الحدث
● في 30 أغسطس/آب، أعلن ضباط كبار في الجيش ونخبة الحرس الجمهوري، عزل رئيس الغابون “علي بونغو أونديمبا”، ووضعه قيد الإقامة الجبرية، بعد إعلان فوزه في الانتخابات الرئاسية المتنازع عليها التي أجريت قبل أربعة أيام، كما أعلنوا حل الحكومة، ومجلس الشيوخ، والجمعية الوطنية، والمحكمة الدستورية، وهيئة الانتخابات. وبرر المجلس العسكري الملقب بـ”لجنة المرحلة الانتقالية واستعادة المؤسسات” تحركه بالقول إن الانتخابات لم تكن حرة ونزيهة، وأن “بونغو” احتفظ بالسلطة لفترة أطول مما ينبغي (يحكم منذ 2009، خلفا لوالده الذي حكم البلاد منذ 1967).
● وتشير التقارير الأولية إلى أن المجلس العسكري يضم ضباطاً كباراً من معظم الجيش، بينما أُعلن رسميا الجنرال “بريس كلوتير أوليغي نغيما”، قائد الحرس الجمهوري (يضم نحو 1800 جندي)، كرئيس للمجلس العسكري، ورئيس مؤقت للبلاد. وبينما خرجت في شوارع العاصمة ليبرفيل مظاهرات مؤيدة للانقلاب، ظهر “بونغو” في تسجيل مصور من مقر إقامته الجبرية، موجها رسالة إلى “كل العالم والأصدقاء للتحرك” ضد من قاموا باعتقاله. وقال إنه موجود في مقر إقامته ولا يدري ما يحدث، وأن ابنه محتجز في مكان ما، وزوجته “مفقودة”.
التحليل: الغابون حجر دومينو جديد في انقلابات أفريقيا رغم تباين الديناميات المحلية
- استقلت الغابون عن فرنسا عام 1960، وهي دولة صغيرة من حيث عدد السكان (2.4 مليون نسمة)، وتكتسب أهميتها من موارد الطاقة والمعادن؛ فهي عضو في منظمة أوبك، ورابع أكبر منتج للنفط في أفريقيا جنوب الصحراء، وتمتلك خامس أكبر احتياطي للمنجنيز في العالم، وكانت ثالث أكبر منتج له عالميا عام 2020. وبينما تسجل الغابون رابع أعلى ناتج محلي إجمالي للفرد في منطقة جنوب الصحراء، لكنّ ثلث سكانها فقراء. وتمثل الصين الشريك التجاري الأساسي للبلاد، حيث تستقبل 63٪ من صادرات الغابون وتوفر 17٪ من إجمالي وارداتها، فيما تستقبل الغابون 22٪ من وارداتها من فرنسا. جدير بالذكر أن “إسرائيل” أصبحت مشترٍ رئيسي للخام الغابوني هذا العام، حيث لجأت إلى الغابون لملء الفجوة بعد تعطل واردات “إسرائيل” من النفط بسبب مشكلات التصدير في كردستان العراق، وباتت الغابون ثاني أكبر مورد للنفط الخام بعد كازاخستان إلى “إسرائيل”، مما يعني أن الأخيرة ستكون من أكثر الدول تضررا إذا تعطلت صادرات النفط الغابونية.
- يمثل الانقلاب العسكري مفاجأة، في ظل أن القوات المسلحة الغابونية هي قوة منضبطة نسبيًا ومدربة تدريبًا جيدًا، ودعمت طويلا حكم أسرة “بونغو” على مدار 56 عاما. لذلك؛ من المرجح أن قيادات الجيش شعروا بخيبة أمل من الرئيس “بونغو” بعد أن قام بتعديل الدستور للترشح لولاية ثالثة، وسعى للتلاعب بالانتخابات لصالحه. ويتناغم هذا التحرك مع مشاعر السخط العام ضد حكم عائلة “بونغو”، واتهامات الناشطين والمعارضة، بأن الانتخابات شابها عمليات تزوير وجرى التلاعب بها، خاصة بعد منع المراقبين، وقطع خدمات الانترنت وحظر تغطية الانتخابات في وسائل الإعلام الدولية، بما فيها الفرنسية. كان هذا يمهد لموجة جديدة من الاضطراب، ربما ستكون أوسع من أحداث 2016، حين اندلعت احتجاجات عنيفة رفضا لفوز “بونغو” بولاية ثانية، وأضرم المتظاهرون النيران في مبنى البرلمان.
- لذلك؛ من المرجح أن تحرك المجلس العسكري يحظى بدعم شعبي كاف، وأنه في سبيله لتعزيز سلطته وإبعاد عائلة “بونغو” وشبكات النفوذ المرتبطة بها. ومن المحتمل أن تكون الضغوط الخارجية على المجلس العسكري محدودة إذا ظهر بوضوح أن تحرك الجيش يحظى بدعم بين السكان ضد الحكم الاستبدادي الذي استشرى فيه مظاهر الفساد، وكان آخرها اتهام السلطات الفرنسية العام الماضي خمسة من أشقاء الرئيس في قضية احتيال بقيمة 85 مليون دولار. وحتى نيجيريا التي تلوح بتدخل عسكري في النيجر، لا تبدو مهتمة بمقاومة الانقلاب في الغابون.
- ومع هذا؛ من المتوقع أن يواجه المجلس العسكري بعض الضغوط من جيرانه؛ فقد يدفع قلق زعماء وسط أفريقيا من التدخلات العسكرية، إلى فرض عقوبات اقتصادية على الغابون واتخاذ تدابير جماعية لثني جيوشهم عن السعي إلى السلطة، ومنع تفشي “عدوى الانقلابات” في وسط أفريقيا. حيث واجهت تشاد، العضو في الجماعة الاقتصادية لدول وسط أفريقيا (ECCAS)، انقلابا عام 2021، عندما قُتل رئيسها الذي حكم البلاد لفترة طويلة في المعركة. بينما تتمتع الكاميرون وغينيا الاستوائية وجمهورية الكونغو برؤساء من بين الأطول مدة حكم في العالم، في حين تتجه جمهورية الكونغو الديمقراطية نحو انتخابات متوترة نهاية 2023. وقد يفكر بعض زعماء هذه البلدان في التدخل العسكري لإحباط الانقلاب في الغابون، لكنّ هذه تبقى احتمالية ضعيفة؛ في ظل أن المؤسسة العسكرية في الغابون تعتبر قوة قتالية جدية لا يستهان بها استناداً إلى المقارنة الإقليمية.
- سيكون رد فعل فرنسا، الشريك الأمني الرئيسي للغابون، والداعم لحكم عائلة “بونغو”، مؤشرا مهما على اتجاه سير التدخل الخارجي. حيث تتمركز في الغابون كتيبة مشاة البحرية السادسة التابعة للجيش الفرنسي، لكن لا يزال نشر القوات الفرنسية في الجابون أمرا غير مرجح. وإذا أظهرت باريس نية للتدخل فمن المتوقع أن يثير المجلس العسكري المشاعر المعادية لفرنسا لحشد الدعم الشعبي على غرار الانقلابات في غرب إفريقيا منذ عام 2020، خاصة وقد سبق أن استهدفت اضطرابات الأصول التجارية الفرنسية في الغابون. وتنشط شركات فرنسية في قطاع النفط والغاز في الجابون، فضلا عن قطاعات التعدين والسياحة والزراعة، وأعلنت مجموعة التعدين الفرنسية إيراميت (Eramet)، وقفت أعمالها في البلاد مؤقتا لأسباب أمنية. وعقب إعلان الانقلاب، تراجعت أسهم 3 شركات فرنسية عاملة في الغابون في بورصة باريس بنسبة 15 إلى 20٪، هي: “بروم إند موريل” و”إيراميت” و”توتال إينيرجي”.
- من المحتمل أن يؤدي اعتماد الجابون على عائدات النفط إلى كبح التوجهات الصدامية المحتملة لبعض قادة الانقلاب؛ حيث يمثل قطاع النفط، بحسب إحصاءات 2020، أكثر من ثلث عائدات الحكومة وأكثر من ثلثي صادراتها. ولذلك؛ قد لا يعطل المجلس العسكري علاقاته مع شركات النفط الدولية، وربما يسعى إلى ترتيب سياسي يكون مقبولاً لشركائه الخارجيين، ما قد يحد بشكل أكبر من شدة الاستجابة الدولية ضد الانقلاب.
- بات واضحا أننا إزاء ظاهرة أوسع، قد تمتد لتشمل انقلابات في عدة دول أخرى بمنطقتي وسط وغرب أفريقيا. وهي ظاهرة لا تدع مجالا للشك حول التدهور المتسارع للنفوذ الفرنسي في القارة. فمنذ عام 1990، وقع 24 انقلابًا ناجحًا في أفريقيا في البلدان الناطقة بالفرنسية، أي ثلثي الانقلابات في القارة، بينهم 16 انقلابا ناجحا منذ عام 2020. وانقلاب الغابون هو الانقلاب الثامن في المستعمرات الفرنسية السابقة في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى خلال السنوات الثلاث الماضية فقط.
- يشير ذلك إلى أن سياسة باريس القائمة على الهيمنة والتحكم في مستعمراتها السابقة، أتت بنتيجة عكسية تماما؛ حيث عززت من قناعة شعوب تلك الدول بأن فرنسا تدعم حكم قادة مستبدين أو فاسدين أو عاجزين عن تحسين أحوال شعوبهم، طالما أن هؤلاء القادة يدينون بالولاء لنمط تبعية استخراجي لمصلحة باريس، جوهره استنزاف موارد تلك الدول الطبيعية دون عوائد اقتصادية كافية لتحقيق رفاه شعوب دول القارة.
- هذه المشاعر تستغلها روسيا على نطاق واسع، وتعمل على تغذيتها، حيث تقدم مساندة ميدانية طامحة، لكنّها انتهازية في الغالب. أي أن موسكو رغم كونها ليست المحرك الرئيسي لصناعة كل هذه السلسلة من الانقلابات العسكرية، فإنّ روسيا أثبتت أنها أحد أكثر الأطراف استفادة منها واستثمارا في تداعياتها، خاصة وأن التحرك عبر نشر مجموعة فاغنر يمنح التحرك الروسي مرونة وخفة مقارنة بمسألة تدخل دولة عسكريا بصورة رسمية. وفي ظل التنافس الدولي المتصاعد؛ فإن قادة أفريقيا العسكريين يبدون أكثر جرأة في تحدي النفوذ الغربي في ظل توفر بدائل أمنية واقتصادية تتمثل في روسيا والصين. لذلك؛ فإن دول الغرب، ربما باستثناء فرنسا الغاضبة، قد يميلون لمقاربة أكثر براغماتية بهدف تجنب دفع دول القارة بعيدا باتجاه موسكو وبكين.
إقرأ أيضاً:
سيناريوهات انقلاب النيجر وتداعياته
كيف تخوض روسيا حرباً سرية في إفريقيا عبر فاغنر؟
انقلاب النيجر يفاقم أزمات غرب أفريقيا ويهدد مصالح القوى الدولية