الملخص
لم يكن انهيار عملية الانتقال الهشة في البلاد مفاجئًا بعد شهور من التوترات المتصاعدة بين المكونين المدني والعسكري في مجلس السيادة. وفي دلالة حاسمة على أن الحكومة لم تعد تحظى بإجماع قوى الثورة، لم يقتصر منتقدوها على قادة الجيش وحزب “المؤتمر الوطني” (الحاكم سابقا)، بل انضم لمعارضيها قادة مدنيون وكيانات من بين مكونات “قوى الحرية والتغيير”. ومع تفاقم الأعباء الاقتصادية، وتعهد الحكومة إجراءات انتقامية واسعة، باتت الظروف مهيأة لقيادة الجيش للتحرك ضد الحكومة.
وبالإضافة إلى أن قوى الحرية والتغيير لم تكن تيارا موحدا، فإن قبول “حمدوك” بالعودة لرئاسة الحكومة سيضعه في مرمى غضب المجموعات السياسية التي كانت ممثلة في الحكومة السابقة. ولا شك أن هذا الانقسام المدني يزيد من سيطرة الجيش ويقلل من الضغوط السياسية على قيادته.
في المقابل، فإن المصالح المتنافسة للدول الأجنبية في السودان تلعب بصورة أكبر لمصلحة الجيش. ولن تكون الضغوط الاقتصادية والإدانات الخطابية الغربية كافية لقلب موازين القوى مجددا. ومن المرجح أن مصر ودول الخليج، وحتى تركيا، ستحافظ على علاقات وثيقة مع الجيش السوداني باعتباره الطرف الأكثر نفوذا وهيمنة على السلطة في البلاد خلال المستقبل القريب.
وهذا يعني على الأرجح عدم إمكانية استعادة الوضع السابق على قرارات “البرهان”. ومن الواضح تماما أن تحرك العسكريين يوم الاثنين، 25 أكتوبر/تشرين الأول، صنع توازن قوى جديدًا في العلاقة بين العسكريين والمدنيين، يعطي أفضلية حاسمة للجيش خاصة مع وجود قاعدة مدنية موالية له.
تمهيد
- في 25 أكتوبر / تشرين الأول، أعلن رئيس المجلس السيادي الانتقالي في السودان، قائد الجيش، الفريق أول “عبد الفتاح البرهان” إجراءات وُصِفت خارجيا على نطاق واسع باعتبارها “انقلابًا عسكريًا”، تضمنت عزل حكومة رئيس الوزراء “عبد الله حمدوك”، حل مجلس السيادة العسكري – المدني وإعلان حالة الطوارئ، وتجميد عمل “لجنة إزالة التمكين”. بالإضافة إلى ذلك، قامت السلطات باعتقال/أو تحديد إقامة “حمدوك” وعدد من وزرائه، وسط تنديد أمريكي-أوروبي. احتج عشرات الآلاف من الأشخاص طوال الأسابيع التالية ضد ما اعتبروه استيلاء الجيش على السلطة، مما أسفر عن مقتل نحو 50 شخصًا وإصابة المئات خلال اشتباكات مع قوات الأمن.
- وفي يوم الأحد 21 نوفمبر/تشرين الثاني، أُعلن رفع القيود عن تحركات “حمدوك” عقب اتفاق بينه بين قادة الجيش على عودته لتشكيل حكومة تكنوقراط مدنية، وقال أحد الوسطاء إن رئيس الوزراء المعزول وافق على الصفقة “حقنا للدماء”، خلال أول لقاء يجمعه بقائد الجيش “البرهان” منذ إجراءات 25 أكتوبر/تشرين أول، مشترطا إطلاق سراح كافة السجناء السياسيين.
تلاعب الجيش بالقوى الأيديولوجية المتنافسة
- لم يكن انهيار عملية الانتقال الهشة في البلاد مفاجئًا بعد شهور من التوترات المتصاعدة بين المكونين المدني والعسكري في مجلس السيادة. في 21 سبتمبر/أيلول، أعلن الجيش أنه أحبط محاولة انقلابية قامت بها مجموعة من الضباط. وعلى الرغم من الأخبار التي تشير إلى ارتباط هؤلاء الضباط “بالحركة الإسلامية”، ألقى “البرهان” باللوم على أعضاء المجلس المدنيين الذين اتهمهم بجعل البلاد عرضة للخطر من خلال إهمال الصالح العام. أشارت الاتهامات في ذلك الوقت إلى أن الانقسام بين الفصيلين اللذين قادا البلاد منذ الإطاحة بالرئيس السابق “عمر البشير” في أبريل/نيسان 2019، لم يعد قابلا للالتئام مجددا.
- ومع ذلك، لم تكن اتهامات “البرهان” للمكون المدني محض مبالغة. فخلال عمر الحكومة الانتقالية تعهدت النخبة المدنية المدعومة من الغرب تنفيذ إجراءات استئصالية ليس فقط تجاه رموز حكم “البشير”، ولكن توسعت لتطال رموز الحركة الإسلامية الواسعة، وكوادرها، ومؤسساتها الدينية والاجتماعية. وفي أحوال كثيرة، اتسمت هذه الإجراءات بطابع قمعي انتقامي شمل توقيف العشرات، وربما المئات، ومصادرة أموالهم دون تحقيقات أو إجراءات قضائية تتسم بالنزاهة. وتشير التقديرات غير الرسمية، إلى أن الأموال التي صادرتها لجنة إزالة التمكين تتجاوز مليار دولار. وفي الواقع عملت “لجنة إزالة التمكين”، التي تأسست في ديسمبر كانون أول 2019، كمدعي عام وقاضٍ وشرطي تنفيذي.
- ولم يقتصر منتقدو اللجنة على قادة الجيش وحزب “المؤتمر الوطني” (الحاكم سابقا)، بل اتهمها قادة مدنيون بأنها “تعمل على تصفية حسابات سياسية وشخصية”، مثل وزير المالية في الحكومة المنحلة “جبريل إبراهيم” القيادي بميثاق “التيار الوطني”، وحزبا “المؤتمر الشعبي” (أسسه الترابي)، و”الأمة” بزعامة “مبارك المهدي”. والكيانات الثلاثة هي جزء من ائتلاف “قوى الحرية والتغيير”، في دلالة حاسمة على أن الحكومة لم تعد تحظى بإجماع قوى الثورة.
- تؤكد التقارير، والمعلومات المتاحة لـ “أسباب”، بأن احتجاجات المؤيدين للجيش، في الأسابيع القليلة التي سبقت إجراءات “البرهان”، اتسمت بدرجة عالية من التخطيط والقدرة اللوجستية، مما يرجح أنها تضمنت دعما لوجستيا منظما، إما من الجيش نفسه أو من جهات سياسية أو قبلية متحالفة معه. كما كانت الحافلات تنقل الركاب من مناطق أخرى، بما في ذلك شرق السودان، إلى مواقع الاحتجاج، خاصة الاعتصام أمام القصر الرئاسي.
- عمل الجيش أيضا على تعبئة الانتقادات العلنية لنظرائه المدنيين في السلطة الانتقالية، وإظهار الحكومة في موقع العاجز عن السيطرة على البلاد. حيث قام ” مجلس نظارات البجا والعموديات المستقلة في شرقي السودان” (تحالف قبلي نافذ في شرق السودان، يُعتقد على نطاق واسع أنه خليف للجيش)، بحصار مستمر لأكثر من شهر للطرق والبنية التحتية الرئيسية في شرق السودان، بما في ذلك بورتسودان والطريق السريع بين الخرطوم وبورتسودان، رافعا مطالب جهوية وسياسية، أبرزها إلغاء مسار شرق السودان في مفاوضات جوبا، وحل الحكومة وتشكيل حكومة تكنوقراط غير حزبية. أدى هذا الحصار إلى خسارة تقدر بنحو 83 مليون دولار لاقتصاد السودان المتعثر بالفعل، بالإضافة إلى نقص السلع الأساسية، خاصة واردات الوقود والقمح والأدوية. بعد أيام قليلة من إعلان “البرهان” إجراءاته، أعلن “مجلس نظارات البجا” فتح موانئ شرق السودان والطريق إلى الخرطوم لمدة شهر عقب لقاء جمع قادته مع “البرهان”.
- على الرغم من المظاهرات المستمرة لقوى الحرية والتغيير للمطالبة بإعادة الحكومة المدنية، فإنه من المبالغة تصور أن السكان متحدين الآن كما كان موقفهم إزاء الاحتجاجات التي أطاحت بنظام “البشير”. حيث توحدت القوى الإسلامية خلال الأشهر الأخيرة على ضرورة إقالة الحكومة التي رأت أنها تشن حملة انتقامية ذات طابع أيديولوجي لا علاقة له بعملية تحول ديمقراطي حقيقي، خاصة مع إصرار القوى اليسارية والشيوعية التي هيمنت على الحكومة على تجاهل اتخاذ أي خطوات تفضي لإجراء انتخابات قريبة. كانت الرسالة التي فهمها الإسلاميون – سواء المرتبطون بحكم “البشير” مباشرة أو حتى الذي تظاهروا ضد حكمه – أن جدول أعمال القوى اليسارية والشيوعية لا يحمل أفقا للشراكة السياسية، وأن أولوية الحكومة هي التمكين لتيارها الأيديولوجي داخل مفاصل الحكم وليس التجهيز لإجراء انتخابات. وتشير المعلومات أنه حتى الجانب الأمريكي لم يكن متفائلا بفائدة نهج “قوى الحرية” الإقصائيّ تجاه عموم الإسلاميين.
- وبالإضافة إلى أن قوى الحرية والتغيير لم تكن تيارا موحدا خلف الحكومة المعزولة، فإن قبول “حمدوك” بالعودة لرئاسة الحكومة متعهدا بتشكيل حكومة تكنوقراط، وليس حكومة سياسية، من المتوقع أن يضيف المزيد من الانقسام داخل “قوى الحرية والتغيير”؛ لأن هذه الخطوة لا تحظى بالإجماع الكافي، وستضع “حمدوك” نفسه في مرمى غضب المجموعات السياسية التي كانت ممثلة في الحكومة السابقة. لا شك أن هذا الانقسام المدني يزيد من فرص الجيش ويقلل من الضغوط السياسية على قيادته.
التنافس الدولي على النفوذ يحد من الضغوط على الجيش
- وافقت الولايات المتحدة ومنظمات دولية، مثل صندوق النقد الدولي (IMF)، على استعادة العلاقات مع السودان فقط عندما تم تشكيل المجلس السيادي المشترك بين العسكريين والمدنيين. وعقب إجراءات “البرهان” بات من المحتمل قيام الولايات المتحدة وغيرها بإعادة فرض العقوبات على السودان، أو في الحد الأدنى تعليق مبادرات تخفيف الديون وتقديم الدعم المالي. بعد فترة وجيزة من محاولة الانقلاب الفاشلة في سبتمبر/أيلول، أكد المبعوث الأمريكي إلى القرن الأفريقي، “جيفري فيلتمان”، أن أي انحراف عن الانتقال إلى الحكم المدني سوف “يعرض للخطر علاقة السودان الثنائية مع الولايات المتحدة، بما في ذلك المساعدة الأمريكية الكبيرة”. ثم أعلنت الولايات المتحدة في 18 أكتوبر/ تشرين الأول أن جميع المساعدات العسكرية للسودان يجب أن يوافق عليها مجلس الوزراء المدني.
- لذلك، وعقب إجراءات 25 أكتوبر/تشرين الأول، علقت الولايات المتحدة 700 مليون دولار من المساعدات للسودان؛ وفي 27 أكتوبر/تشرين أول، أعلن البنك الدولي تعليق جميع المساعدات للسودان. حاليًا، يحتفظ البنك الدولي بمحفظة بقيمة 2.3 مليار دولار عبر مجموعة من القطاعات في البلاد.
- في أعقاب ما اعتبرته رسميا “الانقلاب العسكري” في 25 أكتوبر / تشرين الأول، ردت القوى الغربية والمؤسسات الدولية بإدانة شديدة ولوحت بعواقب مالية واسعة. والحقيقة أن الجنرال “البرهان” ربما فوجئ بمستوى التعبئة الغربية تجاه خطوة إقالة الحكومة، والتصريحات شبه اليومية من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والمؤسسات الغربية التي سعت لوضعه تحت ضغط مستمر لإجباره على إعادة الحكومة المدنية والإفراج عن “حمدوك”، خاصة بعد أن رهنت أي خطوة تتعلق بإلغاء الديون أو حتى تقديم المعونات الاقتصادية بوجود الحكومة المدنية. ولا شك أن هذا لعب دورا مباشرا في حرص “البرهان” على سرعة التفاهم مع “حمدوك”؛ غير أن هذا التفاهم لم يمثل تراجعا جذريا عن ميزان القوى الجديد الذي كرسه الجيش.
- لكن من المهم كذلك وضع الضغوط الأمريكية في إطارها المحدد دون سقف توقعات عالية. في الحقيقة لن يمثل السودان استثناءً من البراغماتية الأمريكية في المنطقة. فعلى الرغم من الالتزام الذي توليه إدارة “بايدن” بمسألة الحريات والحكم الديمقراطي في المنطقة مقارنة بإدارة “ترامب”، إلا أن تحليل السياسة الأمريكية تجاه مصر والسعودية والإمارات يؤكد أن اعتبارات الأمن القومي وحرص واشنطن على بقاء الشراكة الأمنية مع حلفائها دائما تأتي أولا. تسعى واشنطن للاعتماد أكثر على حلفائها في المنطقة لضمان مصالحها في ظل تنامي التنافس مع النفوذ الروسي والصيني. من هذه الزاوية، ليس من المرجح أن تتنازل واشنطن بسهولة عن تعزيز نفوذها في السودان ما بعد “البشير” خوفا من أن تلجأ الخرطوم للمعسكر الآخر بحثا عن الحماية، خاصة وأن موسكو بالفعل تسعى لتحقيق تواجد استراتيجي في ميناء بورتسودان، بينما ترك قادة الجيش الاتفاقية معلقة، حتى الآن، فيما يبدو كنوع من المساومة مع واشنطن.
- وفي الواقع لم تكن روسيا بعيدة عن المشهد؛ فقد منعت موسكو مجلس الأمن من “إدانة الانقلاب العسكري في السودان”، كما اتهمها المبعوث الأمريكي “فيلتمان” بأنها “تبارك الانقلاب العسكري”. وكان واضحا في المقابل أن إعلان “البرهان” قراراته بعد ساعات من لقائه “فيلتمان” في الخرطوم متجاهلا تحذيراته، يؤكد أن واشنطن لا تتمتع بالنفوذ الكافي للتحكم في التطورات في السودان وأن الجيش رغم الضغوط الاقتصادية يراهن على حسابات أوسع.
- أعلن “البرهان” قراراته في الوقت الذي كانت فيه فرنسا تسعى لدفع علاقاتها بالسودان إلى الأمام. حيث تسعى باريس، مثل لندن وواشنطن، للحصول على موطئ قدم في السودان. وحتى صباح الإثنين 25 أكتوبر/تشرين الأول، كانت فرنسا تعتقد أن بإمكانها الاعتماد على هذا الجيب الجديد من الاستقرار في المنطقة بعد أن تعرضت لخيبة أمل سابقة مع إثيوبيا التي صاغت باريس معها اتفاقية عسكرية في عام 2020 قبل أن تغرق البلاد في الحرب الأهلية في نوفمبر الماضي. أي أن السودان هو ثاني حليف مفترض لباريس في شرق إفريقيا يقع في فترة من الاضطرابات الكبيرة.
- اقتصاديا، كان من المقرر عقد منتدى اقتصادي فرنسي سوداني في العاصمة السودانية يومي 23 و24 نوفمبر، يضم وزير التجارة “فرانك ريستر”، برفقة وفد من اتحاد أرباب العمل الفرنسي. وكان من المقرر أن يشارك في المنتدى مجتمع الأعمال المحلي. وبالإضافة للحديث حول اتفاقية إلغاء الديون، يعكس هذا التحرك رؤية الرئيس الفرنسي أنه توجد فرصة لإقامة علاقات اقتصادية وثيقة مع بلد يحتاج (إعادة) بناء كل شيء.
- وفي الجانب الأمني، وقبل 10 أيام فقط، التقى رئيس جهاز المخابرات العامة السودانية، “جمال عبد المجيد”، وكبار مسؤولي المخابرات العسكرية ووزارة الدفاع في باريس مع نظرائهم من DGSE (المديرية العامة للأمن الخارجي)، جنبًا إلى جنب مع مسؤولين من مديرية إفريقيا والمحيط الهندي (DAOI) بوزارة الخارجية الفرنسية. بالإضافة إلى ذلك، تخطط باريس لإحياء التعاون العسكري. فقد كان قائد القوات الفرنسية المتمركزة في جيبوتي، الجنرال “ستيفان دوبون”، يضع اللمسات الأخيرة على رحلة إلى الخرطوم لمدة 48 ساعة، تأجلت حاليا لأجل غير مسمى، لبحث استئناف محتمل للتعاون العسكري بين البلدين، وكان من المقرر أن يلتقي بعدد من القيادات العسكرية السودانية، مثل رئيس الأركان “محمد عثمان الحسين”، وربما “البرهان” نفسه.
- بصورة عامة، يمثل الترحيب الغربي باتفاق “البرهان-حمدوك” إقرارا ضمنيا بحدود النفوذ الغربي، والقبول ببقاء نفوذ الجيش. ولكن لا يعني هذا أن “البرهان” وقيادة الجيش في وضع غير قابل للتحدي؛ حيث مازال بإمكان الولايات المتحدة وفرنسا ممارسة ضغوط أكثر تأثيرا من خلال الضغط على حلفائهم الإقليميين المقربين من “البرهان”، خاصة السعودية والإمارات ومصر و”إسرائيل”. ونظرا للتحديات الاقتصادية الواسعة، والاستقرار الداخلي الهش عموما، فإن قيادة الجيش لن تكون قادرة على إدارة ظهرها للجميع إذا تبنوا أجندة موحدة.
ترويض الضغوط الغربية بتحالفات إقليمية
- في المقابل، كانت استجابة حلفاء الجيش السوداني الإقليميين متواضعة. ويُعتقد على نطاق واسع أن “البرهان” ما كان ليخطو خطوته دون ضمان توفر دعم إقليمي كافٍ كي لا تقع البلاد مجددا تحت العزلة الدولية. بصورة خاصة، كان واضحا أن القاهرة في الحد الأدنى تم إخطارها خاصة عقب كشف تقارير عن زيارة سرية قام بها “البرهان” لمصر عشية يوم 25 أكتوبر/تشرين الأول. وبصفتها الجار الشمالي للسودان، تستثمر مصر في نتائج الانقلاب، نظرًا لخطر أي عدم استقرار يمتد عبر حدودها التي يبلغ طولها 793 ميلًا (1.276 كيلومترًا) مع السودان. الصراع الإقليمي حول سد النهضة الإثيوبي الكبير، سيجبر القاهرة أيضًا على البقاء على علاقة جيدة مع الخرطوم. بالإضافة إلى ذلك، أكمل اللواء برهان عدة سنوات من التدريب العسكري في مصر ويحافظ على علاقات وثيقة مع العديد من كبار المسؤولين المصريين.
- كذلك، فإن “إسرائيل” بعيدة كل البعد عن كونها مجرد متفرج بريء. حيث بات محتملا أن المسؤولين “الإسرائيليين” كانوا على علم بتحركات الجيش السوداني، بعد الكشف عن زيارة وفد أمني “إسرائيلي”، ضم ممثلين عن الدفاع والموساد، للخرطوم في أعقاب إجراءات الجيش لإجراء محادثات حول مواضيع غير محددة. وكان من اللافت أن المسؤولين “الإسرائيليين” أكدوا هذا التقرير، الذي ظهر أصلا في صحيفة سودانية، وكان من الممكن نفيه بسهولة، أو يرفضون التعليق عليه. وهو موقف يعكس رغبتهم في إثبات استعداد قادة الجيش السوداني للاستمرار في التعاون مع “إسرائيل” بشأن الاحتياجات الأمنية الحيوية، كما يعكس حرص “إسرائيل” على إظهار نفوذها الذي يمكن أن تمارسه في السودان، لإثبات فائدتها لحلفائها الأمريكيين إذا رغبوا في ذلك.
- وحتى حلفاء السودان في الخليج، السعودية والإمارات، اللتان انضمتا لبيان شكلي مع الولايات المتحدة وبريطانيا يدعو إلى “الاستعادة الكاملة والفورية للحكومة والمؤسسات الانتقالية بقيادة مدنية”، إلا أن هذا الموقف تم تفسيره أكثر كاستجابة لضغوط أمريكية دون أن يعني فعليا تخلي الرياض وأبوظبي عن علاقاتهما الوثيقة بقادة الجيش في السودان.
- وبشكل عام، فإن المملكة العربية السعودية ومصر والإمارات العربية المتحدة أكثر ارتياحا مع الحكومات العسكرية، ويرون أن القيادة القوية من أعلى إلى أسفل أمر بالغ الأهمية للحفاظ على الاستقرار، وضمان استمرار السياسات والالتزامات الأمنية والسياسية، خاصة مع وجود 570 قبيلة، و57 مجموعة عرقية و114 لغة محكية ومكتوبة، ما يجعل السودان دولة معقدة ومتشظية،
- وبالإضافة للشراكة العسكرية السودانية مع السعودية، تمتلك كل من دولة قطر والإمارات العربية المتحدة مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية السودانية للحماية من نقص الغذاء. كما تستثمران في مشاريع البنية التحتية السودانية. وفي حين أن دول الخليج الثرية هذه لا تستطيع تعويض خسائر الخرطوم في حال عدم إعفائه من الديون الغربية، لكن يمكن لهذه الدول دعم البنك المركزي السوداني بالأموال للمساعدة في معالجة أزمة السيولة في السودان وتقديم الوقود بأسعار مخفضة. وتفترض بعض التقديرات أن تلكؤ السعودية والإمارات في الوفاء بتعهداتهما دعم الاقتصاد السوداني بملغ 3 مليار دولار عقب الإطاحة بالبشير، أمر مقصود لزيادة الأعباء والضغوط على حكومة “حمدوك” وإضعافها، من أجل دعم موقف قادة الجيش.
- وتبدو التشابكات الاقتصادية بين الجيش وكل من السعودية والإمارات أكثر عمقا؛ حيث قال وزير المالية السوداني “إبراهيم البدوي”، وهو مسؤول سابق بالبنك الدولي، قبل أسابيع من استقالته من منصب في يونيو/حزيران 2020، إن الجيش يستولي على عائدات تصدير اللحوم إلى السعودية؛ كما أن شركة مقرها سويسرا تجمع عائدات البلاد من الطيران المدني، وتحولها إلى حساب في الإمارات. وأكد “البدوي” أن ما يقرب من 200 شركة يسيطر عليها الجيش مع عائدات تقدر بنحو 2 مليار دولار، والتي ينبغي أن تتدفق إلى خزائن الدولة، لا تزال خارج اختصاص وزارته.
خاتمة
- مع هيمنة الجيش السياسية والاقتصادية، والدعم الإقليمي الذي يحظى به، لا يكفي الدعم الغربي لقوى مدنية منقسمة وغير موحدة لإثارة التفاؤل حول قرب تأسيس نظام حكم يقوم على المشاركة السياسية والتداول السلمي للسلطة والعدالة والاجتماعية.
- ومن المبالغة تصور أن الاحتجاجات الشعبية الرافضة لعزل الحكومة تعبر عن ولاء دائم لمجموعات سياسية أو أيديولوجية معينة، بقدر ما تعكس استمرار الإحباط الشعبي نتيجة تفاقم الضغوط الاقتصادية والاجتماعية والتي كانت المحرك الأساسي لاحتجاجات عزل “البشير”. وبالنظر لتحالف قوى سياسية مع الجيش، فإن معادلة الشارع كما ظهر خلال شهر أكتوبر/تشرين أول الماضي، بات من الممكن استخدامها من قبل مؤيدي الجيش ومعارضيه على حد سواء، وهو ما يزيد من تعقيد المشهد السوداني.
- المصالح المتنافسة للدول الأجنبية في السودان تلعب بصورة أكبر لمصلحة الجيش. ولن تكون الضغوط الاقتصادية والإدانات الخطابية من المؤسسات الغربية كافية لقلب موازين القوى مجددا. ومن المرجح أن مصر ودول الخليج، وحتى تركيا، ستحافظ على علاقات وثيقة مع الجيش السوداني باعتباره الطرف الأكثر نفوذا وهيمنة على السلطة في البلاد خلال المستقبل القريب.
- وهذا يعني على الأرجح عدم إمكانية استعادة الوضع السابق على قرارات “البرهان”. فمن الواضح تماما أن تحرك العسكريين يوم الاثنين، 25 أكتوبر/تشرين الأول، صنع توازن قوى جديدًا في العلاقة بين العسكريين والمدنيين، يعطي أفضلية حاسمة للجيش خاصة مع وجود قاعدة مدنية موالية للجيش.
المصادر
Africa Intelligence. (2021, October 26). The shadow of Sisi lurks over Khartoum.
Africa Intelligence. (2021, October 27). Al-Burhan’s coup d’état comes at the worst time for Paris.
Boudiaf, J. (2021, October 22). Anti-government protests in Sudan likely orchestrated by military; intended to draw concessions but unlikely to initiate coup. iHs Matkit.
Dorsey, J. M. (2021, November 3). Sudan and the UAE: Pulling Sudanese strings. Eurasia Review.
Soliman, A. (2021, November 11). Reversing the military coup in Sudan. Chatham House.