الحدث
شهد المؤتمر الوطني العشرون للحزب الشيوعي الصيني والذي عقد في الفترة من 16 إلى 22 أكتوبر/تشرين الأول 2022، تمديد ولاية الرئيس الصيني “شي جين بينغ” لولاية ثالثة غير مسبوقة أمينا عاما للحزب الشيوعي الصيني، كما شهد المؤتمر اعتماد مشروع تعديل دستور الحزب، والإعلان عن “تقرير العمل“، وهو خطاب يلقيه زعيم الحزب الشيوعي الصيني في كل مؤتمر يحدد من خلاله السياسات الرئيسية التي ستُعتمد خلال السنوات الخمس المقبلة.
التحليل
من خلال مطالعة “تقرير العمل” وإجراءات المؤتمر الوطني، يظهر أن “شي” سيواصل سياسة داخلية تعتمد على تدخل أكبر للدولة في الاقتصاد والمجتمع، فضلا عن تعزيز سلطته الشخصية على الحزب الشيوعي والنظام السياسي بصورة عامة، ويظهر التقرير أن بكين ستنتهج سياسة خارجية ترتكز على فرض حضور الصين كمنافس جيوسياسي دولي في مواجهة الجهود الأمريكية الدولية التي تستهدف كبح صعود الصين.
أولا: السياسات المحلية
1.دور أكبر للدولة في الاقتصاد:
- تبنى “شي” بعض السياسات الانفتاحية خلال العشر سنوات الماضية، مثل فتح الأسواق الصينية أمام الشركات الأجنبية، لكنّه تمسك بسياسات أخرى داعمة لدور أكبر للدولة في الأسواق، وهو ما تسبب في تقليل جاذبية الصـين للاستثمارات الأجنبية، فعلى سبيل المثال، أدت السياسة المتشددة تجاه عمالقة التكنولوجيا الآخذين في التوسع بسرعة مثل “علي بابا” (Alibaba) و”تينسنت” (Tencent)، من خلال فرض غرامات بمليارات الدولارات، إلى كبح جماح المستثمرين الأجانب من التعرض بشكل أكبر للسوق الصينية.
- نلاحظ في “تقرير العمل” الجديد أن “شي” سيواصل جهوده لإخضاع الاقتصاد الصيني إلى سيطرة الدولة؛ إذ يشير التقرير إلى أن بكين ستنظر إلى الاقتصاد من منظور الأمن القومي وستقوم بدور أكبر في توجيه الأسواق، لاسيما في ظل توقعات باستمرار الاضطرابات التجارية العالمية التي أثرت على الأسواق الصينية خلال السنوات القليلة الماضية، ويؤكد التقرير أن الحكومة ستكون هي المحرك الرئيسي في توجيه الاستثمار في قطاعات معينة، مثل الاستثمار التكنولوجي بهدف تحقيق الاكتفاء الذاتي في العلوم والتكنولوجيا، وكذلك دور أكبر للدولة في تحقيق المرونة لسلاسل التوريد، خاصة في مجالات الطاقة والغذاء والموارد الحيوية الأخرى.
- بالإضافة إلي ذلك، سيواصل “شي” سياساته الاقتصادية المفضلة، بما في ذلك النهج الصارم لتقليص حجم الديون، خاصة في قطاع العقارات -المحرك الرئيسي للنمو الاقتصادي- الذي يشهد أزمة بسبب الانهيار المالي لمستثمري العقارات الرئيسيين في الصـين خلال العام الماضي، بالإضافة إلى استمرار سياسة “شي” في محاربة عدم المساواة في توزيع الثروة من خلال إيجاد طرق لتنظيم آليات تراكم الثروة، وكذلك الضبط المتدرج لتوزيع الدخل وحظر الدخل غير المشروع.
2.تركيز السلطة في يد “شي”
- ساهمت الحملة الضخمة لمكافحة الفساد التي أسسها “شي” في بداية حكمه في الحد من إساءة استخدام السلطة العامة داخل الحزب الشيوعي الصيني، حيث بلغ عدد أعضاء الحزب الذين تم التحقيق معهم خلال عقد من حكم “شي” ما يقرب من 5 ملايين عضو، بالإضافة إلى محاكمة أعضاء من المكتب السياسي وطرد 63 قائدًا عسكريًا، ولا تزال الحملة مستمرة بشكل نشط حيث جرى معاقبة 627 ألف من كوادر الحزب في عام 2021 وحده.
- ولكن في الوقت نفسه؛ منحت حملة مكافحة الفساد “شي” أداة قمع للتخلص من خصومه ومنافسيه السياسيين داخل الحزب، كما أنها دفعت غالبية كوادر الحزب لتتوافق ضمنيًا مع سياسات وأيديولوجية “شي” خوفاً من أن يقعوا في دائرة تحقيقات الكسب غير المشروع بسبب آرائهم المخالفة، ويشير إدراج حملة مكافحة الفساد في مشروع تعديل دستور الحزب إلى إمكانية مواصلة “شي” استخدام الحملة على نطاق واسع لتعزيز سلطته داخل الحزب وإحكام قبضته على الوزارات والمحليات الصـينية.
- على الجانب الآخر؛ شهد تشكيل المكتب السياسي الجديد للحزب الصـيني تغييرات تساهم في مزيد من سيطرة “شي” على الحزب؛ حيث يتشكل المكتب السياسي من لجنة دائمة تمثل أعلى هيئة سياسية في الصين، تضم 7 أعضاء من ضمنهم “شي”، بالإضافة إلى باقي أعضاء المكتب البالغ عددهم 17 عضوا، وفي التشكيل الجديد جرى تعيين عدد كبير من أعضاء الحزب في المكتب السياسي لديهم علاقات وثيقة مع “شي” أو تتوافق توجهاتهم مع أجندته السياسية، واستبعاد العديد من مسؤولي الحزب بسبب توجهاتهم المؤيدة للسوق الحرة أو بسبب اختلافهم مع “شي” في بعض المواقف، وتمهد التعديلات الواسعة التي شهدها المكتب السياسي الطريق أمام “شي” لتمديد ولايته إلى فترة رابعة بحلول عام 2027، في ظل عدم وجود احتمالات واضحة لخلافته داخل اللجنة الدائمة للمكتب السياسي.
3.السيطرة على المجتمع
- يشير تقرير العمل إلى مواصلة “شي” جهوده الساعية لفرض سيطرة أكبر على المجتمع الصيني، وذلك من خلال غرس الأعراف الثقافية المحافظة، والتركيز على تعزيز الأيديولوجية الماركسية والقيم الاشتراكية والقومية في جميع جوانب المجتمع، بما في ذلك الفنون والتعليم وشؤون الأسرة والأنشطة الاجتماعية والترفيه والفضاء الإلكتروني والأوساط الأكاديمية والعسكرية.
- في الوقت عينه؛ وبجانب إعادة تشكيل القيم والثقافة الصينية بما يتماشى مع المعايير الخاصة بالحزب الشيوعي الصيني، سيستمر “شي” في سياساته الصارمة لتضييق مساحة الحريات الشخصية، ووضع المجتمع الصيني تحت الرقابة، الأمر الذي يبدو بوضوح من خلال إصراره على الاستمرار في استراتيجية “صفر كوفيد” (zero-COVID) المتمثلة في عمليات الإغلاق المشددة والقيود المفروضة على السفر، وكذلك في التعامل مع المعارضة السياسية في “هونج كونج”.
ثانيا: السياسة الخارجية
- اعتادت التقارير السابقة لمؤتمرات الحزب الصيني على استخدام مصطلح “السلام والتنمية” باعتباره الموجه الرئيسي للسياسة الصينية الخارجية، ومع ذلك لم يتضمن تقرير 2022 أي إشارة لهذا المصطلح، فعلى العكس من ذلك؛ أشار التقرير إلى الأوضاع الدولية المعقدة التي يجب أن تستعد الصين لتداعياتها مستخدما مصطلح “العاصفة الخطرة”، وكذلك تكرار الإشارة إلى مصطلح “الأمن القومي”.
- وتشير تلك التغيرات إلى هيمنة منظور الأمن القومي على أولويات “شي”، والتي تشمل تحقيق الأمن الأيديولوجي والسياسي والاقتصادي والاستراتيجي، وتؤكد أيضاً على نية “شي” مواصلة سياسته الخارجية الأكثر جرأة واستعدادا للمواجهة، الأمر الذي نرجح معه المزيد من تصعيد التنافس والتوتر الجيوسياسي مع الولايات المتحدة والغرب في السنوات المقبلة.
- يؤكد تقرير العمل على مواصلة الحزب الشيوعي الصيني كفاحه ضد الهيمنة الغربية الساعية إلى منع صعود الصين، ويحث التقرير كلا من مسؤولي الحزب والمواطنين الصينيين على الاستعداد لـ “أسوأ السيناريوهات المتعلقة بالعقوبات الاقتصادية”، مثل سن مزيد من القيود الأمريكية على تجارة التكنولوجيا المتطورة، لذلك؛ من المرجح أن “شي” سيعمل على تعبئة الموارد المحلية لدعم خطط تحقيق الصين الاكتفاء الذاتي في التقنيات الرئيسية، من خلال الاستثمار على نطاق واسع في البحث والتطوير الصناعي والتكنولوجي.
- لم يلتزم الحزب الشيوعي سابقاً بتحديد موعد نهائي لاستعادة تايوان، بينما أشار “شي”، للمرة الأولى، إلى الأهمية البالغة لاستعادة تايوان بالنسبة إلى خطة “التجديد الوطني” للصين وإلى عزمه استكمال هذه الخطة بحلول عام 2049، كما لم يكشف تقرير العمل عن أي تغييرات رئيسية في سياسة بكين نحو تايوان والمتمثلة في اعتبار أن مجموعة صغيرة من “الانفصاليين التايوانيين” والقوى الأجنبية تحاول التدخل في الشؤون السيادية للصين، وأن بكين ستحاول حل المشكلة سلمياً، في حين سيظل استخدام القوة العسكرية خيارًا متاحاً.
- من ناحية تطوير القدرات العسكرية الصينية، لم يكتفِ “شي” بالدعوة إلى مزيد من التحديث العسكري والتدريب القتالي الفعلي، ولكن الأهم من ذلك؛ أنه أكد على أهمية تركيز انتباه الجيش بأكمله على الاستعداد للحرب، الأمر الذي يشير إلى مواصلة بكين تدريباتها العسكرية بشكل متزايد حول تايوان وينذر بمشاركة عسكرية صينية أكبر في الخارج.
الخلاصة
- بينما تسعى الولايات المتحدة في السنوات القادمة لتعزيز ما تعتبره عوامل قوتها الذاتية، متمثلة في المبادرة الفردية والابتكار وإتاحة الفرص للأفراد والقطاع الخاص، تتجه سياسة “شي” المحلية في المقابل نحو مزيد من مركزية الدولة والرهان على دورها في قيادة الابتكار وتعبئة الطاقات المحلية وتنظيمها، يعكس هذه حقيقة جيوسياسية ثابتة، وهي أن الصراع الدولي المتنامي يستبطن تنافسا بين نماذج حضارية تسعى لإثبات جدارتها وترفض جهود تعميم المعايير وفرضها.
- تكمن أهمية التوجهات الخارجية التي عبر عنها “شي” في كونها تأتي في سياق دولي سرّعت حرب أوكرانيا من وتيرة تنافسه، وبينما أقر الناتو وإدارة “بايدن” بأن الصين هي المنافس الرئيسي المحتمل الذي بإمكانه تقويض الهيمنة الغربية، فإن “تقرير العمل” الصـيني يرسل رسالة واضحة بأن الصـين ستواصل حشد مواردها من أجل المضي قدما في مسعى الوصول إلى نظام دولي ثنائي القطبية، إن لم يكن أكثر تعددية.