الحدث
دعا الزعيم الشيعي العراقي البارز، “مقتدى الصدر“، يوم الأربعاء 3 أغسطس/آب 2022، إلى حل البرلمان العراقي، وإجراء انتخابات برلمانية مبكرة، تزامنا مع اقتحام أتباعه مقر البرلمان في المنطقة الخضراء وسط بغداد، يومي 27 و30 يوليو/تموز 2022، وأقاموا اعتصاما مفتوحا في محيط البرلمان، لمنع تسمية مرشح قوى “الإطار التنسيقي” لرئاسة الوزراء “محمد شياع السوداني”، حيث يعد “السوداني” من الرموز السياسية الشيعية المقربة من إيران، والمحسوبة على رئيس الوزراء الأسبق “نوري المالكي” غريم “الصدر” العتيد.
في المقابل؛ نظمت قوى “الإطار التنسيقي” – وهي تحالف مكون من أحزاب سياسية شيعية موالية من إيران، يرتبط معظمها بميلشيات عسكرية – احتجاجات مضادة في المنطقة الخضراء، وبدأوا اعتصاما مفتوحا عند بوابة الجسر المعلّق للمنطقة الخضراء يوم الجمعة 12 أغسطس/آب، بعد مرور أسبوعين من بدء اعتصام أنصار “الصدر”. وقد تسبب الصراع بين التيار الصدري وقوى “الإطار التنسيقي” في تأخر تشكيل حكومة جديدة منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي، الأمر نفسه الذي حدث عقب انتخابات 2018، حيث تعثر تشكيل الحكومة لأكثر من ثمانية أشهر.
التحليل: “مقتدى الصدر”.. زعيم الأغلبية وقائد المعارضة
- في أكتوبر/تشرين أول الماضي، حققت الكتلة الصدرية (تحالف سائرون) فوزا مفاجئا بأكبر عدد من مقاعد البرلمان، بلغ 73 مقعدا من إجمالي 329 مقعدا في البرلمان، مقارنة بـ 54 مقعدا في انتخابات 2018، في حين تلقى “تحالف الفتح” بقيادة “هادي العامري” -الذراع السياسي لميليشيات الحشد الشعبي والذي مثّل الكتلة الأكبر في “الإطار التنسيقي”- هزيمة قاسية بعد تراجع مقاعده إلى 16 مقعدا مقارنة بـ 48 مقعدا عام 2018، لكنّ إجمالي كتلة “الإطار التنسيقي” بلغ 88 نائبا، بعد حساب نواب “دولة القانون” بزعامة “نوري المالكي” (33 نائبا)، وتحالف “قوى الدولة الوطنية” (4 مقاعد) بزعامة “عمار الحكيم” و”حيدر العبادي”، وتحالف “العزم الوطني” السني برئاسة النائب “مثنى السامرائي”، وقوى سياسية شيعية أخرى، فيما يشغل المستقلون 43 مقعدا في البرلمان.
- تمسك “مقتدى الصدر” منذ إعلان النتائج بقرار تشكيل حكومة أغلبية وطنية، يستند فيها إلى تحالف “إنقاذ وطن” (175 نائبا) والذي يتكون من الكتلة الصدرية، والائتلاف السني الأكبر “سيادة” (71 نائبا)، ويتكون التحالف من تحالفي “تقدم” (37 نائبا)، بزعامة رئيس البرلمان “محمد الحلبوسي”، و”عزم” (34 نائبا)، بقيادة رجل الأعمال “خميس الخنجر”، بالإضافة إلى كتلة الحزب الديمقراطي الكردستاني (31 نائبا)، وقد اعتبر هذا القرار انقلابا على المعادلة السياسية التي حكمت العراق طيلة 4 حكومات سابقة منذ الغزو الأمريكي لها، والذي يعتمد على تشكيل حكومة “توافق” تشارك فيها جميع القوى السياسية داخل البرلمان، ومن ثم تتمكن جميعها -بمنطق المحاصصة- من تحقيق مكاسب ومصالح.
إقرأ أيضاً:
العراق .. عودة الاحتجاجات في ظل أزمات متفاقمة
العراق.. تصعيد بالوكالة غير حاسم وتحديات كبرى أمام الحكومة
اتفاق الغاز الثلاثي يضع “إسرائيل” ومصر في معادلة أمن الطاقة الأوروبية
- راهن الصدر على تمتع تحالفه “إنقاذ وطن” بالأغلبية المطلقة داخل البرلمان (النصف + 1)، ومن ثم قدرته على تشكيل حكومة أغلبية دون توافق مع “الإطار التنسيقي”، لكنّ قوى “الإطار” لجأوا إلى خيار “الثلث المعطل” لمنع إكمال النصاب اللازم لعقد جلسات البرلمان، خوفا من تمرير “الصدر” حكومته، ومن ثم خسارتهم لجزء كبير من نفوذهم السياسي الحكومي.
- مع إصرار “الصدر” على عدم المحاصصة مع “الإطار” خاصة “نوري المالكي”، اتخذ قرارا مفاجئا في يونيو/حزيران باستقالة كتلته من البرلمان، في خطوة قلبت مشهد التحالفات النيابية، وأعلن بها بدء مرحلة المواجهة الشعبية، حيث تستهدف الاحتجاجات الحالية التي أطلقها التيار الصدري قطع الطريق على محاولات قوى “الإطار التنسيقي” لتشكيل حكومة بات واضحا أنها ستكون تحت هيمنة “نوري المالكي”، بالإضافة إلى مواصلة الضغوط من أجل إجراء انتخابات مبكرة أملا في تغيير خريطة قوى البرلمان. الاستقالة من البرلمان واستكمال المواجهة من خارجه، تشير إلى أن “الصدر” ليس بصدد التفاهم مع الوضع القائم، لكنه يسعى لتغييره.
- يتمتع “الصدر” بعلاقة قوية مع رئيس الوزراء “مصطفى الكاظمي”، الأمر الذي يمنح احتجاجات التيار الصدري دعما ضمنيا من السلطة التنفيذية، في ظل توتر العلاقة بين بعض مكونات “الإطار” و”الكاظمي”؛ نتيجة محاولاته الحد من نفوذ الميليشيات، هذا التوتر الذي يعتقد أنه أدى لمحاولة اغتياله في نوفمبر/تشرين الثاني 2021، جاء “الكاظمي” لرئاسة الحكومة في مايو/أيار 2020، كحل وسط بين إيران والولايات المتحدة. وعلى الرغم من عدم تبنيه سياسة معادية لإيران، إلا أنه يعتبر على نطاق واسع صديقا للولايات المتحدة ودول خليجية، وهو ما يثير القلق داخل معسكر الموالين لإيران.
- تتمتع إيران بنفوذ كبير داخل العراق، سواء مع النخب السياسية وأجهزة الدولة البيروقراطية، أو مع قادة الميليشيات التي تربطها علاقات مباشرة بالحرس الثوري الإيراني، لذا فإن إيران يمكن أن يكون لها دور مؤثر في تخفيف حدة الصراع وطرح الحلول؛ خاصة وأن علاقاتها عميقة مع طرفي الصراع ولا يمكن اعتبار أي من الطرفين معاديا لها. ولا شك أن التعامل مع “الصدر”، المستقل نسبيا عن إيران، والذي لديه اتصالات غامضة مع السعودية، سيكون أكثر تعقيدا من التعامل مع “المالكي” و”العامري”، لكن من المبالغة تصور أن النفوذ الإيراني سيكون مهددا إذا استمر “الكاظمي”، أو تمكن “الصدر” من تشكيل حكومة أغلبية، وهذه المبالغة تستند أساسا إلى واقع لا يمكن إنكاره وهو أن جيران العراق الخليجيين ومحيطه العربي يفضلون استمرار “الكاظمي”، أو على الأقل لا يتمنون عودة “المالكي”.
- في المقابل فإن نفوذ الولايات المتحدة والغرب في العراق بفضل الدعم الأمني والاقتصادي للسلطات الفيدرالية العراقية، يبدو غير أساسي في هذا الصراع، كونه داخل البيت الشيعي نفسه، حيث تنحصر العلاقات الغربية في أجهزة الأمن، خاصة بعض أفرع الجيش ومكافحة الإرهاب والاستخبارات، بالإضافة للعلاقات مع قيادات سياسية من كافة الأطراف: السنة والأكراد وحتى بعض النخب الشيعية، لكنّ أصدقاء الغرب الشيعة لا يمثلون كتلا سياسية قوية مقارنة بقوى “الإطار”، وللمفارقة؛ يبدو “الصدر” كبديل شيعي وحيد محتمل لتكتل القوى الشيعية الموالية لإيران سياسيا وعسكريا.
خلاصة
- تسلط هذه الأزمة الضوء على هشاشة نظام الحكم في العراق ما بعد الاحتلال الأمريكي، واعتماده على تقاسم المصالح والنفوذ بين مجموعات تستند إلى قوتها العسكرية والتنظيمية، والدعم الخارجي، وليس إلى ممارسة انتخابية راسخة، رغم استمرارية الانتخابات وتعاقب الحكومات، فتكرار نفس الأزمات السياسية خلال السنوات الماضية يعني أنها باتت مزمنة، وناتجة عن طبيعة المعادلة السياسية.
- ويشير موقف “مقتدى الصدر” إلى قناعته بأن المعادلة السائدة لم تعد مجدية، وأن نهجا جديدا بات ضروريا لمعالجة فقدان الثقة الشعبية المتزايد تجاه مؤسسة الحكم، في ظل الانتشار الواسع للفساد، وهيمنة سلاح الميليشيات، مقابل تدهور الخدمات الأساسية وتزايد البطالة. لا يعتبر “الصدر” بعيدا عن نخبة الحكم هذه وهو ما يطرح شكوكا لدى البعض حول مصداقيته، لكنّ إعلانه التمرد على النهج السائد وتمسكه بمطلب “حكومة مستقلة” قد يعزز من قاعدة التأييد له.
- من غير المرجح أن يصل التيار الصدري والإطار التنسيقي إلى حل سياسي في المدى القريب بخصوص تشكيل الحكومة، ما يعني استمرار الجمود السياسي. ومن ثم فإن البلاد ستظل في مرحلة انتقالية تديرها حكومة “الكاظمي” إلى أن تتفق القوى الشيعية على إجراء انتخابات مبكرة، وهي عملية تبدو معقدة، نظرا لتباين المواقف حولها داخل “الإطار التنسيقي” نفسه؛ فبينما أبدى “العامري” موقفا إيجابيا، أعرب “المالكي” عن رفض قاطع للدعوة لانتخابات مبكرة إلى أن يتمكن البرلمان من الانعقاد.
- ومازال من المرجح ألا يتطور الصدام السياسي إلى صراع مسلح، ليس فقط لأن قادة الطرفين يتجنبون هذا الخيار، ولكن لأن إيران أيضا ستعمل على تجنب الفوضى الأمنية في العراق خاصة بين حلفائها. لكنّ اللجوء إلى معادلة الشارع يعني توقع المزيد من الفوضى خلال الفترة المقبلة، أو اندلاع أعمال عنف بين الحين والآخر، لأن كلا الطرفين قادر على التعبئة.
- كما أن الأمور قد تخرج عن سيطرة الطرفين إذا ما حفزت حركة الشارع المواطنين للعودة إلى الاحتجاجات لأسباب اقتصادية واجتماعية بصورة أساسية. فرغم إيرادات النفط الضخمة، مازال يعيش حوالي 30٪ من العراقيين تحت خط الفقر، ويبلغ معدل البطالة بين الشباب نحو 40%، بالإضافة إلى نقص مزمن في المياه والكهرباء. هذه الضغوط تُبقي على دوافع الاضطرابات الاجتماعية حتى في حال الوصول إلى حل للأزمة السياسية، وليس من المستبعد أن تؤدي الانعكاسات الناتجة عن الجمود السياسي، إلى تفجر السخط الشعبي.