الاتفاق الإطاري في السودان لا يبشر بنهاية قريبة لفوضى المرحلة الانتقالية
سياقات - ديسمبر 2022
تحميل
الإصدار
الحدث
وقّع المكون العسكري السوداني مع قوى مدنية، على رأسها “تحالف الحرية والتغيير – المجلس المركزي” اتفاقا إطاريا في 5 ديسمبر/كانون أول لإدارة مرحلة انتقالية لمدة عامين تبدأ مع تعيين رئيس وزراء، استجابة لضغوط الآلية الرباعية (المكونة من الولايات المتحدة الأمريكية- بريطانيا- الإمارات- السعودية) بالإضافة لضغوط ألمانية وفرنسية، و”الاتفاق الإطاري” هو مرحلة أولى سيتبعه مرحلة ثانية تشمل اتفاقا نهائيا بين المدنيين والعسكريين.
أهم بنود الاتفاق
- من أهم البنود التي تضمنها الاتفاق الإطاري، أن السلطة الانتقالية “مدنية” دون مشاركة القوات النظامية (الجيش والدعم السريع والمخابرات العامة والشرطة)، وينأى الاتفاق بالجيش عن السياسة، ويحظر على القوات النظامية الأعمال الاستثمارية والتجارية ما عدا التي تتعلق بالتصنيع الحربي أو المهام العسكرية وتكون خاضعة لإشراف وزارة المالية، وتؤول جميع الشركات التي تعمل في قطاعات مدنية إلى الوزارة.
- يحصر الاتفاق مهام جهاز المخابرات في جمع المعلومات وتحليلها وتقديمها للجهات المختصة، ولا تكون له سلطة اعتقال أو احتجاز، ويتبع لرئيس الوزراء، الذي يعين المدير العام للجهاز ونوابه، كما عرف الاتفاق “قوات الدعم السريع”، بأنها تشكيلات عسكرية تتبع القوات المسلحة، ويكون رأس الدولة قائدًا أعلى لها، موضحًا أنه ضمن خطة الإصلاح الأمني والعسكري التي ستقود إلى جيش مهني قومي واحد، سيتم دمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة وفق الجداول المتفق عليها.
- وبحسب الاتفاق أيضا؛ تتكون هياكل السلطة الانتقالية من (المجلس التشريعي الانتقالي، المستوى السيادي الانتقالي، مجلس الوزراء الانتقالي، المجالس العدلية والمفوضيات المستقلة)، ففي المستوى السيادي تقوم قوى الثورة الموقعة على الإعلان السياسي بالتشاور لاختيار مستوى سيادي مدني محدود بمهام شرفية يمثل رأسا للدولة ورمزا للسيادة وقائدا للأجهزة النظامية.
- أرجأ الاتفاق الإطاري 4 قضايا إلى مرحلة الاتفاق النهائي، وهي العدالة والعدالة الانتقالية، الإصلاح الأمني والعسكري، اتفاق جوبا واستكمال السلام، وإعادة لجنة إزالة التمكين لتفكيك نظام “البشير”.
التحليل: الاتفاق الإطاري يتجاهل ميزان القوى بين الجيش والقوى السياسية
- مضى قرابة عام على انفراد المكون العسكري بالحكم بالسودان في 25 أكتوبر/تشرين أول 2021، سبقه قرابة عامين ونصف من الشراكة الهشة مع المكون المدني لإدارة مرحلة انتقالية في السودان، أدارت خلاله القوى الدولية عبر الآلية الثلاثية (بعثة الأمم المتحدة يونيتامس، والاتحاد الإفريقي، والهيئة الحكومية للتنمية في شرق إفريقيا إيغاد)، حوارًا بين المدنيين والعسكريين لبحث إعادة الشراكة مرة أخرى، وهو ما انتهى في يوليو/تموز 2022 بانسحاب العسكريين من هذا الحوار تاركين الأمر للقوى المدنية ليتفقوا فيما بينهم.
- بعدما ألقى العسكريون الكرة في ملعب المدنيين، أصبح التشرذم أكثر مما مضى، وانقسمت القوى المدنية بين من يرون بضرورة التعاون مع الجيش للخروج من المأزق، ومن يرون تنحية الجيش عن الحكم بشكل كامل. ففي سبتمبر/أيلول الماضي، طرحت اللجنة التسييرية لنقابة المحامين وثيقة “مشروع الدستور الانتقالي“، وتبنتها المجموعة الرباعية، وقبلت قوى “إعلان الحرية والتغيير – المجلس المركزي” التفاوض حولها مع المكون العسكري من أجل الوصول إلى تسوية سياسية، أفضت إلى توقيع الاتفاق الإطاري، في ظل ضغوط الآلية الرباعية الاقتصادية والسياسية على العسكريين لتقديم تنازلات والقبول بالشراكة مع المدنيين.
- لكنّ الاتفاق لا يقدم معالجة منطقية للأوضاع في السودان؛ فبالنظر إلى موازين القوى الداخلية، يظل الجيش السوداني هو الفاعل الرئيسي والأقوى في البلاد، بينما المكونات المدنية التي وقعت على الاتفاق الإطاري هى أضعف الكيانات المدنية الموجودة، وغير منسجمة مع بعضها، ولا تحظى بقاعدة شعبية كافية لمعادلة نفوذ الجيش. لذلك؛ تراهن هذه القوى بصورة متزايدة على الضغوط الخارجية على قادة الجيش، وهو رهان أثبت الجيش في مناسبات سابقة قدرته على الالتفاف حول هذه الضغوط من خلال علاقات متنوعة مع الأطراف الإقليمية الفاعلة.
- وحتى قبل أيام من الاتفاق؛ صرح قائد الجيش “عبد الفتاح البرهان” أن التدخل في شؤون الجيش خط أحمر ولن يسمح به، وهو أمر لا يقتصر ضمنا على شؤونه العسكرية الاحترافية، ولكن من المفهوم أنه يشمل النفوذ السياسي والاقتصادي. كما أن بعض البنود التي تضمنها الاتفاق تواجه تحديات من المتوقع أن تعيق تنفيذها؛ فلا قوات الدعم السريع ستقبل بالحد من نشاطها وإنهاء استقلالها عن الجيش، ويعزز من ذلك توقيع “البرهان” ونائبه “حميدتي” على الاتفاق كل على حدا، مما يشير إلى أن قوات الدعم السريع طرف مستقل في هذا الاتفاق وغير تابعة للجيش، كما أن المخابرات العامة لا يتوقع أن تتجاوب بسهولة مع تقليص نفوذها وسحب أدوات قوتها.
- وعلى الجانب الآخر؛ تم توقيع الاتفاق بسرعة من دون انتظار موافقة العديد من القوى الرئيسية بالبلاد، وهو الأمر الذي سيفضي على الأرجح إلى استمرار الاضطراب السياسي والأمني، وسيعيق عمل أي حكومة انتقالية مقبلة؛ حيث رفضه “قوى الحرية والتغيير – التوافق الوطني”، والحركتان المسلحتان الرئيستان، حركة العدل والمساواة برئاسة وزير المالية “جبريل إبراهيم”، وحركة تحرير السودان برئاسة “أركو مناوي حاكم”، وشيخ قبائل الهدندوة والبجا في شرق السودان “محمد الأمين ترك”، وعدد من لجان المقاومة الشعبية والحزب الشيوعي، وقطاعات واسعة من الإسلاميين على رأسهم المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية وطرق صوفية وشيوخ قبائل، بينما وافقت أنصار السنة المحمدية والمؤتمر الشعبي.
- وأيضاً رفض الاتفاق جناح من الطائفة الختمية بزعامة “محمد عثمان الميرغني” الذي عاد من مصر مؤخراً بعد انقطاع عن السودان لمدة 9 سنوات، مما يعكس حقيقة الموقف المصري من الاتفاق نظراً لما يتمتع به “الميرغني” من علاقات وثيقة بالمصريين. فمن المعروف أن حكومة الحرية والتغيير السابقة، والتي ستشكل الحكومة الانتقالية المنتظرة امتدادا لها، لم تكن على وفاق كامل مع سياسات مصر خاصة فيما يتعلق بالموقف من سد النهضة والنزاع حول السيادة على مثلث حلايب وشلاتين. وهو ما عبر عنه الموقف الرسمي المقتضب الذي صرح به مساعد وزير الخارجية المصري لشؤون السودان، حسام عيسي، عقب الاتفاق، عن حياد القاهرة تجاه كافة الأطراف السودانية وتطلعها لأن تسفر الجهود الدولية عن “اتفاق شامل” بينهم، في إشارة ضمنية لعدم تمتع الاتفاق الإطاري بهذه الصفة.
- وعلى الجانب الآخر؛ فإن استمرار الأزمة وإطالة أمدها، قد يهدد تماسك ووحدة السودان؛ فقد تعيد كيانات غرب السودان طرح موضوع الانفصال مجدداً، كما أن الشرق سيتجه نحو التصعيد الذي ظهرت بوادره خلال الشهر الماضي بإعلان أمانة مجلس نظارات البجا، تفعيل “حق تقرير المصير”، وتنصيب نفسها حكومة مؤقتة للإقليم، كما سيدفع كيانات في الوسط والشمال للدفاع عن نفسها خاصة بعد تنامي الشعور بأن الطريق الوحيد للحصول على الحقوق هو في رفع السلاح في وجه القوات المسلحة، وهو ما تعزز مع إعلان مجموعة من العسكريين المتقاعدين بإقليم الوسط عن تشكيل تنظيم سياسي عسكري تحت مسمى “قوات كيان الوطن”، حيث قالوا: إنه يهدف لخلق توازن في القوى المسلحة وتحقيق العدالة الاجتماعية.
الخلاصة
- الأزمة في السودان عميقة ومتجذرة، ومن المرجح ألا يفضي الاتفاق الإطاري إلى حل ملموس لها في المدى القريب، في ظل أنه يبدو قاصرا عن التعامل مع التعقيدات القبلية والسياسية والأمنية وما يرتبط بها من مساحات نفوذ فعلية. وفي الواقع جاء الاتفاق بصورة كبيرة مدفوعاً بالاستجابة لضغوط خارجية، تحركها دوافع خاصة مرتبطة بالرغبة في إبعاد الإسلاميين عن المعادلة السياسية، وهو ما حال دون تمتع الاتفاق بإجماع سياسي داخلي أوسع.
- على الرغم من الدعم الإقليمي والغربي للاتفاق الإطاري، إلا أن الطريق إلى اتفاق نهائي يحمل نفس مضامين الاتفاق الإطاري ما زال غير مرجح في المدى القريب؛ خاصة وأنه يضع القوى السياسية في مواجهة بعضها البعض ويكرس لانقسام دائم ومتزايد بين كافة المكونات اليسارية والإسلامية التي لم يتوحد أي منها بصورة كاملة حول الموقف من التوقيع علي الاتفاق، كما أنه يعيد التأكيد على إجراءات “إزالة التمكين” التي استهدفت إقصاء الإسلاميين عموما، ومن ثم تبدو القوى السياسية متصارعة ومشتتة في مواجهة غير واقعية وغير متكافئة مع نفوذ الجيش.
- على الرغم من وضوح الاتفاق فيما يتعلق بحدود دور الجيش، إلا أنه من غير المتوقع أن يؤدي في المدى القريب إلى الحد من نفوذه السياسي أو الاقتصادي، خاصة في ظل انقسام القوى السياسية وصراعها، وفي ظل ما أظهره قادة الجيش من القدرة على الاستفادة من تعارض وتنوع مصالح الأطراف الخارجية؛ فخلال الفترة الماضية عزز “البرهان” الشراكة مع مصر، ووقع اتفاقا استثماريا استراتيجيا مع الإمارات لتطوير ميناء “أبو عمامة” السوداني، فضلا عن تصاعد الاتصالات مع “إسرائيل”.
- وحتى مع الضغوط الغربية، حرصت الولايات المتحدة على إعادة تعيين سفيرها لدى الخرطوم رغم غياب حكومة مدنية، حرصا على الموازنة بين ممارسة الضغوط على العسكريين وفي نفس الوقت ضمان ألا تدفعهم لمزيد من الاعتماد على روسيا والصين أمنيا واقتصاديا. أي أن الاتفاق في الأجل القصير يخدم توجهات أطراف مثل الولايات المتحدة وأوروبا والسعودية والإمارات و”إسرائيل”، بينما يثير تحفظ مصر ويشير لاستمرار غياب الدور الروسي.