أدى الدعم العسكري المقدم لأوكرانيا إلى تراجع كبير في الجاهزية القتالية للقوات المسلحة الأوروبية، إذ انخفض المخزون العسكري، ولا يجري إنتاج الأسلحة والذخائر الجديدة بالسرعة الكافية، الكثير من دول أوروبا ليست مستعدةً لخوض صراع مسلح مُطوَّل وعالي الحدة، إذ أدى العيش تحت مظلة الأمن الأمريكية إلى تخدير أوروبا، لكن اتجاه واشنطن الآن نحو تبني موقفٍ أكثر انعزالية دقّ أجراس الإنذار في بروكسل.
لكن إذا انتصرت روسيا في أوكرانيا بنهاية المطاف؛ فستعيد موسكو تسليح نفسها في غضون 3 إلى 4 سنوات، ثم ستشعل على الأرجح صراعاً جديداً في مكانٍ آخر. والفرضية واضحة هنا، فإما أن ينهض الأوروبيون خلال السنوات المقبلة بالمجمع الصناعي العسكري، أو يبدأوا في تعلُّم الروسية.
منصة أسباب وبالشراكة مع Caspian Report، تشرح لكم في هذا الفيديو كيف تبني أوروبا مجمعها الصناعي العسكري الخاص
“النموذج الأمريكي”
مع استمرار تدهور الوضع في أوكرانيا واقتراب الانتخابات الأمريكية يتطلع المسؤولون الأوروبيون الآن إلى إدخال صناعاتهم الدفاعية في أجواء استعدادات الحرب.
- صاغت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين أول خارطة طريق لتطوير مجمع صناعي عسكري في الاتحاد الأوروبي
- سيعمل التشريع على إعادة تعبئة المخازن وتسليح الدول الأعضاء
- زيادة الناتج الصناعي الدفاعي الأوروبي على المدى الطويل
وبعض أجزاء السياسة المقترحة مقتبسة من النموذج الأمريكي مباشرةً، إذ يدمج ذلك النموذج المصالح العسكرية والسياسية والتجارية معاً، ففي أمريكا، تمنح الهيئات الحكومية الأمريكية عقوداً لشركات الدفاع الخاصة من أجل إنتاج المعدات العسكرية، وللخروج بأفضل صفقات ممكنة، تضغط تلك الشركات على المسؤولين السياسيين للتأثير في:
- الإنفاق الدفاعي
- سياسة الأمن
ويفعلون ذلك عن طريق توزيع عمليات التصنيع على أكبر عددٍ ممكن من الولايات، ما يخلق فرص العمل والنمو الاقتصادي، ويؤدي هذا لزيادة عدد المشرعين المستعدين لدعم مشروعات الدفاع، لأن كل عضو في الكونغرس يساعد الشركات التي توفر الوظائف في ولايته، أي إن هذا الترتيب مربحٌ لجميع أطراف المعادلة.
لكن الصناعة الدفاعية فريدةٌ من نوعها، فهي الصناعة الوحيدة التي تُنتج منتجات مصممة للتدمير، ولا عجب في أن يؤثر هذا على السياسة الوطنية، لذلك تميل السلطة التنفيذية الأمريكية لإنفاق مئات المليارات على جيشها، بمعدلٍ أكبر من أي دولةٍ أخرى، بينما لا يمتلك الاتحاد الأوروبي منظومةً كتلك، لكنه يتطلع إلى تأسيس واحدة.
وتُنتِج شركات الدفاع الأوروبية مجموعةً من أجود الأسلحة التي يمكن شراؤها، إذ تُعَدُّ الأسلحة البريطانية والإيطالية والفرنسية والألمانية والإسبانية والسويدية من بين الأفضل في مجالات تخصصها.
لكن الأسلحة ليس تنافسيةً من الناحية الاقتصادية، وهناك فجوات في القدرة الإجمالية على إنتاج الأشياء في الوقت المناسب وبالكميات اللازمة، وهذه نقطة ضعف جوهرية، إذ يعتمد الصراع المسلح على اللوجستيات وسلاسل التوريد – خاصةً حين يكون مُطوّلاً، ومن المرجح أن ينتصر في الحرب الطرف الذي يستطيع إنتاج أسلحة وذخائر أكثر من الآخر.
“صُنِعَ في أوروبا”
وصل حجم الإنفاق الدفاعي بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي إلى 295 مليار دولار عام 2023، كما أن القدرة الاقتصادية والصناعية المشتركة للاتحاد تفوق قدرة روسيا، لكن أوروبا ما تزال تفتقر إلى الكثير على صعيد:
- إمدادات الذخيرة
- قدرات الاستخبارات
- المراقبة والاستطلاع
وتكمن المشكلة في أن الاتحاد الأوروبي هو مجموعة من الدول ذات السيادة التي تضع سياساتها المنفردة، لذا عطّلت المصالح الوطنية والسياسة الحمائية والبيروقراطية تحقيق التعاون الفعال داخل أوروبا، وكان من المرجح أن تستمر سياسة التركيز على المصالح الذاتية لولا كوفيد-19.
إذ غيّرت الجائحة الأوضاع السياسية بطرقٍ كانت غير ممكنةٍ من قبل، حيث جرى اتخاذ تدابير وقائية صارمة لمكافحة انتشار كوفيد، مع تطبيقها في جميع الدول الـ27 الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، وبهذا مارست المفوضية الأوروبية سلطةً غير مسبوقة وتحوّلت تدريجياً إلى هيئة تشريعية نافذة في كل أراضيها، ولم يسبق أن كانت المفوضية الأوروبية قويةً بالدرجة التي بلغتها اليوم.
أكبر عملية إصلاحٍ عسكري أوروبي
وقد غيّر هذا الواقع طريقة عمل الآلة الأوروبية تماماً، إذ تريد المفوضية الأوروبية الآن تعديل طريقة تمويل وبيع الاتحاد للأسلحة عن طريق تقديم آليات جديدة لتحديث السياسة الدفاعية، ونتحدث هنا عن المجمع الصناعي العسكري، ويُمكن وصف الخطة الجارية بأنها أكبر عملية إصلاحٍ عسكري أوروبي منذ نهاية الحرب الباردة، ففي الخامس من مارس/آذار، كشفت المفوضية الأوروبية عن برنامجين جديدين:
- استراتيجية صناعة الدفاع الأوروبية
- برنامج الاستثمار الدفاعي الأوروبي
ويهدفان معاً إلى تحفيز التعاون العابر للحدود في إنتاج الأسلحة، مع تقوية قاعدة الدفاع الصناعية والتقنية في الاتحاد، أي إن كلا البرنامجين مصمم لإنشاء سوق دفاعي للاتحاد الأوروبي، وضمان شراء الدول الأعضاء للمزيد من الأسلحة المحلية، وستحصل الحكومات المشاركة في البرنامجين على حوافزٍ في صورة إعفاءات ضريبية ومنح من الاتحاد الأوروبي، وهذا يعني وجود الكثير من الخصومات للجميع.
- تضع استراتيجية صناعة الدفاع الأوروبية مخطط تحسين الجاهزية القتالية
- زيادة التنافسية الصناعية العسكرية
- تقدم خطةً لتشجيع الأعضاء على المساهمة في دفاعهم المشترك ما قد يؤدي إلى توحيد معايير أسلحةٍ جديدة لتسريع التصنيع.
فيما يسعى برنامج الاستثمار الدفاعي الأوروبي إلى تبسيط الجوانب القانونية والمالية، حتى يتمكن البرنامج الأول من تأدية مهمته المرغوبة، وتذهب نسبة 78% من الإنفاق الدفاعي الأوروبي إلى شركات خارج الاتحاد حالياً.
وتستحوذ الولايات المتحدة على 63% من إجمالي الإنفاق، لكن المشتريات من خارج الاتحاد الأوروبي لا تحتوي على أي تقنيات أو حقوق ملكية فكرية أوروبية تقريباً، وقد يبدو الأمر تافهاً، لكنه يُقوِّض الميزة التنافسية للاتحاد الأوروبي في
- التقنية
- الطاقة
- أسواق المال
- الجامعات
ولهذا أصبح التحالف العابر للأطلسي بين أمريكا وأوروبا غير متوازن بصورةٍ متزايدة، تريد المفوضية الأوروبية استغلال البرنامجين لتوجيه 50% على الأقل من مشتريات الأسلحة الأوروبية إلى الموردين المحليين بنهاية العقد الجاري.
اختلاف الدول الأوروبية على السياسة الدفاعية
يجب أن يوافق البرلمان الأوروبي على السياسة الدفاعية التي صاغتها المفوضية الأوروبية قبل أن تدخل حيز التنفيذ، لكن الدول الأعضاء مختلفة بشأن التمويل ودور المفوضية أو غيرها من كيانات الاتحاد الأوروبي في تنسيق جوانب المجمع الصناعي العسكري.
وتتطلع الدول الكبرى في الاتحاد إلى توفير عقود لصناعاتها المحلية، ولا يمكن أن نتوقع من فرنسا مثلاً التصويت لصالح شراء الأسلحة الإيطالية، مع تنحية صناعاتها الخاصة جانباً.
- اعترضت فرنسا وإيطاليا على بعض جوانب المجمع الصناعي العسكري الأوروبي المنتظر.
- ينطبق المبدأ نفسه على دول البلطيق التي ترى روسيا كتهديد وشيك، وتبحث عن أسلحة متوفرة بسهولة بغض النظر عن المنشأ، وذلك بدلاً من الاعتماد على أسلحة مدعومة تجارياً، لكن تسليمها قد يستغرق وقتاً أطول.
- سياسة الاتحاد الأوروبي ينقصها جانب التوزيع، أو توزيع العمليات الصناعية على أكبر عدد ممكن من الدول تحديداً
ينبغي على الاتحاد الأوروبي العثور على طريقة لإقناع الفرنسيين بشراء الأسلحة الإيطالية، وإقناع الألمان بشراء الأسلحة الإسبانية، وهلم جرا.
المعايير الموحدة الجديدة للأسلحة
انتقادات لمسألة المعايير الموحدة الجديدة للأسلحة، حيث تعتمد غالبية الجيوش الأوروبية على معايير ومعدات الناتو بدرجةٍ كبيرة، ويأتي جزء كبير من تلك الأنظمة والأسلحة من الولايات المتحدة، وليست كل المعدات الأوروبية قابلةً للتشغيل مع الأنظمة الأمريكية.
وقد قدمت بولندا وبعض الدول الاسكندنافية طلبيات كبيرة لشراء أسلحةٍ أمريكية، ومن المؤكد أن تلك الدول لا تريد الآن تعطيل قابلية التشغيل البيني في سبيل تطوير معايير أوروبية جديدة لدعم المجمع الصناعي العسكري.
فضلاً عن أن العديد من الحكومات الأوروبية لا تشتري الأسلحة من الولايات المتحدة لمجرد أن الأمر أسرع وأسهل، بل لأنها بذلك تشتري الحلفاء السياسيين في البنتاغون، إذ تعتني الولايات المتحدة بأصدقائها، أو عملائها المخلصين في هذه الحالة، أي إن صفقات الأسلحة لا تهدف لشراء الأسلحة فقط، بل النفوذ أيضاً.
ميزانية برنامج الاستثمار الدفاعي الأوروبي وبرنامج المجمع الصناعي العسكري
لن تنجح خطة المفوضية الأوروبية إلّا إذا حصلت على تمويل جيد وهنا تسوء الأوضاع بشدة، فهناك خلاف حول هوية من سيتحمل الفاتورة، وقد حصل برنامج الاستثمار الدفاعي الأوروبي حتى الآن على ميزانية تبلغ 1.5 مليار يورو حتى عام 2027، لكنه مبلغ ضئيل للغاية مقارنةً بما يحتاجه البرنامج فعلياً.
وإذا أرادت أوروبا التعامل مع مسألة الدفاع بجدية وتأسيس القاعدة الصناعية العسكرية اللازمة؛ فيجب تخصيص 100 مليار يورو للبرنامج، وهنا تكمن المشكلة، لا تستطيع دولة واحدة تغطية مبلغ الـ100 مليار يورو بمفردها بل يتطلب الأمر اقتراضاً مشتركاً من كل الدول الأوروبية، كما حدث مع صندوق التعافي من فيروس كورونا الذي جمع 750 مليار يورو.
وتستطيع المفوضية الأوروبية اعتماد نهجٍ مماثل لجمع قروض جديدة بـ100 مليار يورو من أجل تمويل سياسة الدفاع، لكن خطوة كهذه ستثير الجدل بشدة بالنسبة للدول الحريصة مالياً مثل ألمانيا وهولندا وبعض الدول الأخرى.
وتواجه العديد من حكومات الاتحاد الأوروبي قيوداً على الميزانية وسط تباطؤ النمو الاقتصادي وشيخوخة السكان، ولدى كل دولة أولوياتها الاستراتيجية ومصالحها المحدودة، لهذا سيكون من الصعب مثلاً إقناع الدول الأعضاء التي تواجه احتجاجات الفلاحين بأن تخفض إنفاق الاتحاد الأوروبي على الزراعة لصالح الدفاع.
كما سيكون من الصعب إقناع الدول التي لا تمتلك شركات دفاعية كبيرة بأنها ستستفيد من الاقتراض الجماعي، الحقيقة هي أن المال له الكلمة العليا، بينما يتحدث الأوروبيون بلغات مختلفة، وبميزانيات مختلفة أيضاً، وحتى لو مرّر البرلمان الأوروبي الفكرة، سيظل بإمكان الدول الأعضاء نسف فكرة المجمع الصناعي العسكري خلف الأبواب المغلقة.
وسيأتي هذا عبر الاعتراض على
- نفقاته
- مسؤولياته
- تعقيدات التشغيل البيني
وتزيد فرص حدوث ذلك نظراً لحقيقة أن السياسة الدفاعية ليست مُلزِمة وإجمالاً، ولهذا تتهم بعض الدول الأعضاء المفوضية الأوروبية باستغلال حرب أوكرانيا كذريعة للاستيلاء على السلطة، وبغض النظر عن صحة ذلك من عدمه، سيعتمد نجاح المجمع الصناعي العسكري الأوروبي على اجتياز العقبات القديمة، مثل:
- السيادة الوطنية
- التمويل
- موازنة الأولويات الاستراتيجية
وهناك الكثير من المصاعب على الطريق، لكن أوروبا تتمتع للمرة الأولى منذ عقود بالمساحة السياسية اللازمة لتطبيق خطة إصلاح صناعي دفاعي طموحة، ولن يكون بناء الإجماع الضروري سهلاً.