراء استفتاء آخر، ونظراً لإدراكها حجم التهديد، أكّدت لندن على أن استفتاء 2014 هو حدث لا يتكرر في العمر مرتين، وأخذت المحكمة العليا صف لندن حين قضت بالإجماع بأن إجراء أي استفتاء على استقلال اسكتلندا يتطلب موافقة لندن، وأدى هذا إلى وقف المد الانفصالي مؤقتاً.

ويهدد انفصال اسكتلندا المحتمل بتغيير الخندق الساحلي البريطاني لتحل محله حدود برية، وينطوي هذا الأمر على مخاوف أمنية كبيرة. إذ تستضيف اسكتلندا في المقام الأول:

  • منشآت عسكرية حساسة
  • قواعد بحرية 
  • برنامج ترايدنت النووي

وهذه كلها أجزاء أساسية من قدرات الدفاع البريطانية، ومن المرجح أن تظل اسكتلندا جزءاً من الناتو لكن الانفصال سيقتضي إعادة تقييم واحتمالية نقل بعض تلك الأصول على الأقل. ومن ثم تأتي المسألة التي يتجاهلها الجميع:

  • احتياطيات النفط والغاز في بحر الشمال حيث ستقع غالبيتها داخل الحدود البحرية الأسكتلندية
  • ستكون هوية المستحوذ عليها مسألةً محوريةً في مفاوضات ما بعد الاستقلال 
  • تمثّل آبار النفط الحيوية صناعةً حجمها مليار دولار بالنسبة للاقتصاد البريطاني المضغوط بالفعل

وتستهدف اسكتلندا إنشاء صندوق ثروة سيادية من الإيرادات على الطراز النرويجي، بينما تعتبرها لندن ضروريةً من أجل التحول الأخضر وأمن الطاقة داخل المملكة المتحدة. وبالنظر إلى أهمية احتياطيات بحر الشمال، ستسعى لندن على الأرجح إلى الاحتفاظ بأكبر عدد ممكن من المنشآت، لكن قوانين الحدود البحرية الدولية قد تُعقِّد عملية المطالبة القانونية بتلك الموارد.

وبالتالي، في حالة الانقسام، ستضطر بريطانيا لتسليم حصةٍ كبيرة من تلك الاحتياطيات الضرورية إلى اسكتلندا، وسيأتي هذا على حساب أهداف السياسة البريطانية ويُمكن القول إن الخروج من الاتحاد الأوروبي فتح عش دبابير.

وإذا تفككت بريطانيا إلى عدة دول، فسوف يطرأ تغيير بلا رجعة على الانطباعات العالمية حيال النفوذ والقوة البريطانية، وقد يهدد هذا مقعد بريطانيـا الدائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة تحديداً حيث تتطلع الهند واليابان إلى مقعد دائم في المجلس وربما تستغلان تراجع مكانة بريطانيـا لتعزيز مطالبهما، ما قد يؤثر على مكانة لندن في الساحة الدولية بدرجةٍ كبيرة.

وبالنظر من جميع الزوايا سنجد أن موقع بريطانيا الجغرافي منحها منطقة ذهبية رعت صعود إمبراطورية قوية هيمنت على العالم ذات يوم لكن عصر الإمبراطوريات الأوروبية قد ولى بينما تحاول بريطانيـا التكيُّف الآن حتى تحافظ على مكانتها وازدهارها وسط عالمٍ متقلب.

ولا يزال توازنها الاستراتيجي بين أمريكا وأوروبا في وضعية حساسة خاصةً وأن خروجها من الاتحاد الأوروبي يشكل تهديداً كبيراً للوحدة التي كانت حجر أساس نجاحها، ويقف رأس الحكومة اليوم عند منعطفٍ خطير فهو مكلف بقيادة الأمة وسط تحديات اقتصادية حادة، والتغلب على الشقاقات العالقة نتيجة انقسامات عمرها عدة قرون ناهيك عن فرض مكانة بريطانيا في ساحة دولية تتسم بالعداء والقلق.

وسيكون التعامل مع هذا التفسُّخ الداخلي هو هدف بريطانيـا الأول فالإمبراطورية المهزومة من الخارج يمكنها أن تعود، لكن الإمبراطورية المتداعية من الداخل ستموت إلى الأبد.

إقرأ أيضاً:

ماذا تعني نتائج انتخابات البلدية في بريطانيا على توجهات السياسة الخارجية؟

هل تنفصل إسكتلندا عن بريطانيا؟ استفتاء متوقع في 2023 لتحديد مصيرها

بريطانيا تنضم للقوى الأوروبية وتترك مالي في قبضة فاغنر الروسية

كيف يستعد العالم لـ عودة ترامب ؟