تعد مساحة روسيا الجغرافيا ميزة وعيبا في الوقت نفسه بالنسبة لموسكو. إذ لا تتمتع أراضيها بحمايةٍ طبيعية ولا توجد جبال أو بحار أو صحار تفصل نواتها السكانية الرئيسية عن خصومها، وللحفاظ على تماسك جغرافية البلاد، تستخدم روسيا القوة. فيمكن القول إن حجم جيش روسيا الدائم وأجهزة استخباراتها يجب أن يتناسب بطبيعته مع مساحة أراضيها.
لكن كيف تطوّرت آلة الدولة الروسية ولماذا كان الاستبداد جزءٌ لا يتجزأ من جغرافية روسيا؟
منصة أسباب وبالشراكة مع Caspian Report، تقدم لكم في هذا الفيديو شرحا وإجابة لهذه الأسئلة.
سياسة القوة الناعمة الروسية منذ القرن 14؟
كانت الحياة قاسيةً خلال القرن الرابع عشر وخاصةً في أنحاء دوقية موسكو الكبرى، لم تكن هناك سوى سلعتين قابلتين للتداول التجاري وهما الفراء والعبيد.
- الغزو المغولي لكييف حرم دوقية موسكو من الوصول إلى سوق الرقيق في البحر المتوسط
- أصبحت الفراء هي سلعة التصدير الوحيدة المتاحة
- توسعت دوقية موسكو شمالاً من أجل الهيمنة على تجارة الفراء
- زرعت الدوقية مبعوثيها في بلاطات الأقاليم المجاورة ليشكلوا المكاتب الائتلافية التي جرى ضمها دبلوماسياً في وقتٍ لاحق
- استغرق تكوين سياسة القوة الناعمة أكثر من قرنٍ كامل
- امتثلت لها بالتدريج البطيء مختلف مدن القرون الوسطى مثل سكوف ونوفغورود وسمولينسك وفيازما
من تجارة الفراء إلى الزراعة
بعد دمجها لآخر الأراضي السلافية القريبة عام 1480 حولت دوقية موسكو أنظارها صوب الأراضي الخصبة جنوباً.
- كانت الأراضي الخصبة تحكمها خانية القبيلة الذهبية (مغول القفجاق)
- دوقية موسكو كانت بحاجةٍ إلى الزراعة لزيادة مساحتها وقوتها ولتكون من القوى الكبرى
- تعيّن على موسكو الإطاحة بالقبيلة الذهبية لتحقيق ذلك الغرض
- ظهرت عدة ممالك جديدة في مكانها ومنها خانيات قازان وأستراخان والقرم وسيبير
- تحرك مبعوثو موسكو وتسللوا إلى بلاطات الممالك التترية
- سّعت دوقية موسكو نفوذها داخل بلاطات التتار:
- عملت ببطء على تقويض قواهم السيادية
- تخصيص المناطق
- تعيين القضاة
- إضعاف دفاعاتهم الاستراتيجية
- قررت في النهاية أن تقضي على حكمهم الذاتي
- ذبحت السكان المدنيين
- غزت خانية قازان التترية عام 1552 لتتحول إلى إمبراطورية متكاملة
منحت السيطرة على قازان دوقية موسكو الفرصة للتوسع في اتجاه مصب نهر فولغا وصولاً إلى البحر الأسود وبحر قزوين، كما منحتها التوسع في اتجاه منبع نهر كاما وصولاً إلى جبال الأورال، لكن سلطة النظام الملكي ازدادت مركزية بالتزامن مع تحول دوقية موسكو إلى روسيا مما كبّد السكان المدنيين تكلفة باهظة إذ قرر القيصر إيفان الرهيب تأسيس جهاز الأوبريتشنيكي عام 1565 من أجل مراقبة طبقة النبلاء.
ما هو جهاز الأوبريتشنيكي؟
- أول جهاز شرطة سياسية في تاريخ روسيا
- هدفه تقويض نفوذ النبلاء والتحكم في طرق التجارة الجديدة التي تمر عبر قازان
- كان يجري القضاء على أي شخص أو عائلة تمثل تهديداً ولو بسيطاً
- أظهر الجهاز كفاءةً كبيرة في ترهيب السكان لدرجة أن القادة الروس اللاحقين استمروا في الاعتماد عليه
نمو روسيا.. أعداء جدد من الخارج
بينما انتقل مركز الجاذبية الاقتصادية لروسيا إلى الجنوب والشرق، شهدت الشرطة السياسية عمليات إصلاح وتوسع، تحولت الشرطة إلى قوةٍ لا غنى عنها في الحفاظ على تماسك الإمبراطورية، بين عامي 1551 و1700 زادت مساحة روسيا بمقدار 35,000 كم سنوياً. لكن نمو روسيا أكسبها الكثير من الأعداء الجدد على مختلف الجبهات مثل السويديين والبولنديين والبروسيين والألمان غرباً ووصولاً إلى الأتراك والتتار والقوزاق وقبائل القوقاز جنوباً، كانت روسيا معرضةً بشدة لخطر الغزو الأرضي المنسق وخاصةً لأن غالبية أراضيها مسطحة، لهذا عاشت روسيا حالة حرب شاملة في الفترة اللاحقة وحاربت ضد القوى المنافسة في مختلف الاتجاهات.
إقرأ أيضاً:
هل تبدأ روسيا ضم الأراضي الأوكرانية المحتلة؟ خطة موسكو الجديدة لأوكرانيا
عقيدة بوتين الجديدة لسياسة روسيا الخارجية تمهد لمزيد من التدخلات العسكرية
3 أهداف تبرر الغزو الروسي لأوكرانيا؟
هل تسير روسيا على طريق الهزيمة الاستراتيجية في حربها ضد أوكرانيا؟
مجموعات عرقية ودينية.. عوائق روسيا في الداخل
ازداد أمان روسيا مع اتساع مساحتها لكن العائق الذي لم يكن في الحسبان هو مجموعات عرقية ودينية مختلفة من السكان كانت تعيش في الأراضي الجديدة في الجنوب والشرق وهم ممن لا يدينون بالولاء للقيصر.
- استغلت القوى المنافسة ولاء تلك الأقليات مراراً
- حاولت روسيا إعادة تشكيل تركيبتها الدينية والعرقية عن طريق التهجير الجماعي، والإبادة الجماعية، وبرامج الاستيعاب الثقافي
- ظلت عاجزةً عن محو أو تهدئة السكان الأصليين بصورةٍ كاملة
- لجأ الروس إلى تخفيف المخاطر وفرض سلطتهم على المناطق الجديدة بتحويل الشرطة السياسية إلى شبكةٍ أمنية ضخمة (شبكة استخبارات)
- منحتها قدرات ومسؤوليات أكبر بصورةٍ متزايدة
- قوات البريكاز في القرن السابع عشر
- قوات الأوخرانا في القرن التاسع عشر
- لجنة أمن الدولة (كي جي بي) في القرن العشرين
- شبكة الاستخبارات أصبحت من المقومات الأساسية التي حافظت على تماسك روسيا
عملية تحول ديمقراطي
لم يشهد تاريخ روسيا القمعي أي تغيير باستثناء فترة وجيزة في التسعينيات، عندما قاد آخر الزعماء السوفييت ميخائيل غورباتشوف عملية تحول ديمقراطي بالتعاون مع أول رؤساء روسيا بوريس يلتسن، تخلى الكرملين عن احتكاره للسلطة السياسية وبدأ الروس في تولي زمام السيطرة على حياتهم لكنهم لم يشعروا بالحرية، بل هيمن الإحساس بالضياع على العقلية الوطنية حيث إن التحول الفوضوي من اقتصادٍ تحكمه القيادة الشيوعية إلى نظامٍ تحكمه السوق الرأسمالية الحرة لم يراعِ أوضاع قطاعات كبيرة من الشعب الروسي.
- انزلق الملايين في هوة الفقر
- ساءت الأوضاع بشدة لدرجةٍ دفعت ائتلافاً من القوميين والشيوعيين إلى الثورة ضد الإصلاحات الاقتصادية عام 1993
- نشأت أزمةٌ دستورية بين الرئيس والبرلمان
- سعى يلتسن لحل البرلمان من أجل تمرير إصلاحاته الاقتصادية
- رد البرلمان بإبطال قرار يلتسن وعزله من منصبه
- بدأت مقاطعات البلاد الواعية تزيد ضغطها من أجل الحصول على سيادةٍ أكبر بعيداً عن الكرملين
- كانت روسيا تتألف آنذاك من عشرات المناطق الفيدرالية التي تشمل جمهوريات، ومناطق ذاتية الحكم، وأقاليم تسكنها أعراق مختلفة
- أعلنت منطقة الشيشان الصغيرة في جنوب روسيا استقلالها التام
تسارعت وتيرة الأحداث بشدة، ليعُم القلق أروقة الكرملين. إذ تفكك الاتحاد السوفيتي قبلها بسنوات إلى 15 جمهورية، لكن يبدو أن الديمقراطية التي منحت الحقوق للأقليات بدأت تدفع بروسيا إلى مرحلة تفكك جديدة حيث أصبحت 21 جمهورية، وأربع مناطق حكم ذاتي، وتسع مقاطعات على حافة الانفصال، وأصبح بقاء روسيا ذاتها عرضةً للخطر، كان بإمكان روسيا اللجوء إلى الديمقراطية نظرياً ولكن ليس بتركيبتها الإقليمية القائمة.
وصار على روسيا الاختيار بين الأمن والأراضي من ناحية وبين الحرية والازدهار من ناحيةٍ أخرى.
- عاد الكرملين إلى عادته القديمة واختار الأمن والأراضي
- بدأ يلتسن يحصّن سلطاته التنفيذية عن طريق معاودة استخدام العنف الجماعي كوسيلةٍ للتنظيم السياسي
- قصف البرلمان ثم أمر بالغزو الوحشي للشيشان
- سلّم يلتسن الراية بعدها إلى خليفته المختار بوتين
- أصبح يُنظر إلى الديمقراطية باعتبارها هيكل تنظيم سياسي شديد الخطورة
- ابتكر بوتين ديمقراطيته السيادية الخاصة
- تمتع النظام السياسي الجديد بكافة مزايا الديمقراطية ومنها:
- البرلمان المؤلف من مجلسين
- المحكمة العليا
- مجموعة من الأحزاب السياسية
لكن نظام بوتين سمح عملياً لحزب روسيا الموحدة الحاكم أن يتولى الدور نفسه الذي لعبه الحزب الشيوعي في الحقبة السوفيتية، ويمكن القول إن ديمقراطية السلطة العليا نجحت في استمالة حنين الشعب إلى ماضيه الإمبراطوري لأنها انطوت على فرض الهيمنة على الآخرين.
وفي مواجهة شبح الأوجاع الوهمية لمرحلة ما بعد الإمبراطورية تشكّلت قناعة لدى القيادة الروسية ولدى أنصار القومية والشيوعية والأوراسية وحتى المحافظين والليبراليين بأن الديمقراطية ذات الطابع الغربي مستحيلة على أرض روسيا.