توتر علاقات أمريكا وجورجيا لا ينفصل عن توازن القوى مع روسيا في جنوب القوقاز
سياقات - يوليو 2024
تحميل الإصدار

الحدث

● أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية إلغاء مناورة “الشريك النبيل” التي كان من المقرر إجراؤها في جورجيا أواخر يوليو/ تموز، وذلك ضمن مراجعة شاملة للعلاقات الثنائية بين الجانبين؛ ردا على اتهامات وجهتها الحكومة الجورجية لواشنطن وعواصم غربية تشمل تحريضها على فتح جبهة ضد روسيا لتخفيف الضغط على أوكرانيا، والضلوع في محاولتين انقلابيتين ضد الحزب الحاكم في جورجيا، فضلا عن سن الحكومة الجورجية، بقيادة حزب “الحلم”،  لقانون “النفوذ الأجنبي” الذي تقول واشنطن وحكومات غربية إنه يخنق حرية تكوين الجمعيات وحرية التعبير، والذي في إثره أطلق وزير الخارجية الأمريكي مراجعة شاملة للعلاقات، وأعلن تقييد التأشيرات للمسؤولين في جورجيا وأفراد أسرهم.

● وجاءت الخطوات الأمريكية ضمن إجراءات غربية منسقة للضغط على جورجيا، حيث جمدت الدنمارك مساعدات عسكرية تبلغ 10 مليون دولار، وجمد الاتحاد الأوروبي 30 مليون يورو مخصصة لدعم الجيش الجورجي، ثم جاءت الخطوة الأبرز في 9 يوليو/تموز بإعلان تجميد عملية انضمام جورجيا إلى الاتحاد الأوروبي مؤقتا، بعد أن حصلت جورجيا عام 2023 على وضع “المرشح” لعضوية الاتحاد.

الضغوط الغربية على جورجيا قد تدفعها أكثر باتجاه موسكو

التحليل: الضغوط الغربية على جورجيا قد تدفعها أكثر باتجاه موسكو

تشير هذه الإجراءات إلى جدية واشنطن في كبح ميل الحكومة الجورجية نحو موسكو، عبر إجراءات تؤثر سلبا على القدرات العسكرية الجورجية التي تعتمد على المساعدات الأمريكية والغربية، كما ستؤثر على شراكة جورجيا الاستراتيجية مع الولايات المتحدة. لكنّها قد تهدد بدفع الحزب الحاكم في جورجيا بعيدا باتجاه موسكو، مما سيعيد تشكيل توازن القوى في جنوب القوقاز.

تعود جذور التوتر بين “حزب الحلم” الجورجي الحاكم وواشنطن إلى عام 2012، حين تمكن الحزب الذي أسسه الملياردير “بيدزينا إيفانيشفيلي” من تكوين جبهة موسعة هزمت “الحركة الوطنية المتحدة” الحاكمة آنذاك بقيادة الرئيس “ميخائيل ساكاشفيلي” المقرب من الغرب. ومؤخرا، أعلن “إيفانيشفيلي” دعم تعيين “إراكلي كوباخيدزه” رئيسا للوزراء، وهو معروف بقربه من موسكو، وتبنيه لقيم الأسرة في مواجهة التوجهات الليبرالية بدعم الشواذ، كما اتهم واشنطن بدعم محاولتين للإطاحة بالحكومة بواسطة منظمات مجتمع مدني بهدف فتح جبهة ثانية ضد روسيا تخفف الضغط عن أوكرانيا.  

تواكبت تلك الخطوات مع نمو الناتج المحلي الإجمالي الجورجي بنسبة قياسية بلغت 10.1% في عام 2022 على خلفية توافد رجال الأعمال الروس نحو جورجيا هربا من العقوبات، مما وفر لجورجيا بدائل للاستثمارات الغربية. وفي ظل خشية حزب “الحلم”، من عزم واشنطن على إزاحته من السلطة في الانتخابات المقرر إجراؤها في أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، فقد تبنى سن قانون “النفوذ الأجنبي” والذي يستهدف الحد من تأثير المنظمات غير الحكومية الممولة من الغرب.

تعتبر الحكومة الجورجية أن الهدف الرئيسي من تأجيل التدريب العسكري هو الضغط عليها قبل الانتخابات، لكنها تراهن على تزايد احتمالات عودة ترامب للبيت الأبيض، وإعادة ضبط العلاقات مع الولايات المتحدة، نظرا لعدم اهتمامه بملف منظمات المجتمع المدني، ولمواقفه الأقل حدة تجاه موسكو. ويبدو أن الحكومة لم تتوقع أن تتسع ردود الفعل الغربية لتشمل التعاون العسكري، نظرا لمساهمة جورجيا بقوات سابقا مع حلف الناتو في حرب أفغانستان، وبقوات مع بعثة الاتحاد الأوروبي في أفريقيا الوسطى، وتوفيرها مرتكزا للنفوذ الغربي في جنوب القوقاز. 

بالتزامن مع توتر العلاقات الأمريكية الجورجية، أجرت واشنطن تدريبات عسكرية في الفترة من 15 إلى 24 يوليو/ تموز بأرمينيا جارة جورجيا، مما يبعث برسالة إلى تبليسي، بأن واشنطن قد تنقل رهانها إلى يريفان لتصبح الشريك المفضل للغرب في جنوب القوقاز، خاصة في ظل توتر العلاقات الأرمينية الروسية، واتجاه أرمينيا لتعزيز العلاقات مع الولايا ت المتحدة وفرنسا لتنويع خياراتها بدلا من اعتمادها الحصري على روسيا، والذي تمأسس عبر انضمامها في عام 2002 إلى منظمة معاهدة الأمن الجماعي، وانضمامها في عام 2014 إلى الاتحاد الاقتصادي الأوراسي. 

 فقدت أرمينيا ثقتها في موسكو إثر امتناع قوة حفظ السلام الروسية المتواجدة في إقليم ناغورنو كاراباخ عن التدخل لمنع أذربيجان من السيطرة عليه بالقوة في عام 2023، ورفض روسيا تفعيل المادة الرابعة من معاهدة منظمة معاهدة الأمن الجماعي الخاصة بتقديم المساعدة العسكرية للدولة العضو حال الاعتداء عليها، بحجة أن كاراباخ منطقة معترف بها دوليا كجزء من أذربيجان لا أرمينيا، كما رفضت روسيا أيضا تفعيل المادة إثر حدوث توغلات لجيش أذربيجان داخل الحدود الأرمينية.

خلصت يريفان إلى أن الاعتماد المفرط على راعٍ أمني واحد بمثابة سياسة خطيرة في ظل تشابك علاقات روسيا مع أذربيجان وتركيا، فأقدمت خلال العام الجاري على تجميد مشاركتها في منظمة معاهدة الأمن الجماعي، كما قبلت استضافة قوة مدنية من الاتحاد الأوروبي قوامها 200 فردا لمراقبة الحدود مع أذربيجان، وذلك في أول مهمة أوروبية في بلد عضو في منظمة معاهدة الأمن الجماعي.

في الجانب الآخر؛ ونظرا للقيود التي تفرضها جغرافيا أرمينيا شبه المحاصرة منذ إغلاق الحدود التركية الأذرية في وجهها، فإن التركيز الغربي ينصب على دعم عملية السلام بين أرمينيا وأذربيجان، وتعزيز البنية التحتية في أرمينيا. وتعهد الاتحاد الأوروبي في أبريل/ نيسان بحضور رئيس الوزراء الأرميني “نيكول باشينان” ووزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكن”، بتقديم 270 مليون يورو دعما لأرمينيا، بينما تعهدت واشنطن بتقديم 65 مليون دولار. فيما بدأت أرمينيا في تعزيز مشترياتها العسكرية من الهند وفرنسا، ضمن جهود تكوين تحالف ثلاثي في مواجهة أذربيجان وتركيا وباكستان.

يواجه تعميق العلاقات الأرمينية الغربية عدة عقبات، من أبرزها أن النفوذ الروسي في أرمينيا عميق وطويل الأمد، وضارب الجذور في نخبة الحكم والبيروقراطية، كما تعتمد يريفان على موسكو في 85% من وارداتها للغاز بأسعار مخفضة، فيما لم يقدم الغرب لأرمينيا ضمانات أمنية كافية في مواجهة أذربيجان، فضلا عن تباطؤ الاتحاد الأوروبي في قبول عضوية أرمينيا، وهي جملة أمور تحد من أي توجه أرميني نحو قطيعة مع موسكو التي لا تزال تقدم لأرمينيا امتيازات اقتصادية وحماية عسكرية لا توفرها دول أخرى. من جهة أخرى؛ فإن العلاقات الأرمينية الإيرانية الجيدة ستتأثر سلبا حال منح أرمينيا بوابة لقوات الناتو للدخول إلى جنوب القوقاز على الحدود مع إيران.

لا يتوقع أن يستمر التوتر في العلاقات الجورجية الأمريكية في حالة خسارة حزب الحلم الجورجي للانتخابات القادمة، أو فوز ترامب بالرئاسة. ولا يزال المزاج الشعبي الجورجي يميل نحو الغرب وليس روسيا التي اقتطعت من الأراضي الجورجية أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية في حرب عام 2008. أما أرمينيا فستظل القيود الجغرافية والاقتصادية والأمنية تربطها بموسكو، ولكنّها ستواصل سياسة التحوط وتنويع العلاقات دون أن تبتعد كثيرا عن روسيا. وقد يكون الخيار العملي الأفضل لها بعد فقدانها لإقليم كاراباخ هو تطبيع العلاقات مع تركيا وأذربيجان مما يفتح طرق العبور والتجارة في جنوب القوقاز، ويجنبها النزيف المستمر في مواجهاتها المتكررة مع أذربيجان.