تسعى البرازيل لتصبح من القوى العظمى في ظل وجود إمكانات جيوسياسية مثل احتياطيات ضخمة من المعادن والعجائب الطبيعية كالأمازون، مع ما يقارب نصف مساحة وسكان قارة أمريكا الجنوبية، لكن طبيعة أراضي البلاد قاسية، وغير مستوية، وغير مناسبة للتنمية الاقتصادية، ورغم الجهود المتفرقة لتحقيق التحول الصناعي لكن البرازيل ما تزال مرتبطة بنموذج اقتصادي قائم على الاستخراج، ويكمن الجزء الأكثر إثارةً للقلق في انقسامها السياسي الداخلي الذي يفتح الباب أمام التدخلات والتقويض الخارجيين.
فما سبب تبلُّد البرازيل؟ ولماذا ما تزال أرض المستقبل المزعومة مُكبّلةً بقيود ماضيها؟
منصة أسباب وبالشراكة مع Caspian Report، تقدم لكم في هذا الفيديو إجابة عن هذ الأسئلة.
لعب موقع البرازيل المركزي دوراً حاسماً في أهميتها الجغرافية والاقتصادية العالمية بسبب قربها من إفريقيا ووقوعها على مسافةٍ متساوية من أوروبا وأمريكا الشمالية، اقتسمت إسبانيا والبرتغال أراضي العالم الجديد في معاهدة توردسيلاس عام 1494، فحصلت لشبونة بموجبها على الساحل البرازيلي لكنها لم تكن وجهةً جاذبة للاستيطان بسبب نقص السهول الساحلية وكثافة النباتات.
وبناءً عليه، وزّعت لشبونة منح الأراضي على أثرياء البرتغال أملاً في أن يتحملوا هم التكاليف الضخمة لإزالة الغابات وتشييد البنية التحتية التي ستتيح تسلُّق المنحدرات الساحلية للوصول إلى السهول الداخلية.
- لم تحدث أي تطورات إلا فيما يتعلّق بوفورات الحجم وخاصةً المحاصيل النقدية التي تتمتع بنسبة قيمة إلى وزن مرتفع، مثل السكر
- قضى عنف الاستعمار ومسببات الأمراض الأوروبية على الشعوب الأصلية المحلية
- قام المستوطنون باستيراد نحو 6 ملايين إفريقي مستعبد حتى يُشكِّلوا قوة عمل المزارع طوال 350 عاماً تالية
- كانت النتيجة الطبيعية هي مجتمع أوليغارشي يضم طبقة دنيا كبيرة من البرازيليين-الأفارقة الذين صاروا يشكلون نصف تعداد سكان البرازيل اليوم
- أدى الاعتماد على صادرات الزراعة الأحادية إلى تكوين جماعات ضغط نافذة في مجال التجارة الزراعية لدرجة أن الحكومة الفيدرالية تبنّت أولوياتهم إبان الاستقلال
صارت البرازيل عالقةً في دائرة السلع الأساسية وازدهرت صناعات مثل مطاط الأمازون وقهوة ساو باولو قبل أن تتعسر في مواجهة أول انكماش اقتصادي، والأسوأ من ذلك هو أن تكتل جماعات الضغط الجغرافي قد خلق نزعةً إقليمية بالتزامن مع تنافس مختلف الصناعات على الرعاية الفيدرالية.
لكن تُهيمن البرازيل المعاصرة على القارة اليوم حيث تربطها حدود بجميع دول أمريكا الجنوبية، باستثناء تشيلي والإكوادور، وتتمتع تلك الحدود بتحصينات جغرافية مثل غابات الأمازون في الشمال وجبال الأنديز في الغرب ومستنقعات بانتانال في الجنوب الغربي.
ومنحت هذه التحصينات البرازيل الغطاء اللازم للتوسع في منطقة سيرادو وهي منطقة سافانا استوائية بحجم غرينلاند، وتضم غالبية أراضيها الصالحة للزراعة، لكن التحول من مستعمرةٍ إلى قوةٍ كبرى لم تكن مهمةً سهلة.
مراحل تطوير البنية التحتية الوطنية
الثلاثينيات
كما تُشكِّل الأراضي الداخلية المرتفعة عقبات في وجه تطوير البنية التحتية الوطنية لتفرض التقسيم الجغرافي على البلاد وتُفاقم من نزعتها الإقليمية، ورغم ذلك، حفّزت الأزمات البرازيل على محاولة اجتياز هذه العوائق أحياناً.
- أدى انهيار الأسواق العالمية في الثلاثينيات إلى أزمة في المدفوعات لكنه أضعف جماعات الضغط التجارية الزراعية
- قام الزعيم البرازيلي المستبد جيتوليو فارغاس بالسعي للتنمية الصناعية القائمة على سياسة استبدال الواردات
- تضمنت حلوله الاقتصادية القومية تقديم الدعم المحلي وتحديد حصص الاستيراد وفرض التعريفات لحماية الصناعات البرازيلية من المنافسة الأجنبية
- نجحت تلك السياسات في وقف تدفق المدفوعات للخارج لكن ارتفاع أسعار المستهلك أدى لحدوث التضخم
وتبيّن أن محاولات الحكومات الديمقراطية اللاحقة لفرض التقشف لم تحظ بشعبية.
الخمسينيات
وبحلول الخمسينيات تم إعطاء الأولوية لتطوير البنية التحتية على حساب استقرار الاقتصاد الكلي، بما في ذلك بناء عاصمة جديدة في برازيليا.
- نجحت الخطة في تطوير الداخل البرازيلي لكنها تسببت في ارتفاع التضخم وتضخُّم الدين الخارجي على المدى القصير
- اعترض الحرس السياسي القديم على تلك السياسات بحلول عام 1964
- تآمروا مع الجيش والسفارة الأمريكية من أجل الإطاحة بالرئيس جواو غولار بعد أن اقترح زيادة الضرائب، وتأميم الشركات، وإعادة توزيع الأراضي
- فرضت الديكتاتورية العسكرية التي أعقبته تدابير التقشف وخفضت الواردات وزادت الصادرات وسمحت بدخول رؤوس الأموال الأجنبية
- ظل الاقتصاد متعثراً لسنوات لكن التحول الصناعي الذي قادته الدولة بدأ يؤتي ثماره بحلول السبعينيات
- بدأت إزالة غابات سيرادو في جعل صادرات الحبوب الضخمة ممكنة
- تراجع الأرجنتين النسبي سمح للبرازيل بتحويل بوليفيا وباراغواي وأوروغواي إلى دول تابعة اقتصادياً
- التحول الصناعي أسفر عن هجرة جماعية للفلاحين نحو المراكز الحضرية في الشرق مما تسبب في بطالةٍ جماعية
عام 1985
وبعد عودة الديمقراطية عام 1985 تمثّل رد الفعل السياسي في التعامل مع غابات الأمازون كصمام تنفيس اقتصادي، لهذا:
- جرت إزالة مساحات شاسعة من الغابات لاستغلالها مواردها.
- جرى تأسيس مستوطنات جديدة للفلاحين من أجل تشجيع الهجرة السكانية
- تمت إزالة رقعة غابات بحجم ولاية كاليفورنيا عن بكرة أبيها بين عامي 1970 و2007 لكن الأمر لم يتوقف عند ذلك الحد
عام 2006
- إن اكتشاف حقل توبي النفطي -الذي بيع قبل افتتاحه- عام 2006أدى إلى إذكاء التوترات بين النظام البيئي وبين التقدم الاقتصادي
- احتوى الحقل على 8 مليارات برميل من النفط القابل للاستخراج ليُصبح أكبر اكتشاف هيدروكربوني في نصف الكرة الغربي خلال آخر 30 عاماً
- أصبحت البرازيل من أكبر منتجي النفط
لكن الاكتشاف جلب معه بعض الدسائس السياسية غير المرغوبة.
عام 2009
- عكّر الرئيس لولا دا سيلفا صفو واشنطن عندما جعل شركة بيتروبراس (Petrobras) الحكومية المُشغّل الأساسي للمواقع النفطية البحرية
- وقع شراكة مع شركة سينوبك (Sinopec) النفطية الصينية بالتزامن مع تهميش الشركات الأمريكية متعددة الجنسيات
- ازدادت العلاقات توتراً في عهد خليفته ديلما روسيف بعد أن كشفت تسريبات وكالة الأمن القومي عام 2013 عن تجسس واشنطن على مكتب الرئيسة وبيتروبراس
- تحدّد مصير المواقع النفطية في النهاية بواسطة السياسات الداخلية الانقسامية في البرازيل
- تمت الإطاحة بديلما في انقلاب داخل الكونغرس البرازيلي عام 2016 بذريعة الفساد واختلاس الميزانية المزعوم
- أعلن بديلها ميشال تامر عن بيع أصول الدولة لزيادة الإيرادات مع منح أصحاب المصالح الأجانب غالبية امتيازات المطارات والطرق والسكك الحديدية والمواقع النفطية البحرية
- تم تقويض السيادة الاقتصادية للبرازيل
- أعاد تامر فتح أبواب الأمازون أمام أنشطة إزالة الغابات
- تسارعت وتيرة إزالة غابات الأمازون ثانيةً في عهد خليفته جايير بولسونارو
- تسبب الأمر في ردود أفعال دولية قوية هذه المرة
- أسفر عن تعطيل اتفاق تجاري بين الاتحاد الأوروبي وبين تكتل ميركوسور التجاري
علاقة البرازيل مع الأرجنتين
فيما استغل لولا أوراق اعتماده البيئية لحشد ما يكفي من الدعم المحلي والشرعية الدولية ويفوز بولاية ثانية كرئيس للبلاد، وتُشير مبادراته الدبلوماسية الأخيرة إلى أن البرازيل قد تكون على مشارف العودة الجيوسياسية.
أما الجانب الأكثر أهميةً فيتمثّل في علاقة البرازيل مع الأرجنتين، أعلنتا مؤخراً عن خطط لتطوير عملة تجارية مشتركة للمدفوعات عبر الحدود مما:
- سيقلل أثر التخميد الواقع على التجارة الثنائية نتيجة نقص الدولار المزمن الذي تعانيه الأرجنتين
- سيفتح أبواب حوض ريو دي لا بلاتا وجغرافيته المثالية أمام التجارة البرازيلية
- إذا اكتسبت هذه العملة بعض الزخم فربما تعتمدها بعض الدول اللاتينية الأخرى
ويتماشى هذا التحدي للدولار مع سياسة لولا الخارجية المستقلة إذ تُعطي هذه السياسة الأولوية للتواصل العالمي، حيث تفاعل لولا خلال ولايته الأولى مع إيران وعارض غزو العراق، كما شكّل مجموعة بريكس بالتعاون مع روسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا، وعلى غرار حياده الحالي في الصراع الأوكراني سنجد أن ذلك التوجه قد أكسب لولا الكثير من المعجبين في جنوب العالم لكنه لم يضمن له الكثير من الأصدقاء في واشنطن.
علاقة البرازيل مع الصين
أصبحت الصين أكبر شريك تجاري للبرازيل منذ 2009 مع تسجيل الأخيرة لفائضٍ تجاري قدره 40 مليار دولار عام 2021، لكن العيب الأساسي لهذه العلاقة يتمثّل في عدم التكافؤ النوعي حيث تُصدِّر البرازيل المواد الخام ثم تستورد البضائع الجاهزة، وبهذا تظل عالقة في دائرة السلع الأساسية.
لذا يجب على برازيليا تطوير صناعات ذات قيمة مضافة أعلى حتى تستطيع الخروج من دائرة التصدير مع الاحتفاظ بسيطرتها على أصولها الحيوية بما يسمح لها بأن تصبح نقطة الارتكاز المحورية بين أمريكا اللاتينية والصين.
إلا أن غابات الأمازون تظل الورقة الرابحة الأساسية لدى البرازيل حيث:
- تحوي نصف مساحة الغابات المطيرة المتبقية في العالم
- يُعتبر دورها كمصرف كربون ضرورياً لتخفيف حدة تغير المناخ
لكن الحفاظ على النظام البيئي للأمازون سيفرض تكلفة مهولة على البرازيل وكذلك اقتصادها القائم على التصدير، وتزداد الأمور تعقيداً لأن البرازيـل لم تسهم سوى بـ1% فقط من انبعاثات الكربون التاريخية ولهذا يؤمن الكثيرون بأنه من غير المنطقي مطالبتها بالتخلي عن مصلحتها الذاتية الاقتصادية في سبيل إنقاذ الدول الثرية التي طوّرت اقتصاداتها بحرق الوقود الهيدروكربوني.
ولدى كل طرف حججه المقنعة بالطبع لكن طريقة إدارة الأمازون تُعَدُّ مشكلةً عالمية،لهذا اقترح بعض المسؤولين حلاً وسطاً في صورة التعويضات المناخية أو تمويل المشروعات البيئية حيث يجب التوصل إلى الحل عاجلاً وليس آجلاً، بغض النظر عن القرار الذي سيتم اتخاذه.
إذ يقترب النظام البيئي للأمازون من نقطة التحول التي ستعجز الأشجار عن النمو بعدها وستبدأ عندها الغابة المطيرة في التدهور لتصبح مجرد سافانا، وفي حال حدوث ذلك فإن الضرر الناتج على المحيط الحيوي العالمي سيصبغ أي نقاش عن قوانين المناخ بالصورية ولن يتبق سوى الجدل حول هوية الدولة التي ستكون الأكثر ثراءً فوق الرماد.
ورغم ذلك، تظل البرازيـل أقوى دولة في أمريكا الجنوبية ولديها أوراق الاعتماد الدبلوماسية الكافية لتكون قوة وسيطة مُحترمة عالمياً في المستقبل.
إقرأ أيضاً:
تخلي الصين والبرازيل عن الدولار في تعاملاتهما البينية… ماذا يعني؟
عودة “دا سيلفا” تنهي عزلة البرازيل وتتوج انتصارات يسار أمريكا اللاتينية
الممر بين المحيطين في أمريكا الجنوبية.. هل يحلّ محلّ قناة بنما؟
كولومبيا تلحق بربيع اليسار في أمريكا اللاتينية وتعيد انتباه واشنطن إلى الكاريبي