الحدث
وافق الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” يوم الإثنين 5 سبتمبر/أيلول 2022، على عقيدة السياسة الخارجية الروسية الجديدة، والتي ترتكز على مفهوم “العالم الروسي”، حيث تتعهد روسيا بتقديم الدعم لجميع المواطنين الناطقين باللغة الروسية خارج البلاد -لاسيما في دول الاتحاد السوفيتي السابقة- وضمان “حماية وصون وتعزيز تقاليد ومُثُل العالم الروسي”.
وتنص السياسة الجديدة المؤلفة من 31 صفحة على زيادة التعاون مع الصين والهند والدول السلافية[1]*، بالإضافة إلى تقوية علاقاتها مع الشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية وأفريقيا.
كما ركزت أحد جوانب العقيدة على ضرورة تعميق علاقات روسيا مع الجمهوريات غير المعترف بها عالميا والتي خلقها التدخل العسكري الروسي، سواء جمهوريتي “دونيتسك” و”لوغانسك” في شرقي أوكرانيا، أو جمهوريتي “أبخازيا” و”أوسيتيا” في جورجيا.
التحليل: “عقيدة بوتين” خطوة في طريق البحث عن عالم متعدد الأقطاب
- يعكس الإصدار الجديد للعقيدة الروسية تغييرات لافتة مقارنة بالإصدار السابق عن مفهوم السياسة الخارجية الروسية عام 2016؛ حيث تميل العقيدة الجديدة نحو تكريس مفهوم “العالم الروسي” في النهج الرسمي للسياسة الخارجية الروسية، والذي يُستخدم كمبرر للتدخلات العسكرية الروسية الخارجية مثل جورجيا وأوكرانيا؛ كما يشير إلى رفض روسيا لجذورها الأوروبية وتخليها عن نسب نفسها للحضارة الغربية، الأمر الذي تُشير إليه عبارات واردة في نص العقيدة الجديدة مثل: “الاتحاد الروسي يقدم الدعم لمواطنيه الذين يعيشون في الخارج في إعمال حقوقهم، لضمان حماية مصالحهم والحفاظ على هويتهم الثقافية الروسية”.
- تَظهر قراءة “بوتين” للتاريخ بقوة في جوهر العقيدة الجديدة المعلنة، حيث يرى أن البلاشفة[1]** أثناء تشكيلهم لاتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية عام 1922، ارتكبوا خطأ كبيرا عندما أسسوا جمهوريات هي في الأصل تنتمي إلى “قلب روسيا”؛ ومن ثم تسببوا في إزكاء روح القومية داخل تلك الجمهوريات ودفعهم للمطالبة بالانفصال فيما بعد، لذلك؛ دأب “بوتين” على ترديد ما وصفه بالظلم التاريخي بسبب انفصال أوكرانيا عن روسيا أثناء تشكيل الاتحاد السوفيتي.
- علاوة على ذلك؛ يصف “بوتين” انهيار الاتحاد السوفيتي بأنه “كارثة جيوسياسية كبرى”، إذ لم تفقد روسيا فقط مجال نفوذها -من دول البلطيق إلى آسيا الوسطى- وتعرضت حدودها الشرقية لتهديدات مستمرة من الغرب؛ وإنما تسبب الانهيار في “مصير مأساوي” لأكثر من 25 مليونا من المواطنين الناطقين باللغة الروسية المقيمين في دول الاتحاد السوفيتي السابقة، حيث يزعم “بوتين” تعرضهم للاضطهاد والمعاملة السيئة.
- دفعت تلك القراءة التاريخية “بوتين” للإصرار على أن جميع المتحدثين باللغة الروسية على مستوى العالم هم جزء من “العالم الروسي”، ولهم روابط خاصة مع الوطن الأم في روسيا؛ الأمر الذي انعكس في صياغة العقيدة الجديدة والتي رسخت مفهوم “العالم الروسي” ضمن محددات السياسة الخارجية الروسية.
- تأتي عقيدة “بوتين” الجديدة على نفس نسق عقيدة “بريجينف” خلال حقبة الحرب الباردة والتي منحت الاتحاد السوفيتي حق التدخل في دول المعسكر الاشتراكي -خاصة في أوروبا الشرقية والوسطى- المهددة من قبل الثوار المدعومين من الدول الرأسمالية، الأمر الذي أدى إلى اقتحام الجيش السوفيتي تشيكوسلوفاكيا عام 1968 للقضاء حركة “ربيع براغ” التي سعت إلى إسقاط الحكومة الاشتراكية.
- وبالتالي فإن عقيدة “العالم الروسي” على الرغم من أنها تبدو جديدة في مظهرها كترسيخ للقوى الناعمة الروسية دولياً، إلا أنها في الواقع قديمة في جوهرها؛ حيث تستهدف تبرير مخططات موسكو للتدخل في أي بلد -خاصة دول الاتحاد السوفيتي السابقة- لحماية مصالحها وما تراه تهديداً لأمنها القومي، تحت مزاعم حماية الناطقين باللغة الروسية خارج البلاد، وقد تم بالفعل استخدام “المُثل العليا للعالم الروسي” لتبرير غزو روسيا لأوكرانيا؛ حيث زعم “بوتين” قبل الغزو أن كييف تنفذ “إبادة جماعية” ضد الناطقين بالروسية في منطقتي دونيتسك ولوهانسك، وهذه هي نفس المزاعم التي يرددها كبار المسؤولين في موسكو حاليا حول “ترانسنيستريا” في شرقي مولدوفا.
- تدعم العقيدة الجديدة الجهود الروسية الساعية إلى تقويض الوحدة الأوروبية، حيث يعزز مفهوم “العالم الروسي” الدعوات الانفصالية في مناطق الاضطرابات والأزمات في شرق أوروبا، الأمر الذي يمكن أن يتسبب في مضاعفة البؤر الجيوسياسية القابلة للاشتعال داخل أوروبا؛ في الجانب الآخر، تسببت الإخفاقات التي مُنيت بها عدد من حكومات الاتحاد الأوروبي في مواجهة الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إلى تنامي تيارت شعبوية ويمينية موالية لروسيا داخل القارة الأوروبية، والتي من المتوقع أن تواصل موسكو تقديم الدعم لها تحت مظلة العقيدة الجديدة، بهدف إثارة الاضطرابات العرقية وخلق حالة من عدم الاستقرار داخل أوروبا.
الخلاصة
- تمنح العقيدة الجديدة روسيا الحق في تقييد سيادة الدول المجاورة لها؛ إذ يمكن أن يؤدي سعي روسيا الجاد إلى التطبيق العملي للعقيدة الجديدة إلى تأجيج صراعات إقليمية في منطقة شمال شرق أوراسيا؛ فبالاضافة إلى أوكرانيا التي تختبر العقيدة الروسية الجديدة خلال الحرب المشتعلة بين الجانبين؛ تتزايد مخاطر استخدام القوة العسكرية من قبل روسيا تجاه الدول المجاورة لها، والمتمثلة في كل من أذربيجان وجورجيا وكازاخستان وحتى بيلاروسيا الموالية لموسكو.
- تؤكد العقيدة الروسية الجديدة على أن موسكو ماضية بشكل استراتيجي في العمل على توسيع نفوذها الدولي، والسعي نحو تقويض النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة؛ حيث تؤكد العقيدة الجديدة أن موسكو “تسعى جاهدة لخلق عالم متعدد الأقطاب” تشغل فيه روسيا موقعا قطبيا مؤثرا.
- ومع ذلك؛ من غير المرجح في المدى القريب أن تكون موسكو قادرة على الحفاظ على سياسة خارجية فعالة تمكنها من تقديم نفسها كبديل للنظام الدولي، نظراً إلى حجم اقتصادها المتواضع نسبيا مقارنة بنظيريه الأمريكي والأوروبي، والذي يعتمد إلى حد كبير على عائدات النفط والغاز، بالإضافة إلى الخسائر العميقة المتوقعة على المدى البعيد نتيجة العقوبات الغربية، والتي من المتوقع أن تحد بصورة ملموسة ليس فقط من قدرة موسكو على زيادة نفوذها في أفريقيا وأمريكا اللاتينية، لكنّها قبل ذلك ستعيق وتيرة التعافي الروسي الداخلي اقتصاديا وتقنيا، وهذا هو الغرض بعيد المدى للعقوبات الغربية.
[1]* الدول السلافية هي تلك الدول التي تشمل العرق السلافي ضمن مكوناتها الاجتماعية، مثل بولندا وجمهورية التشيك وسلوفاكيا حيث يوجد السلاف الغربيون، بينما يوجد السلاف الشرقيون في روسيا وبيلاروسيا وأوكرانيا، ويوجد السلاف الجنوبيون في كرواتيا والبوسنة والهرسك وصربيا وبلغاريا ومقدونيا الشمالية والجبل الأسود وسلوفينيا.
[1]** تيار الأكثرية داخل حزب العمل الاشتراكي الديمقراطي الروسي، وهم من قادوا الثورة الروسية في عام 1917 وأسقطوا حكم القيصر الروسي “نيقولاي الثاني”.