استشراف حالة الدولة
- سيظل الجيش هو الطرف الأكثر تأثيراً في سياسات الدولة ومواقفها من التطورات الرئيسة، ويظل الرئيس المصري محتفظا بدعم الجيش، خاصة مع استمرار الدعم الخارجي له. ومن المرجح أن يلجأ السيسي خلال فترة حكمه الجديدة إلى تعديل الدستور مجددا للبقاء في منصبه.
- ترسل السياسات المحلية تمسكا بالنهج الأمني السائد وغياب أي رغبة في إجراء إصلاحات سياسية. ومن المرجح إعادة تشكل خريطة المعارضة السياسية، بما في ذلك تأسيس أحزاب جديدة، لكن دون تأثير يمكنه تحدي الحكم. وتظهر النقابات كساحة محتملة لتنشيط الحياة السياسية المقيدة.
- ستواصل مصر الاعتماد على الولايات المتحدة كحليف استراتيجي؛ حيث يضمن ذلك للقاهرة تدفقا كبيرا للدعم الاقتصادي من المؤسسات الدولية والغربية المتنوعة. بينما تميل واشنطن لمنح مصر المزيد من الدور الإقليمي؛ لضمان أن تظل القاهرة خارج مجال النفوذ الصيني والروسي.
- باتت مسألة الهجرة غير الشرعية أحد الأولويات التي تشكل علاقات مصر مع الاتحاد الأوروبي، لكنّ الاتحاد ينظر أيضا لعوائد استراتيجية من ترقية الشراكة مع مصر، تتمثل في الأرباح الكبيرة التي تحصدها الشركات الأوروبية المدنية والعسكرية جراء الصفقات مع الحكومة المصرية.
- ستواصل مصر توثيق العلاقات مع روسيا والصين كثقل موازن لتحالفاتها مع الغرب. وتضع مصر أولوية للعلاقات مع الهند؛ نظرا لتنوع آفاق التعاون بين الجانبين. وستظل دول الخليج العربي هي حليف مصر الإقليمي؛ حيث يمثل استمرار وزيادة الدعم الاقتصادي الخليجي، أولوية حيوية للقاهرة.
- رغم تسارع مظاهر تطبيع العلاقات مع تركيا، يهمين الحذر والشك على موقف الجانب المصري الذي مازال ينظر لنفوذ أنقرة في المنطقة العربية والقارة الأفريقية كتهديد. بينما مازالت عملية التطبيع مع إيران محدودة، ويحد من تقدمها الانقسام حول ملفات إقليمية، والقيود المتعلقة بعلاقة مصر مع “إسرائيل” والولايات المتحدة.
- أظهرت الحرب على غزة حدود قدرة مصر على الدفاع عن مصالحها؛ حيث التزمت القاهرة بتنظيم التنقل عبر معبر رفح للجرحى والمساعدات وفقا لتوجيهات الجانب الإسرائيلي، على الرغم من رفض القاهرة مخطط تهجير الفلسطينيين باعتباره خطوة لتصفية القضية الفلسطينية، ويمهد لتغيير الواقع الجيوسياسي بإقامة “دولة إسرائيل الكبرى” على حدود مصر الشمالية الشرقية.
- من المرجح أن تتراجع أزمة الدولار في الأشهر القادمة؛ فالاتفاق الجديد مع صندوق النقد الدولي، ومليارات صفقة رأس الحكمة مع الإمارات، واتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، يمنح مصر وصولا أسهل إلى أسواق الاستدانة في الأجل القصير، خاصة مع استمرار تقديم نسبة فائدة مرتفعة جدا.
- ستمثل تلك التمويلات جرعة إنقاذ، لكنها لن تقدم حلا مستداما؛ نظرا للأزمات الهيكلية التي يعاني منها الاقتصاد المصري، وفي مقدمتها هيمنة الجيش على الاقتصاد مقابل إضعاف القطاع الخاص، والاعتماد المفرط على الاستدانة، وضخ الأموال في مشاريع عالية التكلفة وغير منتجة، والفساد.
- تثير حرب غزة مخاوف رسمية إزاء احتمال ظهور توجهات قومية ودينية داخل المؤسستين العسكرية والأمنية، في ظل تنامي العداء للاحتلال الإسرائيلي. وتظهر المؤشرات ثقة الرئيس المصري في الجيش لتحقيق الأمن الداخلي، مقارنة بشكوكه حول كفاءة الشرطة في مواجهة أي اضطرابات محتملة، ومدى انضباطها مقارنة بالانضباط العسكري.
- ستظل احتمالات الاضطراب الاجتماعي غير مستبعدة، لأسباب اقتصادية أو سياسية، لكن تماسك الأجهزة الأمنية، وغياب قوى معارضة واسعة ومنظمة، ستجعل الانفجارات الاجتماعية – إن حدثت – عفوية ومحدودة، ومن ثم قابلة للسيطرة على الأرجح، سواء من خلال القمع أو الاحتواء.
أولا: الحالة السياسية
- انتهى عام 2023 بإعادة انتخاب “عبد الفتاح السيسي” رئيسًا لمصر في ديسمبر/كانون الأول بنسبة 89.6% من الأصوات أي 39.7 مليون صوت، بحسب النتائج الرسمية. لكنّ الانتخابات اتخذت طابعا شكليا؛ حيث جرت وسط مناخ من إغلاق الفضاء السياسي بصورة عامة، وتعطيل ترشح المنافس الأكثر شعبية “أحمد طنطاوي” من دخول السباق الانتخابي. ومن المفترض تنصيب “السيسي” (69 عاما) رئيسا في مطلع نيسان/ إبريل 2024 لفترة جديدة تمتد حتى عام 2030. ومن المرجح أن يلجأ لاحقا إلى تعديل الدستور مجددا للبقاء في منصبه.
- لا تبدو كل جوانب الصورة واضحة حول ما يدور في كافة مؤسسات الدولة، لكنّ الجيش سيظل، في كل الأحوال، هو الطرف الأكثر تأثيراً على سياسات الدولة ومواقفها من التطورات الرئيسة، ومن الواضح أن السيسي سيظل محتفظا بدعم الجيش، خاصة في ظل استمرار الدعم الخارجي. ومع هذا؛ فإن محاولة الفريق “محمود حجازي”، قائد الأركان الأسبق وصهر “السيسي”، الترشح للرئاسة، والتي كشفت عنها رموز سياسية مصرية مقربة من السلطات، تمثل قمة جبل غير مرئي من الصامتين داخل أجهزة الدولة الذين يقدرون أن المسار الحالي قد لا يستمر طويلا، وأنه قد حان وقت السعي لترتيب وراثته، وهو أمر لا يمثل تحديا للسيسي في فترة حكمه الجديدة.
- انعقدت أولى جلسات “الحوار الوطني” في مايو/أيار 2023، لكنه بدلا من أن يرسل رسالة انفتاح حقيقية أضاف للمشهد العام تأكيدا على تمسك النظام بالنهج الأمني السائد وغياب أي رغبة في إجراء إصلاحات سياسية حقيقية؛ حيث تجنب مناقشة القضايا الجوهرية مثل الدستور والحريات والسياسة الخارجية والأمن القومي، وخلص إلى توصيات شكلية مثل زيادة عدد أعضاء مجلسي النواب والشيوخ، والتوسع في تدريس مواد التربية القومية والأخلاق. وبينما أعلن مجلس أمناء الحوار الوطني تعليق جلساته لما بعد الانتخابات الرئاسية، فلم يعد ثمة من يعول على تحقيق تقدم يذكر سواء استأنف الحوار الوطني في الأشهر القادمة أم لا.
- من المرجح إعادة تشكل الخريطة السياسية المعارضة من جديد، خاصة في ظل اتجاه كل من أحمد الطنطاوي وهشام قاسم لتأسيس أحزاب جديدة، لكن تأثير ذلك سيظل محدودا على تحدي الحكم. بعد تفكك “التيار الحر” الذي شكلته أحزاب المحافظين، والإصلاح والتنمية، والدستور، ومصر الحرية، إثر القبض على “هشام قاسم” المتحدث باسم التيار، والحكم عليه بالسجن 6 شهور في قضية سب وقذف الوزير السابق كمال أبوعيطة، وإهانة عدد من أفراد الشرطة، فضلا عن تضارب موقف مكوناته من المشاركة في انتخابات الرئاسة، والخلاف حول دعم بعض قياداته مثل “عماد جاد” للتطبيع مع “إسرائيل”. وفي المجمل طغت الخلافات بين مكونات “التيار الحر” على القواسم المشتركة.
- في ظل القيود الأمنية على الأحزاب ومجمل الممارسة السياسية، تظهر النقابات كساحة محتملة لتنشيط الحياة السياسية المقيدة. فقد فاز الصحفي البارز، خالد البلشي، بمنصب نقيب الصحفيين مقابل خالد ميري، المرشح الموالي للسلطة، وذلك عقب مظاهرات للمحامين أمام مقر نقابتهم في ميدان رمسيس اعتراضا على قانون الفاتورة الإلكترونية، وتلاه رفض الجمعية العمومية لنقابة المهندسين سحب الثقة من النقيب “طارق النبراويك”، عبر استفتاء تخلله اقتحام عشرات البلطجية مقر النقابة بدعم من قيادات في حزب مستقبل وطن الموالي للسلطة.
ثانيا: العلاقات الخارجية
- يربط موقع مصر الاستراتيجي البحرين المتوسط والأحمر عبر قناة السويس، ويتصل عنده غرب آسيا والجزيرة العربية بشمال أفريقيا، كما يمنحها نفوذا جغرافيا أبديا على فلسطين المحتلة، وفي الوقت نفسه يمثل عدد سكانها الذي تجاوز 105 مليون سوقا كبيرا وطاقة عمل شابة حيوية. كل ذلك يجعل القوى العالمية والإقليمية حريصة على الحفاظ على استقرار النظام في مصر، فضلا عن الاحتفاظ بعلاقات جيدة مع النظام المصري، إن لم يكن نفوذا عليه. ولذلك؛ تتمتع القاهرة بعلاقات استراتيجية مع الولايات المتحدة وأوروبا ودول الخليج العربية، فضلا عن شراكة متنامية مع كل من روسيا والصين والهند، وتطبيع رسمي مع “إسرائيل” هو الأقدم عربيا.
التحالف المصري مع الغرب مازال استراتيجيا رغم التقلبات
- تحظى مصر بصنيف “حليف من خارج الناتو” للولايات المتحدة، وهو ما يجعلها شريكا أمنيا استراتيجيا لواشنطن. وبصورة عامة، يعتمد الجيش المصري في تسليحه على الولايات المتحدة ودول أوروبا الرئيسية: ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، ويتلقى معونة أمريكية عسكرية منتظمة تبلغ 1.3 مليار دولار سنويا منذ أكثر من 40 عاما. كما تضمن علاقات مصر مع الغرب ودورها الأمني في المنطقة تدفقا كبيرا للدعم الاقتصادي من المؤسسات الدولية والغربية المتنوعة، والذي من المرجح أن تواصل القاهرة الاعتماد عليه في السنوات القليلة القادمة على الأقل.
- رغم طفرة صادرات الأسلحة الروسية إلى مصر خلال الفترة من 2018-2022، والتي مثلت حوالي ثلث واردات مصر العسكرية، فإن هذا الاتجاه بدأ في التراجع منذ عام 2022 نتيجة الحرب الروسية الأوكرانية، ومن المرجح أن يتواصل التراجع خلال 2024، خاصة بعد استجابة مصر للضغوط الأمريكية وتراجعها عام 2022 عن صفقة شراء طائرات سوخوي 35 الروسية، ثم أعلنت شركة بوينج الأمريكية بدء إنتاج 12 طائرة مروحية طراز شينوك CH-47F لصالح القوات الجوية المصرية بقيمة 426 مليون دولار. وهكذا، ستواصل مصر في الأجل القصير على الأقل الاعتماد في الأسلحة الاستراتيجية على القوى الغربية.
- مرت العلاقات المصرية الأمريكية بتقلبات متفاوتة خلال العقد الماضي، على خلفية التباين حول الربيع العربي وملف حقوق الإنسان ومنظمات المجتمع المدني خاصة عقب الانقلاب العسكري، وهو ما انعكس على حجب وزارة الخارجية الأمريكية، أكثر من مرة، إذ إن جزءًا من المساعدات الأمريكية المقدمة لمصر بذريعة اشتراط تحسن وضع حقوق الإنسان.
- لكنّ الأهم من ذلك، كان انزعاج واشنطن من علاقات “السيسي” المتنامية مع روسيا. في مقابل ذلك، فإن تطورات إقليمية مثل معركة سيف القدس عام 2021، والصراع في السودان منذ أبريل/نيسان 2023، ثم الحرب الراهنة على غزة، وتطورات أخرى دولية مثل التنافس الأمريكي الصيني وحرب أوكرانيا، لعبت دورا حاسما في إعادة التأكيد لدى الولايات المتحدة على أهمية الشراكة مع مصر لإنفاذ السياسات الأمريكية في المنطقة، ومن ثم اتجهت إدارة “بايدن” لمنح مصر المزيد من الدور في بعض الملفات الإقليمية، وهو اتجاه من المرجح أن يستمر بغض النظر عن هوية الرئيس الأمريكي القادم، لأنه يستهدف في المنظور الأمريكي الأوسع ضمان أن يظل حلفاء واشنطن في المنطقة خارج مجال النفوذ المنافس، الصيني والروسي.
- بالإضافة للعلاقات الأمنية والعسكرية والاقتصادية طويلة الأمد بين مصر وقوى أوروبا الرئيسية، ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا، فإن مسألة الهجرة غير الشرعية تمثل أحد القضايا الأكثر أولوية في تشكيل علاقات القاهرة مع الاتحاد الأوروبي في الوقت الراهن، ليس فقط بسبب موقع مصر كحاجز رئيسي بين المتوسط وأمواج اللجوء الأفريقية، ولكن أيضا لأن المواطنين المصريين أنفسهم يسجلون النسبة الأكبر من المهاجرين غير النظاميين الذين وصلوا إلى إيطاليا خلال عام 2022، بما يعادل 20%. لذلك؛ باتت مكافحة الهجرة غير الشرعية، وأسبابها المتعلقة بالفقر وعدم الاستقرار السياسي والأمني، من الملفات التي توظفها مصر للضغط على أوروبا للحصول على دعم اقتصادي، وللحد من أي انتقادات محتملة للسياسات الأمنية المحلية كونها تستهدف تحقيق الاستقرار وتجنب انزلاق البلد الذي يضم أكثر من مائة مليون نسمة نحو الفوضى والاضطراب. ومع ذلك؛ يعكس توقيع اتفاق الشراكة الاستراتيجية بين الجانبين أن الاتحاد الأوروبي ينظر لعوائد استراتيجية من علاقته مع مصر أوسع بكثير من مسألة الهجرة، تتمثل في الأرباح الكبيرة التي تحصدها الشركات الأوروبية المدنية والعسكرية، جراء التحالف مع الحكومة المصرية.
تعزيز البدائل… شراكة مصر مع روسيا والصين والهند
- ستواصل مصر توثيق العلاقات مع كل من روسيا والصين كثقل موازن لتحالفاتها مع الولايات المتحدة وأوروبا، وتجنب الإفراط في الاعتماد على حليف واحد. وتنسق القاهرة مع موسكو في ملفات إقليمية أبرزها ليبيا وسوريا، كما تعتمد مصر على القمح الروسي بنسبة بلغت 70٪ من إجمالي وارداتها من تلك السلعة الاستراتيجية. وبينما يحرص قادة الغرب على عزل الرئيس الروسي “بوتين” دبلوماسيا، شارك الرئيس المصري، في يوليو/تموز الماضي، في القمة الروسية الأفريقية المنعقدة في سان بطرسبرغ، كما استقبل في القاهرة نائب رئيس الوزراء الروسي وممثل بوتين الخاص. فيما يتواصل العمل في مشروع محطة الضبعة للطاقة النووية، وبناء منطقة صناعية روسية في المنطقة الاقتصادية بقناة السويس. كذلك، انخرطت مصر في استيراد النفط الروسي وإعادة خلطه، ثم تصديره على أنه نفط غير روسي لمساعدة موسكو في التهرب من العقوبات الغربية.
- تحافظ مصر على علاقاتها مع الصين، والتي وصلت منذ عام 2014 إلى مستوى “الشراكة الإستراتيجية الشاملة”. وفي عام 2023 وقع الجانبان اتفاقية لمبادلة الديون فضلا عن ضخ استثمارات صينية في مصر بأكثر من 15 مليار دولار لإنتاج الوقود الأخضر وتأسيس مجمعات صناعية. وتحرص مصر على الاستفادة من وزن الصين كدولة دائمة العضوية في مجلس الأمن، وانضمت للمنظمات الدولية التي تقودها الصين مثل مجموعة البريكس، ومنظمة شانغهاي للتعاون. ومع ذلك، فإن الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين البلدين لها حدود؛ إذ لا يوجد توجه ملموس لديهما بتعزيز العلاقات العسكرية والأمنية، وتعتبر مصر علاقاتها مع الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا وألمانيا ذات أولوية في هذه الجوانب مقارنة بالصين.
- الصين هي أكبر شريك تجاري لمصر، بحجم تبادل تجاري 16.25 مليار دولار عام 2022، لكنه يميل لصالح الصين التي بلغت صادراتها لمصر 14.4 مليار دولار. وتشغل مصر موقعا محوريا في مبادرة “الحزام والطريق”، والتي تتقاطع مع الاهتمام المصري بتطوير المجرى الملاحي لقناة السويس، وربط الموانئ المحلية على البحرين الأحمر والمتوسط بشبكة طرق وسكك حديدية متطورة. وتبني شركة “هاتشيسون للموانئ” الصينية محطة مناولة الحاويات بميناء أبو قير، وتتولى شركات صينية بناء منطقة الأبراج في العاصمة الإدارية الجديدة.
- في نفس الوقت، تضع مصر الهند ضمن أولويات سياستها الخارجية؛ نظرا لتنوع آفاق التعاون بين الجانبين، وتشجيع إدارة بايدن حلفاءها العرب لتعزيز العلاقات مع الهند لموازنة علاقاتهم مع الصين. شارك السيسي كضيف شرف رئيسي في احتفالات الهند بيوم الجمهورية، واستقبل في القاهرة رئيس الوزراء الهندي مودي، وأعلنا رفع العلاقات لمستوى الشراكة الإستراتيجية، والشروع في عقد اجتماعات اللجنة المشتركة لمكافحة الإرهاب، إذ تهدف القاهرة لتعزيز التعاون مع نيودلهي في مجال مكافحة الإرهاب بالأخص بعد سيطرة طالبان على أفغانستان. وتأمل أيضا في تأمين إمدادات من القمح الهندي، والحصول على خط ائتماني يقلل من تداعيات الأزمة الاقتصادية، والاستفادة من خبرة الهند في مجال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات والصناعات الدوائية والطاقة المتجددة.
العلاقات الإقليمية… تحالف الضرورة مع الخليج واختبار الفرص مع تركيا وإيران
- ستظل دول الخليج العربي هي الحليف الإقليمي الرئيسي لمصر؛ إذ تشارك القاهرة تهديدات مشتركة تتعلق بالنفوذ الإقليمي الإيراني والتركي، فضلا عن حرص هذه الدول المشترك على الدفاع عن الوضع الراهن في المنطقة ضد احتمالات تجدد حالة الاحتجاج الشعبي وتغير الأنظمة. لكن هذا التحالف يحمل في طياته تناقضات داخلية وتنافس محتدم، وحتى تباين في المصالح في بعض الملفات.
- لدى مصر حاجة مُلحة لمواصلة علاقة مستقرة مع دول الخليج، لاسيما أن استمرار الدعم الاقتصادي الخليجي لمصر، فضلا عن زيادته، يمثل أولوية حيوية للقاهرة. (قبل توقيع اتفاقية رأس الحكمة، كانت الودائع طويلة الأجل في البنك المركزي المصري من الإمارات والسعودية والكويت تبلغ 15 مليار دولار، تمثل 55٪ من احتياطي العملات الأجنبية).
- ومن المرجح أن يتمسك الرئيس المصري بنهج احتواء التوتر مع السعودية وتجنب الصدام مع ولي العهد محمد بن سلمان، رغم تباطؤ الاتصالات بين الجانبين، وحدوث تراشقات إعلامية تضمنت توجيه شخصيات سعودية مقربة من السلطة انتقادات حادة لسيطرة الجيش المصري على الاقتصاد، ووضع السعودية بعض الاشتراطات قبل مشاركتها في أي خطة إنقاذ مالية لمصر. وستواصل مصر العمل مع الإمارات بصورة مكثفة، على الرغم من التباين في بعض الملفات، خاصة وأن أبوظبي تثبت دائما التزامها طويل الأجل بالدفاع عن استقرار الوضع في مصر.
- ستظل مصر حريصة على تجنب إغضاب الولايات المتحدة فيما يتعلق بتقدم التطبيع مع نظام الأسد في سوريا، وربط ذلك بالوصول لحل سياسي وفق القرارات الأممية. رحبت القاهرة بعودة سوريا إلى الجامعة العربية، وتبادل البلدان وزيرا خارجية البلدين الزيارة. وتهدف القاهرة إلى تحقيق مكاسب أمنية واقتصادية وسياسية تشمل تعزيز التنسيق الأمني بشأن العناصر المعارضة المطلوبة لدى الدولتين، والعمل المشترك لموازنة النفوذ التركي، والتمهيد لعودة اللاجئين، وحصول الشركات المصرية على حصة من إعادة الإعمار في سوريا. لكن ليس من المتوقع أن تحقق القاهرة أي تقدم في مساعيها للضغط على دمشق للحد من النفوذ الإيراني في سوريا.
- تتسارع مظاهر تطبيع العلاقات المصرية التركية، لكنّ المخرجات مازالت غامضة، ويهيمن الحذر والشك على موقف الجانب المصري الذي مازال ينظر للنفوذ التركي المتنامي في المنطقة العربية والقارة الأفريقية كتهديد. بعد أن اجتمع السيسي وأردوغان على هامش قمة مجموعة العشرين في نيودلهي، جاءت زيارة الرئيس التركي للقاهرة لتعطي دفعة سياسية لجهود التطبيع، لكنّ الزيارة لم تنجح في تجاوز الخلافات الجيوسياسية الأهم، خاصة حول ليبيا والنفوذ في شرق المتوسط، والرفض المصري للتواجد العسكري التركي في سوريا والعراق.
- ومع هذا، سيظل من مصلحة البلدين مواصلة تطوير علاقاتهما؛ فرغم التنافس الجيوسياسي، توفر فرص تنسيق المواقف فيما يخص ملفات ليبيا وفلسطين وشرق المتوسط، مزايا إقليمية للجانبين. أما اقتصاديا، فتأتي تركيا كأكبر ثالث مصدر للواردات إلى مصر، وأكبر سادس وجهة للصادرات المصرية، والوجهة الأولى عام 2023 للصادرات المصرية غير البترولية بقيمة حوالي 2.9 مليار دولار. وتريد القاهرة جذب المزيد من الاستثمارات التركية، حيث تعمل نحو 790 شركة تركية في مصر باستثمارات تقدر بنحو 2.5 مليار دولار في عدة قطاعات، ومن المخطط زيادتها بنسبة 20٪ بنهاية 2024.
- رغم القفزة التي شهدها مسار تطبيع العلاقات المصرية الإيرانية، إلا أن العملية بشكل عام مازالت محدودة، ويحد من سرعة وعمق تقدمها الانقسام الكبير حول ملفات إقليمية، فضلا عن القيود الخارجية المتعلقة بعلاقة مصر مع “إسرائيل” والولايات المتحدة وحتى دول الخليج التي رغم سعيها للتطبيع مع إيران فإنها لم تغير نظرتها لطهران كتهديد إقليمي. تمثلت تلك القفزة في لقاء السيسي للمرة الأولى منذ 2013، مع الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، على هامش القمة العربية الإسلامية المشتركة بالرياض، وذلك عقب لقائه مع وزير خارجية إيران على هامش قمة “بغداد 2” في الأردن، كما سمحت القاهرة للسائحين الإيرانيين إلى جنوب سيناء بالحصول على تأشيرة بكفالة الشركات السياحية.
- تلعب وساطة كل من سلطنة عمان والعراق دورا في تهيئة الاتصالات المباشرة بين القاهرة وطهران. وتسعى مصر لجني عدة مكتسبات من هذا التقارب، في مقدمتها حماية المشاريع والعمالة المصرية في العراق من تضييق المليشيات التابعة لإيران، وفتح قنوات تواصل فيما يخص قضايا إقليمية مثل فلسطين ولبنان وسوريا، فضلا عن كبح أي علاقات إيرانية مع تنظيمات إسلامية مصرية.
حرب غزة
- توجد لدى النظام المصري و”إسرائيل” مصالح مشتركة في الحفاظ على الاستقرار الداخلي المصري، وإبقاء الإسلاميين خارج السلطة، وإضعاف نفوذ حماس، وتأمين الحدود المشتركة، وبناء شراكات اقتصادية بالأخص في ملف تسييل وتصدير الغاز. ومع اندلاع حرب غزة، تحولت مصر إلى بؤرة للقاءات الدبلوماسية، لبحث مستجدات الحرب، ولعبت القاهرة دورا مع قطر في التوصل لاتفاق هدنة مؤقت في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني شمل تبادل أسرى، وتواصل التوسط بين الجانبين للتوصل لاتفاق آخر.
- بصورة عامة، ترفض القاهرة مخطط تهجير الفلسطينيين باعتباره خطوة لتصفية القضية الفلسطينية، ويمهد لتغيير الواقع الجيوسياسي بإقامة “دولة إسرائيل الكبرى” على حدود مصر الشمالية الشرقية. كما تخشى السلطات المصرية من تهجير مئات الآلاف من الفلسطينيين إلى سيناء، وانخراطهم لاحقا في هجمات ضد الاحتلال، مما سينقل القتال إلى سيناء، ويضع الحكومة المصرية في مواجهة مع “إسرائيل”، أو يجبرها على مواجهة سكان القطاع المُهجرين نيابة عن الاحتلال.
- لكن، رغم هذا، أظهرت الحرب حدود قدرة مصر على الدفاع عن مصالحها؛ حيث التزمت القاهرة بتنظيم التنقل عبر معبر رفح للجرحى والمساعدات وفقا لتوجيهات الجانب الإسرائيلي، وهو ما ساهم في تشديد الحصار على غزة، ووضع القاهرة في موقع متراجع أمام حكومة الاحتلال الإسرائيلي تكتفي فيه بموقف رد الفعل المتمثل في محاولة احتواء تداعيات إجراءات الاحتلال في غزة دون إرادة حقيقية لمنعها، رغم تهديدها المباشر للاعتبارات الأمنية المصرية.
- رفضت مصر المشاركة العسكرية في عملية “حارس الازدهار” التي قادتها الولايات المتحدة لتأمين حركة الملاحة في البحر الأحمر لتجنب الظهور بمظهر المدافع عن أمن “إسرائيل”، فضلا عن التوجه المصري العام الذي يميل لاحتواء التوتر الإقليمي وليس إلى تصعيده. من هذا المنطلق، يمثّل التصعيد في البحر الأحمر، والذي يضر بعائدات قناة السويس الضرورية لمصر، مناسبة تدعم مواصلة الاتصالات المصرية الإيرانية، فضلا عن الاتصالات بين مصر والحوثيين في اليمن.
اضطراب في السودان وطريق مسدود مع إثيوبيا
- جلب اندلاع القتال في السودان أزمة جديدة للقاهرة تهدد بتداعيات عميقة؛ حيث تزيد ضعف موقف القاهرة بشأن ملف سد النهضة الذي يعتمد على توحيد موقف مصر والسودان في مواجهة إثيوبيا، كما أن توسع الحرب يحول السودان إلى مصدر للنزوح نحو دول الجوار. وتميل القاهرة لدعم الجيش السوداني باعتباره مؤسسة الدولة القادرة على ضبط الاستقرار في السودان، بينما اصطدمت بسلوك قوات الدعم السريع الذي يغلب عليه طابع الميليشيات، فضلا عن علاقاتهم مع إثيوبيا التي تثير قلق القاهرة. لذلك؛ شهد تمرد قوات الدعم السريع في أيامه الأولى احتجاز 27 ضابطا وجنديا مصريا، قبل إطلاق سراحهم بوساطة إماراتية، وتدمير عدة طائرات مصرية بقاعدة مروي الجوية.
- بعد غياب عن آلية التنسيق الرباعية (واشنطن ولندن والرياض وأبوظبي) بخصوص السودان، ومفاوضات جدة، عادت مصر لممارسة دورا في المشهد عبر قمة دول جوار السودان في القاهرة. لكنّ حاجة الجيش لمزيد من الدعم العسكري، بينما تضمن أطراف بينها الإمارات دعما واسعا لقوات الدعم السريع، دفعته للتوجه نحو تركيا وإيران، وهو ما يزيد من الضغط على مصر التي لا ترحب بأي دور للمنافسين الإقليميين في السودان، ويظهر أيضا تباينات محتملة مع قادة الجيش السوداني.
- تواجه مفاوضات سد النهضة أفقا مسدودا بينما يتصاعد التنافس الإثيوبي المصري في القرن الأفريقي. إذ فشلت الجولة الأخيرة من المفاوضات في الوصول لاتفاق حول آليات تشغيل السد، وأعلنت القاهرة انتهائها، وهو ما يبدد الوعود التي أطلقها السيسي وأبي أحمد خلال لقائهما في عام 2023. وقد بات السد أمرا واقعا، وانتهت إثيوبيا من الملء الرابع، كما تصر على سيادتها على النيل الأزرق ما يتيح لها بناء سدود جديدة مستقبلا دون تنسيق مع مصر والسودان. وقد أعلنت القاهرة احتفاظها بالحق في الدفاع عن إمدادات المياه والأمن القومي، لكن لا توجد مؤشرات لاحتمال التحرك عسكريا ضد السد، وبالأخص بعد اكتمال بنائه. وفي نفس الوقت، تقود اتفاقية إثيوبيا مع “أرض الصومال” إلى تأجيج الصراع في القرن الأفريقي مع مصر.
ثالثا: الحالة الاقتصادية
- مر الاقتصاد المصري بأزمة حادة في عام 2023، وهي تتويج لأزمة هيكلية في الاقتصاد المصري كشفتها بصورة سافرة تداعيات وباء كورونا ثم حرب أوكرانيا وارتفاع التضخم عالميا. وبينما سجل الدين 95% من الناتج المحلي خلال العام المالي 2022-2023، واجهت البلاد نقصا حادا في العملة الأجنبية عقب خروج نحو 21 مليار دولار من الأموال الساخنة من السوق المصري، وتراجع عجز صافي الأصول الأجنبية ليبلغ سالب 27.1 مليار دولار، ويُقصد به ما لدى البنوك من أصول بالعملة الأجنبية من ودائع وغيرها من المستحقات مخصومًا منها التزاماتها بالنقد الأجنبي، ويكون الرصيد بالسالب عندما تفوق الالتزامات الأصول. وقد نتج عن ذلك تعطل أنشطة التصنيع القائمة على الاستيراد، أزمة كبيرة لدى الشركات الناشئة والعاملين في مجالات الشراء الإلكتروني، كما تكدست الواردات في الجمارك دون الإفراج عنها لعدم توافر الدولار.
- تلتزم مصر بمدفوعات دين خارجي تبلغ 32.8 مليار دولار في عام 2024، بحسب وحدة معلومات الإيكونيميست، وتتوقع إس آند بي جلوبال أن يصل نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي إلى 2.8% في السنة المالية 2023-2024، بانخفاض من 3.8% في السنة المالية 2022-2023 بسبب تداعيات الحرب في غزة، والتوتر في البحر الأحمر الذي أدى حتى الآن إلى تراجع السفن المارة بقناة السويس بنحو 35%. كما تراجعت تحويلات المغتربين خلال العام المالي 2022- 2023، بنسبة 30.8٪ على أساس سنوي، إذ بلغت 22.1 مليار دولار مقارنة بمبلغ 31.9 مليار دولار في العام السابق له.
- قررت الحكومة المصرية، في مارس/آذار الجاري، تحرير سعر صرف الجنيه لينخفض من 30.9 جنيه للدولار، إلى 49.5 جنيه أمام الدولار، وذلك استجابة لاشتراطات صندوق النقد الدولي والمانحين الخليجيين، عقب توقيع اتفاق جديد يرفع حزمة الدعم المقدمة إلى القاهرة من 3 إلى 8 مليار دولار. ومع هذا؛ فإن تعويم العملة لن يحسن القدرة التنافسية للصادرات المصرية، وسيؤدي إلى تفاقم التضخم، والذي سجل في شهر فبراير/شباط إلى معدلات قياسية تجاوزت 35٪، ومن المرجح أن يواصل تسجيل معدل قياسي مع ارتفاع أسعار الواردات ومدخلات التصنيع، وهو ما سيقود إلى انخفاض القوة الشرائية للمواطنين، وزيادة تباطؤ النشاط الاقتصادي، ما يزيد المخاطر السياسية.
- من المرجح أن تتراجع أزمة الدولار بصورة ملموسة في الأشهر القادمة؛ إذ يوفر الاتفاق الجديد مع صندوق النقد، ومليارات صفقة رأس الحكمة مع الإمارات، وصولا أسهل إلى أسواق الاستدانة مجددا في الأجل القصير، خاصة مع استمرار تقديم نسبة فائدة مرتفعة جدا. سبق أن خفضت وكالة موديز تصنيف مصر الائتماني مرتين في عام 2023، حيث هبط إلى Caa1 في ظل الشكوك حول قدرة مصر على تدبير تمويل خارجي، وهو ما تابعتها عليه وكالة فيتش فضلا عن ستاندرد آند بورز. وأثر تخفيض التصنيف الائتماني سلبا على إقبال المستثمرين الأجانب على استخدام أدوات الدين المحلية، ورفع الفائدة على القروض لتعويض مخاطر عدم السداد.
- على وقع حرب غزة، والتخوف الأوروبي من حدوث موجات هجرة من غزة والسودان عبر مصر إلى أوروبا، سرّع الاتحاد الأوروبي جهوده لتقديم حزمة دعم لمصر تبلغ 7.4 مليار يورو ضمن اتفاق الشراكة الاستراتيجية بين مصر والاتحاد الأوروبي، تشمل مليار يورو كقرض فوري لدعم الاقتصاد المتعثر، فضلا عن استثمارات بقيمة 1.8 مليار يورو سيوجه لقطاعات أهمها الطاقة، ومنح بقيمة 0.6 مليار يورو ثلثها للتعامل مع ملف اللاجئين السودانيين في البلاد، وتقوية حدود مصر مع ليبيا، بينما يرتبط 4 مليار يورو كقروض بتحقيق إصلاحات هيكلية وفق اتفاق مصر مع صندوق الدولي، وبالتالي يتطلب صرفها موافقة البرلمان الأوروبي. كما أعلن بنك التصدير والاستيراد الأفريقي شروعه في تقديم تسهيلات ائتمانية بقيمة 11 مليار دولار لعدد من الشركات المصرية.
- ستمثل تلك التمويلات جرعة إنقاذ، لكنها لن تقدم حلا مستداما؛ نظرا للأزمات الهيكلية التي يعاني منها الاقتصاد، وفي مقدمتها هيمنة الجيش على الاقتصاد مقابل إضعاف القطاع الخاص، والاعتماد المفرط على الاستدانة، وضخ الأموال في مشاريع عالية التكلفة وغير منتجة، وانتشار الفساد، حيث تراجع تصنيف مصر في مؤشر مدركات الفساد الصادر عن منظمة الشفافية الدولية إلى المركز 130 بدلا من المركز 117.
- بالإضافة لإدمان الاستدانة من الخارج، لجأت الحكومة إلى بيع الأصول للحصول على عملات أجنبية، وهو ما وضعها تحت ضغط من المشترين الأجانب لشراء أصول رابحة بأسعار أقل من القيمة الحقيقة. وأقبلت دولة الإمارات العربية المتحدة بصورة خاصة على شراء شركات أسمدة وأدوية وفنادق وإدارة موانئ بحرية. فعلى سبيل المثال استحوذت شركة “جلوبال للاستثمار المحدودة” الإماراتية على 30% من أسهم شركة الشرقية للدخان في صفقة بلغت قيمتها 625 مليون دولار. بينما تخطط السعودية بدورها لاقتناص حصة كبيرة من الأصول الحكومية، وحتى إقامة مشروع مناظر لرأس الحكمة علي البحر الأحمر.
- أما الاستثمار في السياحة، فسيظل محفوفًا بالمخاطر؛ نظرا للاضطرابات العالمية والإقليمية إلى جانب تصنيف مصر الائتماني المتراجع، الأمر الذي سيعقد قدرة القاهرة على تأمين التمويل الخاص اللازم لتنمية صناعة السياحة. أعلنت وزارة السياحة في يناير/ كانون الثاني 2023 عن خطط لمضاعفة عدد زوار البلاد إلى 30 مليونًا بحلول 2028، لكنّ قطاع السياحة في مصر أثبت أنه معرض للصدمات الخارجية، مثل تلك الناجمة عن جائحة كوفيد-19، والغزو الروسي لأوكرانيا، وأخيرا الحرب في غزة.
- بالإضافة للقروض وبيع الأصول، تخطط الحكومة لزيادة صادراتها من الغاز الطبيعي المسال بنسبة 40٪ إلى أوروبا في عام 2025، لتعزيز مصادر العملة الأجنبية. لكن نمو قطاع الطاقة يعتمد على شراء مصر واردات الغاز الطبيعي الأجنبية، وبالأخص الصفقة مع “إسرائيل”، لتصديرها بعد ذلك كغاز طبيعي مسال. كما تلجأ الحكومة المصرية لكبح الاستهلاك المحلي من الغاز بهدف زيادة التصدير، إذ نفذت وزارة الكهرباء خطة تخفيف الأحمال لمدة ساعتين يوميا بهدف تصدير الغاز لتوفير عملة صعبة بدلا من ضخه إلى محطات الكهرباء المحلية، وهو ما انعكس سلبا على معيشة المواطنين، كما امتدت تداعياته إلى قطاع الأسمدة الذي تراجعت صادراته بقيمة 820 مليون دولار أي بنسبة 32% خلال عام 2023 مقارنة بعام 2022 بسبب تخفيض كمية الغاز الموردة له بمقدار 20%.
- رغم الاتفاق مع صندوق النقد، والدعم الواسع من الاتحاد الأوروبي ودول خليجية، من المرجح أن يواصل الجيش أنشطته الاقتصادية. وقد يلجأ الجيش إلى التخلي عن بعض المشروعات أو أن يتراجع حضوره في قطاعات غير استراتيجية، لكنّ هذا لن يغير من موقعه المهيمن على النشاط الاقتصادي. فعلى سبيل المثال، استحوذ جهاز مشروعات الخدمة الوطنية التابع للقوات المسلحة على 24% من أسهم ثلاث شركات تابعة لمجموعة بشاي للصلب في صفقة بقيمة 10 مليار جنيه، وهو ما يأتي بعد شراء الجيش لشركتي السويس للصلب وحديد المصريين، ما جعله يستحوذ على 42% من سوق الحديد محليا.
- في ظل تلك الأجواء التي تفرض قيودا على القطاع الخاص، سواء أزمة الدولار أو هيمنة الجيش، أعلن رجل الأعمال ناصف ساويرس المصنف كأحد أغنى الأشخاص في مصر بثروة تبلغ 7.6 مليار دولار، نقل أعماله إلى أبوظبي، كما نقلت أسرة محمد فريد خميس صاحب شركة النساجون الشرقيون ملكية شركاتها إلى الخارج، للتمتع بامتيازات نقل الأرباح بالعملة الأجنبية خارج مصر، والتمتع بآلية تقاضي أمام المحاكم الدولية حال حدوث خلافات مع الحكومة المصرية، فضلا عن توفير حماية من النظام الحاكم الذي سبق أن سجن عددا من كبار رجال الأعمال مثل صفوان ثابت وصلاح دياب وحسن راتب.
رابعا: الحالة الأمنية
- عادت أجواء الاستقرار الأمني إلى سيناء وتسارعت مظاهر عودة سلطة الدولة، فقد أزيل 12 ارتكازا أمنيا من مدينة العريش، وأعيد العمل بنيابتي أول وثاني العريش الجزئيتين بمقر محكمة شمال سيناء الابتدائية بعد ثمانية سنوات من نقل عملها إلى الإسماعيلية، كما زار رئيس الوزراء مصطفى مدبولي شمال سيناء. وتزامن هذا مع انحسار هجمات تنظيم ولاية سيناء عقب حملة عسكرية مكثفة في رفح والشيخ زويد، وتقديم الجيش لمبادرة بالعفو عن العناصر المطلوبة حال استسلامها.
- لكن في العموم، ستظل سيناء عرضة لتكرار الهجمات من حين لآخر. ففي يوليو/تموز قُتل أربعة عناصر شرطة وأصيب 22 آخرين في اشتباك غامض داخل مقر الأمن الوطني بالعريش، من المحتمل أنه نتج عن استيلاء معتقلين على أسلحة من الحراس. كما قتل الجندي محمد صلاح ثلاثة جنود إسرائيليين في يونيو/ حزيران في المنطقة الحدودية شمالي سيناء، مما يثير مخاوف رسمية حول ظهور توجهات قومية ودينية داخل المؤسسة العسكرية والأمنية، خاصة في ظل تنامي العداء للاحتلال الإسرائيلي على خلفية حرب غزة، وهو الأمر الذي تردد صداه خارج سيناء، حيث قتل أمين شرطة ثلاثة سياح إسرائيليين ومرشد سياحي في مدينة الإسكندرية، في أكتوبر/ تشرين الأول، عقب مشادة بسبب إصرارهم على التقاط صور بعلم “إسرائيل” في مزار عامود السواري. وعقب الحادث، طلبت تل أبيب من رعاياها مغادرة مصر على وجه السرعة.
- من المرجح أن يحافظ النظام المصري على نهجه الأمني السياسي الراهن دون تغيرات جوهرية. إذ تواصل السلطات بصورة منتظمة التوسع في إدراج المعارضين على قوائم الإرهاب، بما في ذلك رئيس حزب الغد الليبرالي أيمن نور، فضلا عن إصدار الأحكام المشددة بما في ذلك أحكام الإعدام بحق قيادات جماعة الإخوان، ومواصلة حملات الاعتقال وفرض الإجراءات الاحترازية على المفرج عنهم، كما يعاد اعتقال بعضهم بصورة دورية. كل ذلك يشير إلى التمسك بالسياسات القمعية، وعدم وجود رغبة لدى النظام في المصالحة مع المعارضة أو التقدم خطوات نحو انفتاح سياسي، خاصة وأن الدعم الخارجي الغربي والإقليمي يحرر سياساته الداخلية من أي قيود معتبرة.
- في استمرار لنهج عسكرة الأنشطة المدنية، أصدر السيسي توجيها رئاسيا يلزم الراغبين في التعيين بالحكومة بالحصول على دورة تأهيلية بالكلية الحربية لمدة ستة أشهر كشرط أساسي للتعيين، وأصبح اجتياز هذه الدورة التأهيلية شرطا للترقي في المناصب الحكومية لاختيار الموظفين بدرجة مدير عام فضلا عن نواب ومعاوني الوزراء والمحافظين، كما فرضت وزارة التعليم على المرشحين لوظائف قيادية المرور بكشف هيئة يضم ضباط من الكلية الحربية وممثل عن وزير التعليم. وهو ما يشير إلى السعي لخلق ثقافة انضباطية عسكرية داخل الجهاز الإداري للدولة، تفترض السلطات أنها ضرورية لضمان ولاء الموظفين الحكوميين، دون الاكتفاء بالتحريات الأمنية المشددة التي تجريها وزارة الداخلية.
- يتناغم هذا مع واقع مشاركة القوات المسلحة في تأمين المنشآت المدنية والتي باتت دائمة وشاملة من الناحية القانونية، وانتفت عنها الحالة المؤقتة (الطارئة) التي ارتبطت بداية بانفلات الوضع الأمني خلال ثورة يناير 2011، ثم لاحقا بالاضطراب السياسي والأمني الناتج عن الانقلاب العسكري في يوليو 2023. إذ منحت تعديلات تشريعية عناصر الجيش “صلاحية الضبطية القضائية”، بهدف “تأمين وحماية المنشآت والمرافق العامة والحيوية في الدولة”، في الجرائم التي تضر باحتياجات المجتمع الأساسية من سلع ومنتجات تموينية. ولم يحدد القانون قطاعات بعينها، مثل أبراج الكهرباء وخطوط الغاز والسكك الحديدية كما في القوانين المؤقتة السابقة، وإنما اتخذ طابعا شاملا.
- تشير هذه التوجهات إلى استمرار ثقة الرئيس المصري في الجيش لتحقيق الأمن الداخلي، خاصة مع وجود احتمالات لتحركات شعبية غاضبة، مقارنة بشكوكه حول كفاءة الشرطة المدنية في مواجهة أي اضطرابات محتملة، ومدى انضباطها مقارنة بالانضباط العسكري. كما أجرى الرئيس المصري تعديلات على شروط قبول الطلاب للدراسة بكلية الشرطة كان من اللافت أنها تضمنت إلزام الخريجين في حال رغبتهم بترك العمل في الشرطة قبل مضي 10 سنوات على التخرج بدفع ثلاثة أضعاف المبلغ الذي أنفقته عليهم الدولة أثناء دراستهم بالكلية، وذلك لتقليل معدل استقالة ضباط الشرطة في ظل ضعف الرواتب، خاصة وأن القطاع الخاص الأمني يشهد حالة ازدهار.
- تسجل ظاهرة شركات الأمن الخاصة، التي تعمل كأداة غير رسمية للأجهزة الأمنية السيادية ظاهرة لافتة مؤخرا في مصر. وتوظف هذه الشركات مزيجا غامضا من رجال أمن وعسكريين سابقين، وعناصر مرتبطة بظاهرة البلطجة المنظمة التي طالما كان يجري التحكم فيها من خلال جهات رسمية، وقد أظهرت الانتخابات الرئاسية إدارة الأجهزة الأمنية لجيش فعّال من البلطجية المنظمين.
- وعلى سبيل المثال، تولى صبري نخنوخ، وهو أحد أبرز زعماء العصابات الإجرامية في مصر، إدارة شركة فالكون للأمن والحراسة، والتي يعمل بها 15 ألف موظف. وهو ما يعد تقنينا لأنشطة نخنوخ وبالأخص في مجال توفير بلطجية ومدنيين لمعاونة الحكومة في مواجهة أي احتجاجات شعبية مستقبلية، خاصة في ظل الموارد الواسعة التي تتمتع بها الشركة؛ إذ إنها الشركة الوحيدة التي لديها تصريح البندقية الخرطوش في الشرق الأوسط، ولها حق نشر قوات تدخل سريع كخدمة أمنية خاصة تحصلت عليها من قطاع الأمن العام بوزارة الداخلية، وتدار هذه القوات الخاصة بغرفة عمليات مركزية تتم بالتنسيق مع وزارة الداخلية وأجهزة تتبع ومراقبة.
- كما توسع نشاط رجل الأعمال السيناوي المثير للجدل، إبراهيم العرجاني، ودخل سوق شركات الأمن الخاصة عبر شركة “إيتوس للخدمات الأمنية”، بعد أن قاد وموّل مسلحي “اتحاد قبائل سيناء” لدعم عمليات الجيش ضد تنظيم “ولاية سيناء”. وتقدم “إيتوس” خدمات لتأمين أحداث رياضية وترفيهية ولديها تعاقدات مع مؤسسات مثل جامعة القاهرة والنادي الأهلي وإستاد القاهرة والأوبرا. وعلى غرار “نخنوخ”، فقد ارتبط “العرجاني” سابقا بأنشطة تهريب متنوعة عبر الحدود، كوّن منها ثروة كبيرة، وسبق اعتقاله من قبل السلطات المصرية عام 2008.
خامسا: الحالة الاجتماعية
- تشهد البلاد مؤخرًا تحركات شعبية محدودة، ولكن متكررة، بما في ذلك إضرابات عمالية من أجل رفع الأجور، أو احتجاجات عفوية، وأحيانا فردية، للتنديد بالأوضاع الاقتصادية أو رفضا لاستمرار الحرب في غزة، فضلا عن الاحتجاجات المناطقية التي تنتج عن خطط حكومية بإخلاء مناطق سكنية من أجل مشروعات استثمارية، أو لأسباب أمنية كما في شمال سيناء. وهي مظاهر من المرجح استمرارها؛ لأنها تشير إلى حالة القلق التي تكتنف الشارع المصري نتيجة هذه الأسباب السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتداخلة.
- هذا القلق الاجتماعي يضع الأجهزة الأمنية في حالة استنفار ويدفعها للتمسك بنهجها المتشدد حتى في حالات التعبير الفردي العفوي؛ إذ تخشى تلك الأجهزة من أن التسامح مع أي تحركات تضامنية أو احتجاجية قد يؤدي إلى توسع الظاهرة.
- إن استمرار تماسك الأجهزة الأمنية، وغياب قوى معارضة واسعة ومنظمة، ستجعل الانفجارات الاجتماعية الأوسع – إن حدثت – قابلة للسيطرة على الأرجح، سواء من خلال القمع أو الاحتواء. لكن ستظل دائما احتمالات الاضطراب الاجتماعي غير مستبعدة؛ نتيجة ما يلي:
- أولا: تفاقم الضغوط الاقتصادية والانفصام بين واقع معيشة غالبية المواطنين، وأولويات إنفاق الحكومة، مع استمرار انكماش القطاع الخاص اللازم لنمو حقيقي وتوليد فرص عمل، وتدهور الخدمات العامة، والفساد المتفشي.
- ثانيا: غياب قنوات الاتصال بين النظام السياسي والمجتمع، والتي طالما كانت توفر مساحة فعالة لاستيعاب المطالب الاجتماعية الأساسية خلال العقود الماضية، من خلال شبكات الحزب الوطني والمجالس المحلية، على سبيل المثال، بينما النظام السياسي حاليا بات يعتمد بصورة واسعة على عنف الأجهزة الأمنية وقدراتها القمعية.
- ثالثا: التوترات الإقليمية خاصة حرب غزة، والتي تولد غضبا شعبيا، وفي ظل الموقف المصري الملتزم بإرادة الاحتلال تجاه مسألة إدخال المساعدات لقطاع غزة، فضلا عن التنسيق الأمني مع “إسرائيل” قبل السماح للفلسطينيين بالمغادرة عبر معبر رفح وتورط أجهزة رسمية مصرية تدير المعبر في فضائح تلقي مبالغ كبيرة على سبيل الرشوة مقابل العبور من المعبر.